في التاسع من أغسطس/آب عام 1942، كان الحزب الألماني النازي يستعد لخوض مباراة قوية في إطار مساعيه لإلجام الشعب الأوكراني.
قد تتساءل الآن: ما علاقة أوكرانيا؟ في البداية كان هتلر يسعى لاحتلال أوروبا كلها، وكان يُسيطر على كافة ثكناتها، كان هتلر يعتقد أن كرة القدم دائماً هي الوسيلة الأسرع للسيطرة على الناس وعقولهم.
تماماً كما قال جوزيف غوبلز، وزير الدعاية النازية في تلك الفترة: "مباراة كرة قدم أفضل بالنسبة لنا من حيث الدعاية، من أن نضع أيدينا على بلدة في الشرق"، في إشارة منه إلى أن الناس لن يهتموا بتوسع الاستعمار الألماني مهما بلغ، لكنهم سيهيمون حباً بنشر الوعي الخاص بالرياضات حتى وإن كان بالقوة!
في أوكرانيا، وبين المخابز البسيطة لأولئك الذين لم يجدوا لقمة عيش طيبة في بلادهم، توغل الجنود الألمان الذين قرروا خوض مباراة عادية للغاية أمام فريق مُكون من عُمال المخابز الأوكرانية، وفيما بعد اكتشف الجنود أن ما فعله عُمال المخابز لا يمكن السكوت عنه.
لقد فاز عُمال المخابز، وتمكنوا من تحقيق الانتصار بسبب قوَّتهم الكامنة في رغبة الانتقام من المُحتل، وبذلك قررت السلطات الألمانية أن تطغى على الفاعلين وكل من والاهم، واتجهت النازية الألمانية إلى طلب إعادة المباراة التي شعر فيها الجنود بأنهم أهينوا جملة وتفصيلاً، من أشخاص أقل شأناً منهم!
في كييف، أقيمت مباراة لُعبت أمام أكثر من 45000 متفرج، بينهم كان الجنود الألمان يجلسون بالرشاشات والمدافع في المدرجات وعلى حافة الملعب، فضلاً عن أن الفريق الذي كان يُواجه الفريق الأوكراني هو في الأصل من الجنود الألمان الذين يرغبون في فرض الهيمنة على كل شيء.
فريق ستارت؛ الفريق الذي تمت تسميته من عُمال المخابز، الذين وافقوا على طلب إعادة المباراة، فاز في الشوط الأول بهدفين لهدف، وفي الممرات المؤدية إلى غرف الملابس بين الشوطين كان الجنود الألمان ينتشرون بشكل مهول، ورئيسهم يجلس مع مدرب فريق ستارت ويُملي عليه شروطه بشأن الهدنة التي يأمره بها.
قال رئيسهم للمدرب إنه إذا فاز سيتكلف فريقه عناء هذا الفوز، لكن من الواضح أن سيطرة المدرب على لاعبيه لم تكن إلا رغبة منه في حثهم على مواصلة ما بدأوه، وبالفعل، لم يُكذب اللاعبون خبراً.
في الشوط الثاني لم يهتم الفريق الأوكراني بالرشاشات ولا الجنود، لم يهتم إلا بمحاولة استرداد سبيل المقاومة من خلال تقديم أفضل ما لديه لطمس هوية ألمانية متغطرسة من خلال مباراة كرة قدم.
فريق ستارت، أنهى المباراة بخمسة أهداف نظير ثلاثة، وفي الواجهة المؤدية إلى الملعب كانت القنابل يُسمع ضجيجها، وكان فريق ستارت يتجه نحو الهزيمة النفسية التي لم تكن الهزيمةَ المعنوية تُشبهها.
قررت ألمانيا فتح النار على من حاولوا لعب مباراة شرفية، وتم تدمير مدينة كييف بالكامل بعد المباراة رداً من السلطات الألمانية على فوضى الانتصار الأوكراني، وبعد أسبوع تم استدعاء كافة عناصر فريق ستارت، الخبازين، إلى السلطات الألمانية التي تفننت في تعذيب بعضهم، وفي جهة أخرى استطاعت أن تقتل بعضهم، ونجا من نجا منهم لكنه لم ينس قط كيف كان للفوز مرارة في حلقه بسبب الهزيمة التي أعقبته!
الحيوانات..
سمعنا مؤخراً، وزير دفاع الاحتلال الإسرائيلي وهو مكبوت بفعل ما تكبده من خسائر يوم الـ7 من أكتوبر/تشرين الأول، يصف أهلنا في غزة بالحيوانات البشرية، وهذا المصطلح ما هو إلا مصطلح خاص بالفكر الاستعماري الأوروبي الذي اعتاد وصف أي شخص لا يرضون عنه بالحيوانات الوحشية.
هذا المصطلح هو ما استخدمه المدرب الإنجليزي ألف رامسي في مباراة الأرجنتين وإنجلترا ببطولة كأس العالم عام 1966، والتي دخل فيها المدرب الإنجليزي لأرض الملعب من أجل منع فريقه من تبادل القمصان مع منتخب الأرجنتين.
كانت حُجة ألف رامسي أن ما يحدث سياسياً بين المملكة المتحدة والأرجنتين يستدعي وقفة وطنية كتلك التي يفتعلها المُغفلون في إنجلترا آنذاك، وكان ألف رامسي عام 1966 هو رئيس حزب المغفلين الإنجليز إذا أردنا وضعه في مهنة تليق به.
رفض ألف رامسي تبادل القمصان، واصفاً المنتخب الأرجنتيني بالحيوانات، وقال إن القمصان الإنجليزية لا ينبغي لها أن تُستبدل بقمصان أرجنتينية وكذلك لا يُمكن للقمصان الإنجليزية أن تُلبس على أجساد الحيوانات.
في اللقاء نفسه، الرياضي بطبيعة الحال، تدخلت المملكة المتحدة على طريقتها واعتدت عبر جنودها على سيدة أرجنتينية قيل إنها كانت حاملاً في الأشهر الأخيرة.
في اللقاء نفسه، الرياضي بطبيعة الحال، تأسست فكرة البطاقات المُلونة بسبب حاجة الحُكام إلى تغيير الألوان الخاصة بالبطاقات لوصف حالة وموقف الحكم من تصرف اللاعب نفسه.
في اللقاء نفسه؛ تكونت عقلية شاب أرجنتيني اسمه دييغو أرماندو مارادونا، كان قد وصل إلى عامه السادس، ولم يكن من المفترض أن يفهم ما يحدث سياسياً في مباراة رياضية، لكن هذه الأحداث شكلت شاباً مُتطرفاً يُحب الحيوانات التي وصفها ألف رامسي، وسيسرق السادة الذين سيغضبون منه بعد عشرين سنة!
الحقيقة التي يُنكرونها..
لن تجد أبرع من الكاتب الأوروغوياني إدواردو غاليانو في وصف الديكتاتورية، وكذلك الاحتلال مهما كان اسمه وماهيته؛ لقد برع هذا الرجل في سرد الكلمات بطريقة جعلتها تصف المشهد كأنه يحدث مباشرة!
لقد تحدث غاليانو عن العنصرية التي عاشها العالم، الصورة التي تظهر بالطريقة التي يُريدونها أن تظهر، والجدران الصماء التي خلقت بدلاً منها جدراناً أكثر صخباً؛ لأنهم يريدون لها أن تتحدث.
تحدث غاليانو عن السياسة، وأظهر فيها ما تُحاول أن تُبديه السياسة من خلال كرة القدم، وقال إن دوافع مارادونا أمام الإنجليز كانت ثأرية، ولطالما أن العُذر كان مقبولاً فإنه لا بد من أن يُرحب به.
قرأت في مرة من المرات أن محاولة مارادونا لسرقة الكرة بيد، كانت تعني تحرير الأرجنتين من ضغوطات شعبية كبيرة جداً ولو بانتصار رياضي مشبوه، وكانت هذه الفكرة هي ما روجته الصحافة نفسها في ذلك الوقت. فعندما سأل مراسل صحفي مارادونا عن هدفه باليد في مرمى إنجلترا بنهائيات كأس العالم التي أقيمت في المكسيك عام 1986 قال: "إنها يد الله"
قالت الصحافة فيما بعد، إن المصطلح الذي أطلقه مارادونا على هدفه كان بمثابة تبرئة منه لفعلته، التي لم يهتم أحد بأنها فعلة قبيحة وأن المنتخب الإنجليزي نفسه لم يسرق من المنتخب الأرجنتيني ما سرقته المملكة المتحدة نفسها من أرض الواقع الأرجنتينية.
لكن، وكما قال أدواردو غاليانو: "كرة القدم كما أي شيء آخر في هذا العالم، كلما كان العُذر جيداً ومقبولاً؛ كانت الجريمة نفسها أقل توصفةً".
وبالتالي، فإن الثأر لا يعتمد فقط على العتاد الذي تمتلكه من الأسلحة؛ فقد يكون الثأر عن طريق انتصار رياضي بطابع سياسي، وقد يكون عبر مؤثر من المؤثرين الذين يُمثلون قضية ما، وقد يكون هذا الثأر عبر حرقة شديدة في صدر إنسان عرف أن الظُلم يحتاج إلى المواجهة، وإن كانت هذه المواجهة في إطار لا يستدعي أصلاً أن يكون ساحة للقتال!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.