بعد مضي نحو شهرين على الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة، تتزايد اليوم الأدلة على أن إسرائيل متورطة في عملية تطهير عرقي للفلسطينيين القاطنين في القطاع. ويقول موقع Responsible Statecraft الأمريكي إنه حتى لو قررنا تصديق إعلانات إسرائيل دون تمحيص واعتبرنا أن هجومها على قطاع غزة وسكانه -البالغ عددهم مليوني نسمة- يهدف إلى "تدمير حماس" فقط، فسنجد أن العملية الإسرائيلية مضللةٌ بشدة لدرجةٍ يجب أن تمنع الولايات المتحدة أو أي قوةٍ أخرى من تأييدها أو التغاضي عنها.
حيث لا يُمكن تدمير حماس بالقنابل والغزو البري. وحتى لو كان ذلك ممكناً، فالواضح هو أن العملية الجارية لن تُعزز أمن المواطنين الإسرائيليين مستقبلاً، بل ستزيده سوءاً في الواقع. ولا يجب تصديق الإعلانات الإسرائيلية دون تمحيص في أي حدثٍ كان.
إسرائيل ترتكب تطهيراً عرقياً ضد الفلسطينيين في غزة
يقول الموقع الأمريكي إن أحد الأدلة على التطهير العرقي يتمثل في القوة الهائلة والطبيعة العشوائية للهجمات العسكرية الإسرائيلية. إذ لا يُمكن القول إن العملية تركز على تدمير حماس في الأساس بينما يجري دكّ أحياء كاملة، وإيقاع خسائر مدنية تفوق تلك العسكرية، مع عدم وجود الكثير من الأدلة على تحقيق أي نتائج إيجابية باستثناء الاستيلاء على بعض الأنفاق المزعومة الفارغة وعرضها.
وليس عليك سوى التفكير في الأرقام التالية. يزعم المسؤولون الإسرائيليون أن عمليتهم في غزة قتلت حتى الآن 5,000 مقاتل من حماس. وقد اعترف المسؤولون بأن هذا الرقم هو مجرد تقديرات تقريبية، بينما لا يملك العالم الخارجي أي وسيلةٍ لمعرفة ما إذا كانت قريبةً من الواقع أم لا.
لكن دعونا نفترض أن هذا الرقم صحيح. تُشير تقديرات الجيش الإسرائيلي نفسه إلى أن تعداد جناح حماس العسكري كان يبلغ نحو 30 ألف مقاتل في بداية هذه الحرب، ما يعني أنه لا يزال هناك 25 ألف مقاتل ينبغي القضاء عليهم. في ما تُشير أحدث التقديرات لإجمالي عدد الضحايا الفلسطينيين، الذين يتزايدون سريعاً في هذه الحرب، إلى سقوط 17 ألف شهيد بينهم أكثر من 6,000 طفل.
هل يكفي إسرائيل قتل 100 ألف فلسطيني؟
وبإمكانك أن تراجع الحسابات التالية بنفسك. وفقاً للوتيرة الحالية والأساليب المتبعة بواسطة إسرائيل، سنجد أن إتمام مهمة القضاء على الجناح العسكري لحماس ستُسفر عن قتل نحو 100 ألف فلسطيني، بينهم أكثر من 30 ألف طفل، كما يقول الموقع الأمريكي.
ولا يشمل هذا التقدير الضرر الناجم عن ملاحقة إسرائيل لبقية قوام حماس بعيداً عن الجناح العسكري، بما في ذلك كبار القيادات الذين تعهّدت إسرائيل بقتلهم، وكذلك الإدارة المدنية الخاصة بحماس في قطاع غزة والتي تعهّدت إسرائيل بالقضاء عليها. ولا يأخذ هذا التقدير في الحسبان معدل الخسائر المدنية نتيجة تصعيد الجيش الإسرائيلي لعملياته حالياً في جنوب القطاع، الذي صار مكتظاً بأولئك الفارين من الشمال والتي قيل لهم أن يتوجهوا لها بصفتها "مناطق آمنة".
ومن المرجح أن يكون معدل الخسائر في الجنوب مرتفعاً بقدر خسائر العمليات السابقة في الشمال على أقل تقدير.
أهداف إسرائيل الحقيقية
يقول موقع Responsible Statecraft إن هذه الأرقام أعلى بكثير من أي معدل يُمكن تبريره كرد على ما فعلته حماس في إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول. كما تشير هذه الأرقام إلى أن الأهداف الإسرائيلية تشمل قتل المدنيين وطرد أكبر عدد من الفلسطينيين خارج غزة، إلى جانب القضاء على حماس.
ويزعم الجيش الإسرائيلي أنه استخدم التحذيرات لتقليل الضحايا المدنيين، لكن تلك المزاعم لم تعد أكثر من مجرد مزحة قاسية. حيث يأمر الجيش السكان بالفرار من منازلهم ثم يقصفهم على كل حال، سواءً في الطريق أو داخل المكان الذي طُلِبَ منهم النزوح إليه. ثم يُطلب منهم النزوح مرةً أخرى ليتعرضوا للقصف من جديد.
ولا جدوى من رموز الاستجابة السريعة QR والمنشورات التي تحتوي على معلومات حول المناطق الآمنة، لأن الاتصالات معطلة ولأن غالبية الفلسطينيين ليس لديهم اتصال بالإنترنت.
ولم تعد إسرائيل تكترث لاستخدام ممارسة "الصواريخ التحذيرية" القديمة، التي تعتمد على استخدام ذخيرة صغيرة في البداية لتحذير سكان البناية من أنها على وشك أن تُقصف -وكأنه كان من المقبول أن تقصف منزل شخصٍ ما طالما أنك أخطرته بذلك قبلها ببضع دقائق.
الضفة ليس بعيدة عن غزة وهناك جرائم تطهير عرقي
وتأتي الأدلة الأخرى على أهداف إسرائيل في غزة من الأحداث المتلاحقة في الضفة الغربية. حيث قضى المستوطنون الإسرائيليون هناك آخر شهرين في استخدام القتل والعنف والترهيب، بموافقة ضمنية من السلطات الإسرائيلية إلى حدٍ كبير، وذلك بهدف إخراج سكان القرى الفلسطينيين القدامى من أراضيهم.
ويحين بعدها دور خطاب القادة السياسيين الإسرائيليين، والذي وصفه بعض المراقبين بأنه خطاب إبادة جماعية. وهناك الكثير من الأمثلة على ذلك خلال الشهرين الماضيين. إذ قال وزير الدفاع يوآف غالانت عن غزة: "سنقضي على كل ما فيها". بينما قال نائب رئيس الكنيست نسيم فاتوري عن فلسطينيي غزة: "اطردوهم جميعاً". في ما قال وزير الزراعة آفي ديختر: "نحن الآن بصدد تنفيذ نكبة غزة". أما وزير التراث عميحاي إلياهو، فقد اقترح على إسرائيل أن تفكر في إسقاط قنبلة نووية على غزة!
وأضف إلى ما سبق الأدلة التي ظهرت على خطط الحكومة الإسرائيلية. حيث كشف تقرير في أكتوبر/تشرين الأول عن مقترح من وزارة الاستخبارات لنقل جميع سكان غزة إلى سيناء المصرية، على أن يتم تسكينهم في الخيام أولاً ثم نقلهم إلى مدن مبنية بشكلٍ دائم.
ولم يشرح المقترح كيف ستتغلب إسرائيل على المعارضة المصرية لنقل السكان بأي صورة. لكن ظهرت تقارير أخرى تؤكد أن القادة والدبلوماسيين الإسرائيليين يقترحون الأمر على الحكومات الأخرى في هدوء، بهدف نقل مئات آلاف سكان غزة إلى مصر.
ويزعم الإسرائيليون أن هذه الخطوة ستكون مؤقتة طوال فترة الحرب الجارية، لكن محاوريهم رفضوا الفكرة نظراً لاحتمالية أن يصبح هذا التهجير دائماً، كما حدث في وقائع التهجير السابقة للفلسطينيين.
بينما ذكر تقرير حديث أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو كلّف رون ديرمر، وزير شؤونه الاستراتيجية أمريكي المولد، بوضع خطة لـ"تخفيف" عدد سكان قطاع غزة إلى أدنى حد ممكن. وقد نشرت الخبر صحيفة Israel Hayom الإسرائيلية التي تدعم نتنياهو، ومن المفترض أنها تتمتع بعلاقات جيدة معه.
تهجير بدعم أمريكي
وفي انعكاس محتمل لذلك التخطيط، تحدثت تقارير إعلامية إسرائيلية أخرى عن مقترح طُرح على أعضاء الكونغرس الأمريكي بالفعل، ويتضمن نقل مليوني غزاوي عبر مصر لتسكينهم بشكل دائم هناك وفي العراق وتركيا واليمن. ومن المفترض أن تستخدم الولايات المتحدة مساعداتها المقدمة إلى تلك الدول كوسيلة للضغط عليها من أجل قبول هذا الترتيب.
أثبت هجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول أنه من المستحيل إزالة الصراع مع الفلسطينيين من المعادلة الإقليمية. لكن الحكومة الإسرائيلية رفضت بكل قوتها السبيل الوحيد لإنهاء هذه الاضطرابات، ألا وهو حل الصراع عبر مفاوضات سلمية تمنح الفلسطينيين حق تقرير المصير، سواء باختيار حل الدولتين أو الحصول على حقوق متساوية في دولةٍ واحدة.
وبدلاً من ذلك، يبدو على نحوٍ متزايد أن إسرائيل تحاول إزالة الفلسطينيين أنفسهم من المعادلة عبر القتل والتطهير العرقي والتهجير. ولن تؤدي هذه الاستراتيجية الإسرائيلية الواضحة إلى جلب السلام إلى الإسرائيليين أو غيرهم طالما استمر وجود المنفيين المستائين، كما كان حال مناوراتها السابقة. وخير مثال على ذلك هو كيفية مطاردة إسرائيل لمنظمة التحرير الفلسطينية المنفية مطلع الثمانينيات، وما أسفر عنه ذلك من اندلاع عدة حروب وصعود حزب الله اللبناني وفقدان كل الآمال في استقرار لبنان.
وأظهرت إدارة بايدن بعض المؤشرات على إدراكها لما يحدث. حيث قالت نائبة الرئيس كامالا هاريس خلال قمة المناخ في دبي إن "الولايات المتحدة لن تقبل بالترحيل القسري للفلسطينيين من قطاع غزة أو الضفة الغربية تحت أي ظروف". كما بدأت الولايات المتحدة في فرض حظر التأشيرات على المستوطنين الإسرائيليين المتهمين بارتكاب أعمال عنف في الضفة.
لكن تلك المؤشرات لا ترقى إلى مستوى الانفصال الكامل بين واشنطن وبين تلك السياسات والممارسات البغيضة في الواقع. ويُمكن القول إن هذا الانفصال ضروري من أجل تجنيب الولايات المتحدة التعرض لمزيد من الازدراء الدولي، الذي جلبه عليها ارتباطها بالتصرفات الإسرائيلية في المقام الأول٬ كما يقول الموقع الأمريكي.