ليست الناشطة الفلسطينية عهد التميمي، التي صفعت وهي طفلة صغيرة جندياً إسرائيلياً، حالة استثنائية في بلدتها "قرية النبي صالح"، الواقعة بالضفة الغربية، فهذه القرية خاض أغلب سكانها تجربة الأسر في السجون الإسرائيلية، وتحوّل فيها النضال لمسألة عائلية يتم توارثها جيلاً بعد جيل.
يقول مروان التميمي، ابن هذه القرية، إن هناك لحظةً تأتي لجميع الآباء الفلسطينيين يدركون فيها أنهم عاجزون عن حماية أطفالهم.
بالنسبة للأب البالغ من العمر 48 عاماً لثلاثة أطفال، فقد حدث ذلك في يونيو/حزيران، عندما أطلقت القوات الإسرائيلية رصاصة مطاطية كبيرة أصابت رأس ابنه الأكبر، وسام، بينما كان يشاهد مداهمةً مع عائلته من سطح منزل جدته، حسبما ورد في تقرير لوكالة Associated Press الأمريكية.
سحبوه من السرير وهو مصاب بكسر في الجمجمة
وقال مروان إنه بعد أسبوع، جاء الجنود للشاب البالغ من العمر 17 عاماً، وسحبوه من السرير وهو مصاب بكسر في الجمجمة، بينما كانت والدته تبكي.
واتُّهم وسام في وقت لاحق بمجموعة من الجرائم التي أنكرها -إلقاء الحجارة، وحيازة أسلحة، ووضع عبوة ناسفة والتسبب في أذى جسدي. أُرسل إلى سجن عوفر الإسرائيلي. يوم السبت الماضي، بعد 6 أشهر خلف القضبان، عاد إلى منزله مع 38 فلسطينياً آخرين مقابل إطلاق سراح أسرى إسرائيليين لدى حماس، كجزءٍ من وقف مؤقت لإطلاق النار، في الحرب التي بدأت بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول على جنوب إسرائيل.
وقال والداه إنهما لم يريا أو يسمعا عنه شيئاً منذ شهرين، منذ بدء الحرب. قال وسام إنه قضى ذلك الوقت في زنزانة مكتظة، وحُرِمَ من الطعام والأدوية الكافية، واستُجوِبَ بشأن أصدقائه، وتعرّض للضرب مراراً.
وقال مروان التميمي: "صرخت قائلاً إنه ابني، لا يمكنكم أخذه، إنه مصاب. عندها أدركت أنهم سيأخذونه. وإذا أوقفتهم، فسيعرّضون حياته للخطر".
وأثرت عودة وسام إلى وطنه الأسبوع الماضي، إلى جانب إطلاق سراح ابنة عمه الناشطة المعروفة، عهد التميمي، في كل منزل في قرية النبي صالح، حيث يعتبر السجن طقساً قاتماً بالنسبة للأولاد الفلسطينيين.
هلَّل الناس وبكوا فرحاً، واحتضن وسام الأصدقاء والعائلة واحداً تلو الآخر. لكن النشوة كانت تعكس الألم بقدر ما كانت تعكس الفرح في الضفة الغربية المحتلة، حيث تقدر الأمم المتحدة أن 750 ألف فلسطيني اعتُقِلوا منذ استولت إسرائيل على المنطقة في حرب الشرق الأوسط عام 1967.
قرية النبي صالح موطن النشطاء والصحفيين والمحامين الرافضين للاحتلال
لقد ترك هذا الظلم ندوبه في قرية النبي صالح، موطن النشطاء البارزين والصحفيين والمحامين المعروفين برفضهم الخضوع للاحتلال.
كانت هذه القرية من قبل قريةً جميلة تقع على امتداد تلال من الأراضي الزراعية التي تزرع العنب والزيتون الأخضر، وهي اليوم مثال قوي على كيفية قيام السجون الإسرائيلية على مدى عقود من الحرب بسحق الأسر وتقييد الحياة والقضاء على المقاومة الشعبية.
لم يرد جهاز الأمن الإسرائيلي على الأسئلة المتعلقة بقضية وسام. لكن جيش الاحتلال دافع عن الاعتقالات واسعة النطاق للفلسطينيين، بما في ذلك القُصَّر، باعتبارها ضرورية لمنع هجمات المسلحين. وفي بيانٍ للجيش، قال إنه يهدف إلى "الحفاظ على حقوق وكرامة" المشتبه بهم الفلسطينيين أثناء إجراءات المحكمة والاحتجاز، وأن إدانة قاصر "تتطلب عبء إثبات الذنب، بما لا يدع مجالاً للشك".
إسرائيل تسعى إلى زرع الخوف في الأجيال الأصغر سناً
ويقول الناشطون الفلسطينيون ومنظمات حقوق الإنسان إن الاعتقالات الجماعية التي تقوم بها إسرائيل تسعى إلى زرع الخوف بين المجتمعات الأصغر سناً، مما يؤدي إلى تحطيم المجتمعات التي تواصل تحدي الحكم العسكري الإسرائيلي، الذي دخل الآن عامه السابع والخمسين.
ومعظم سكان النبي صالح، البالغ عددهم 550 نسمة، مرتبطون بالدم أو الزواج، وجميعهم تقريباً يحملون لقب التميمي. معظم الأولاد، مثل آبائهم وأجدادهم، دخلوا السجن في مرحلة ما، حيث أصبحت القرية معروفة بحركتها الاحتجاجية الشعبية.
نشأ وسام على تاريخ ترحيل جده الناشط إلى الأردن عام 1970، وعودته المظفرة إلى النبي صالح كجزء من اتفاقيات أوسلو عام 1993.
قضى والد وسام، مروان، فترة عقوبته في ذروة الانتفاضة الفلسطينية الثانية في عام 2002. وحُبِسَ عمه الصحفي بلال 4 مرات، ابتداءً من أواخر الثمانينيات، خلال الانتفاضة الأولى.
وجود شخص من القرية لم يصدر ضده أمر اعتقاله أمر يثير الشكوك
وقال جاره، طاهي المعجنات هيثم التميمي، البالغ من العمر 45 عاماً، إن جندياً احتجزه سابقاً واستجوبه في الشارع "ووجد أنه من المشكوك فيه أنني من النبي صالح ولم أُسجَن من قبل".
قبل أن تستأنف إسرائيل وحماس حربهما يوم الجمعة، سعت الحركة إلى إطلاق سراح أسرى فلسطينيين بارزين مقابل إطلاق سراح الأسرى المتبقين في غزة.
لكن الغالبية العظمى من الفلسطينيين الذين يمرون عبر باب السجن الإسرائيلي هم من المراهقين والشباب الذين لم يُكشَف عن أسمائهم في الأغلب، ويُنتَشلون من على فرشهم في منتصف الليل لقيامهم بإلقاء الحجارة والقنابل الحارقة أو الارتباط بالمسلحين في المدن والبلدات ومخيمات اللاجئين القريبة من المستوطنات الإسرائيلية. ويعتبر معظم المجتمع الدولي المستوطنات الإسرائيلية غير قانونية، وتشكل عقبةً أمام السلام.
بموجب اتفاق وقف إطلاق النار الذي استمر لمدة أسبوع، أطلقت إسرائيل سراح 240 قاصراً وامرأة فلسطينية. وأفاد نادي الأسير الفلسطيني، استنادا إلى بيانات من مصلحة السجون الإسرائيلية، أن معظم الأطفال الذين أُطلِقَ سراحهم والذين تتراوح أعمارهم بين 14 و17 عاماً كانوا محتجزين للتحقيق، ولم يُدَن أيٌّ منهم بارتكاب جريمة. وقالت المجموعة إنه خلال الأسبوع نفسه، اعتقلت إسرائيل 260 فلسطينياً آخرين.
المحاكم الإسرائيلي تقضي بالسجن على مئات القصَّر كل عام
في كل عام، تحكم المحكمة العسكرية الإسرائيلية على مئات القصَّر بالسجن، معظمهم بسبب رشق الحجارة، وفقاً لمنظمة مراقبة المحكمة العسكرية. ومعظمهم أيضاً في سن الـ16 أو الـ17.
وتبلغ نسبة الإدانة في الجرائم الأمنية في الضفة الغربية أكثر من 99%. وكثيراً ما يشجع محامو الدفاع العملاء الشباب على الاعتراف بالذنب لتجنب المحاكمات والاعتقالات الطويلة. لم يُتهم البعض أو يُحاكموا رسمياً قط، ويُحتجزون بموجب ممارسة تُعرف باسم "الاعتقال الإداري"، الذي يسمح للسلطات الإسرائيلية باعتقال الفلسطينيين بناءً على أدلة سرية، وتجديد احتجازهم إلى أجل غير مسمى.
أكبر عدد للمعتقلين الإداريين
ارتفعت وتيرة الاعتقالات، التي تسارعت بالفعل على مدى العامين الماضيين، بشكل كبير بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول. واعتقلت إسرائيل 3450 فلسطينياً في أنحاء الضفة الغربية منذ اندلاع الحرب، وفقاً للجيش الإسرائيلي، في حملة واسعة النطاق. ووفقاً لمنظمة "هموكيد" الحقوقية الإسرائيلية، فإن عدد الفلسطينيين المحتجزين الآن في الاعتقال الإداري هو أعلى مستوى على الإطلاق، حيث بلغ 2873 فلسطينياً.
وقال عامي أيالون، المدير السابق لجهاز الأمن الإسرائيلي شين بيت: "إن حملة القمع تتعارض بطريقة ما مع نيتنا عدم فتح جبهة أخرى في الضفة الغربية. من ناحية، نحن ندرك أنه كلما زاد عدد الأشخاص الذين يُقتلون ويُعتقلون، زادت الكراهية. ولكن من ناحية أخرى، لا نريد أن ندفع ثمن الهجمات".
ويقول المحامون إن حملة القمع تؤثر على الفلسطينيين من كل المشارب، ويصفون الناس بأنهم يشكلون تهديداً أمنياً حتى بسبب منشوراتهم البسيطة على وسائل التواصل الاجتماعي.
الشرطة تفحص الهواتف والمحاكم تعتبر مهمتها اعتقال الشباب
وقالت ليا تسيميل، وهي محامية إسرائيلية بارزة في مجال حقوق الإنسان: "لقد كانت أوركسترا، كما لو أن الملحن قاد جميع المحاكم في جميع أنحاء البلاد إلى فهم أن من واجبهم اعتقال الشباب. لقد رأينا الشرطة توقف الشباب وتفحص هواتفهم لمعرفة ما إذا كان بإمكانهم العثور على أي شيء يشكل تحريضاً".
وكثفت القوات الإسرائيلية غاراتها القاتلة في شمال الضفة الغربية، كما هو الحال في مخيم جنين للاجئين، مستخدمة الغارات الجوية لاستهداف المسلحين بقوة غير مسبوقة.
وقد أدى تصاعد العنف والقيود المفروضة على حرية حركة الفلسطينيين إلى توليد الخوف في النبي صالح. حوّلت نقاط التفتيش الإسرائيلية الجديدة مسافة 15 دقيقة بالسيارة إلى مدينة رام الله الفلسطينية إلى متاهة مقززة مدتها ساعتان.
السكان يحتجون على سرقة ينابيعهم والاحتلال يقتل أبناءهم بالرصاص
في الأشهر الأخيرة، اقتحمت القوات الإسرائيلية القرية بشكل متكرر. أشعلت عبوة غاز مسيل للدموع متفجرة النار في سيارة مروان التميمي، ذات الدفع الرباعي، في منتصف أكتوبر/تشرين الأول. وأصاب مقذوف مطاطي، أكبر بكثير من الرصاصة، رأس وسام، مما أدى إلى نزيف في الدماغ وأرسله إلى العناية المركزة لمدة أسبوع. اخترقت 4 رصاصات باب سيارة هيثم التميمي، واخترقت كتفه وقتلت ابنه محمد، البالغ من العمر عامين، في يونيو/حزيران -وهي حادثة اعترف جيش الاحتلال بأنها كانت خطأً.
إنه الفصل الأخير في التاريخ المضطرب لقرية كانت من قبل مركزاً لحركة احتجاجية متأججة بدأت في عام 2009، وألهمت قرى أخرى وتصدرت عناوين الصحف العالمية. وفي كل أسبوع، كان السكان يحتشدون احتجاجاً على فقدان أراضي أجدادهم وينابيع المياه العذبة لصالح المستوطنة الإسرائيلية سريعة النمو على الجانب الآخر من الطريق.
وأصبحت مسيرات أيام الجمعة، بعد أذان الظهر مباشرة، شأناً عائلياً في قرية النبي صالح. ولوح القرويون بالأعلام الوطنية وصفقوا ورددوا الأغاني الفلسطينية أثناء محاولتهم الوصول إلى نبعهم الذي أصبح مكاناً للنزهة بالنسبة للمستوطنين. وكان من المحتم أن يقوم الصبية برشق سيارات الجيب الإسرائيلية بالحجارة.
وقالت جنى جهاد، البالغة من العمر 17 عاماً، والتي أصبحت من رواد الإنترنت، وهي تصور نفسها وهي تتحدث عن الاحتجاجات عندما كانت في السابعة من عمرها: "كنا نُظهر للعالم ما كان يحدث بالفعل هنا، وكان الأمر رائعاً ومهماً للغاية".
وتقول إسرائيل إن القوات لم تردّ إلا بعد أن بدأ المتظاهرون في إلقاء الحجارة ومحاولة دخول منطقة عسكرية حول القرية. وأجبرت القوات المتظاهرين على الفرار بالغاز المسيل للدموع والرصاص المغلف بالمطاط، وانفجارات السوائل الضارة والذخيرة الحية. وقال السكان إن القوات نفذت مداهمات ليلية، واعتقلت معظم الشباب، وقتلت 6 قرويين فلسطينيين خلال الاحتجاجات، جميعهم من الشباب.
ابني أُصيب وهو في الرابعة عشرة بتشوهات بسبب رصاصة إسرائيلية
كان لدى وسام أصدقاء واجهوا الجنود الإسرائيليين، مثل ابنة عمه عهد، التي حوّلها اعتقالها بتهمة صفع جنود إسرائيليين قبل 5 سنوات إلى رمز للمقاومة الفلسطينية.
وقالت امتثال التميمي، البالغة من العمر 56 عاماً، وهي أم لتسعة أطفال: "لم يكن بوسعي فعل أي شيء لإيقاف الأولاد". أُصيبَ ابنها محمد بتشوهات عندما كان عمره 14 عاماً عندما أطلقت القوات الإسرائيلية رصاصة مطاطية استقرت في رأسه.
وقالت إن جميع الرجال في منزلها وقعوا في نظام السجون الإسرائيلي، ولاحظت تغيراً في كل منهم عندما خرجوا. محمد، البالغ من العمر الآن 21 عاماً، لم يتمكن من التخلص من حالة الغضب التي كان يمر بها. تميم، ابنها الأكبر، حبس نفسه في غرفة نومه لمدة 3 أشهر بعد أن قضى سنة في السجن. زوجها فاضل، البالغ من العمر 64 عاماً، دخل السجن وخرج منه يعاني من اضطراب في الجهاز العصبي المركزي منذ عقود.
محمد، الذي اعتُقِل للمرة الثالثة في نفس الليلة التي اعتُقِل فيها وسام، لا يزال في السجن. ولم يُسمَع أي شيء عن حالته أو مكان وجوده منذ بدء الحرب، عندما منعت السلطات الإسرائيلية الأسرى استخدام الهواتف أو استقبال الزوار.
وفي السجون يتعرّضون للتجويع
خسر وسام، بعينيه الغائرتين ووجهه الرمادي والهزيل، 12 كيلوغراماً من وزنه في السجن، حيث قال إنه يتقاسم وجبتين يومياً من الدجاج غير المطبوخ جيداً والخبز القديم مع 11 آخرين، وهي رواية تدعمها جماعات حقوق السجناء. وقال إنهم كانوا محشورين بشدة في زنزانة كانت تضم نصف هذا العدد قبل الحرب، وفي مناسبات نادرة سُمِحَ لهم بالخروج، وأمرهم الحراس بالسير مع ربط المعصمين بشدة تحت ركبهم.
ورداً على الأسئلة، نفت مصلحة السجون الإسرائيلية قيام السلطات بحشد السجناء في الزنازين على نحو مكتظ أو تقليل وجبات الطعام. لكن وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير روّج علناً للمعاملة التأديبية القاسية للسجناء الفلسطينيين. وأقر البرلمان إجراءً مؤقتاً يسمح بملء السجون بما يتجاوز طاقتها القانونية.
بالنسبة لوسام، كان 45 يوماً في الحبس الانفرادي هو العذاب الحقيقي. كل ليلة كان يرتجف في الظلام، يشعر بالحنين إلى الوطن، ويتخيل والدته تدفئه بحضنها وتطبخ له المنسف. وقال إن اتصاله البشري الوحيد كان من خلال اللكمات التي انهالت على رأسه أثناء الاستجواب اليومي.
بعد مرور أسبوع على إطلاق سراحه، لا يزال وسام يجفل عندما يسمع صرير الباب، حتى في منزله. يقضي أيامه بهدوء في نسج العلب الخفيفة من البلاستيك والخيوط، وهي عادة السجن، ويأخذ دروساً في القيادة على أمل تفادي الاعتقال حتى بسبب المخالفات المرورية.