يأتي الدور هذه المرّة على بيت السقا الأثري، و ذلك في إطار حربها الدموية المستمرّة على قطاع غزّة منذ مطلع أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، التي لا حصانة فيها لأي شيء، وإستهدافها العمدي للعديد من المواقع التاريخية البارزة والمهمة للتراث الثقافي للفلسطينيين ، بما يشمل المواقع الأثرية، دور العبادة، والمتاحف.. و يقع بيت السقا الأثري في حي الشجاعية شرق قطاع غزة، وهو أقدم بيوت المنطقة وأعرقها بتاريخ يمتدّ لأكثر من 400 عام، حيث تعرّض لقصف وحشي من قبل طائرات الاحتلال الإسرائيلي، ابتغاء تدميره بالكامل كأثر يعبّر على هويّة غزّة وأصالة معالمها.
تاريخ البيت الممتدّ إلى الحقبة العثمانية
وفق أبو تيسير السقا، أحد أصحاب بيت السقا، فإنّ تاريخ تشييد المعلَم يعود إلى الحقبة العثمانية، أي ما يزيد على 400 عام، تحديداً سنة 1661، وهو عهد السلطان محمد الرابع بن السلطان إبراهيم، ويتّسع على مساحة قدرها 700 متر.
ويمثّل السقا بيت العائلة الذي توارثه الأبناء عن أجدادهم، فهو أحد أهمّ بيوت الأعيان التي تمثّل حضارة البلاد وتاريخها، بناه أحمد السقا، أحد كبار التجار آنذاك، والذي تعود أصوله إلى الجزيرة العربية من مكة المكرّمة ويصل نسبه إلى عقيل بن أبي طالب، ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام.
أمّا عن موقعه، فيتوسّط سوقاً شعبية تعجّ بمظاهر الحياة الغزّاوية الحاضرة، كما تذكّرنا بماضي المدينة التليد، ويُذكر أن البيت كان مكاناً يجتمع فيه منذ قرون أسياد التجّار وأهل الاقتصاد، كما استُخدم كقاعة للمناسبات الشخصية على غرار الأفراح أو العزاءات، وفق ما أفاد به الباحث في التاريخ الفلسطيني أيمن البلبيسي لشبكة نوى الإخبارية .
ترميم البيت وتعزيز مكانته في البلدة القديمة
وقع ترميم بيت السقا في أكثر من مناسبة للمحافظة على هيئته الأصلية كموروث ثقافي، فقد تم ترميمه أوّل مرة من قذيفة تعرّض لها خلال حرب عام 1948، ثمّ سُجّل كموقع أثري في وزارة السياحة والآثار الفلسطينية بعد مجيء السلطة الفلسطينية عام 1994.
وسعياً لحمايته من الاندثار والتلف بفعل عوامل الزمن أو البيئة، قامت العائلة المالكة للبيت أو "آل السقّا" بالتبرّع به لمدّة 10 سنوات منذ سنة 2014 لمركز "إيوان"؛ إيماناً منها بدور بيتها في تعزيز الهويّة الثقافية الفلسطينية.
و"إيوان" هو مركز مختصّ في ترميم وإصلاح الأضرار التي تتعرّض لها المباني الأثريّة في قطاع غزّة، تحت إشراف مجموعة من المهندسين والفنيين وخبراء الآثار الفلسطينيين.
ووفق ما صرّحت به نشوى الرملاوي، منسّقة مشاريع الحفاظ على التراث في المركز لصحيفة العربي الجديد في هذا الخصوص، بأنّه " تمَّ ترميم أجزاء البيت، مع الحفاظ على هيئته القديمة، وتنظيم العديد من الأنشطة المجتمعية، والتي أعطته مكانة ثقافية واجتماعية".
كما أكّدت فادية محيسن، منسقة المشاريع في جمعية زاخر لتنمية قدرات المرأة، بأنه لم يتم وضع أي شيء على الجدران من زينة ولوحات تراثية، حتى تبقى على هيئتها الأصلية منذ نشأتها.
بيت السقا مركز ثقافي مزدهر في غزة
أمّا اليوم، فيحتضن البيت الذي صار مركزاً ثقافياً عديد الفعاليات والأنشطة الثقافية، على غرار المسرح الاجتماعي، والعروض الموسيقية، واستقبال الجلسات الأدبية، وفنون الرسم المختلفة، إلى جانب تخصيص يوم مفتوح لجلسات التصوير، والجلسات العائلية، دون عائد مادي، وبشكل مجاني وفق ما أكّده الناشط الاجتماعي، والفنان التشكيلي عبد الله الرزّي .
عمارة البيت
العمارة الخارجية للبيت
بُني المنزل الأثري من 3 أنواع من الحجارة: الحجر الرملي، أو ما يُعرف بالكركار والحجر المقدسي من وسط فلسطين، بالإضافة إلى رخام من الحجارة والأعمدة الرومانية.
أمّا سقف البيت، فيتميّز ببرودته في فصل الصيف ودفئه في فصل الشتاء، وذلك لتكوّنه من الرمل المحشو بالفخّار، كما تزدان واجهة البيت بلوحة رخامية كُتبت عليها معلومات مفصّلة حول تاريخ البيت وقصّة نشأته.
العمارة الداخلية للبيت
يؤدي باب بيت السقا الشمالي، الذي يبلغ طوله المترين، والذي يأخذ شكل زاوية قائمة معتّمة؛ حفاظاً على خصوصيّة أصحاب البيت إلى فناء ببلاط رخامي جيء به خصّيصاً من جبال وسط فلسطين، كما توجد به مساكر تدّل على وجود بئر.
وتبرز في الفناء تفاصيل البيت العتيق بقبابه الحجرية المقوّسة التي تستند إلى أعمدة ضخمة مصنوعة من الأحجار الرملية، تتدلّى منها ثريّات قديمة، ونوافذه الزجاجية المحميّة بالحديد المقوّى تتزيّن غرّتها بالزخارف الهندسية التراثية.
كما يضمّ الفناء إيواناً لاستقبال الضيوف، ناهيك عن غرف المعيشة والمطبخ ومخزن للحبوب والقمح على الطريقة الفلسطينية التقليدية.
وتوجد في خلفية البيت حديقة يوصلك إليها ممرّ رخامي، فيها زُرعت أشجار الزيتون والنخل والليمون وعدد من النباتات والأزهار.
تدمير بيت السقا إنذار باندثار التراث الإنساني في غزة
يُذكر أنّ الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزّة تسبّبت في تدمير ما يزيد على 100 موقع أثري وتاريخي منها 6 مراكز ثقافية و5 مكتبات .
كما أُصيبت معظم أجزاء البلدة القديمة لمدينة غزة، وفيها 146 بيتاً قديماً بأضرار عديدة، ناهيك عن تضرّر كنيسة القديس برفيريوس العريقة وميناء غزة القديم وفق دراسة حديثة أجرتها مجموعة التراث من أجل السلام .
وصرّحت إسبر صابرين، رئيس منظمة التراث من أجل السلام، في مقابلة مع إذاعة NPR الأمريكية إنه: "إذا اختفى هذا التراث في غزة، فسيكون ذلك خسارة كبيرة لهوية الناس في غزة".
ورغم اتفاقية لاهاي لعام 1954، التي وقّع عليها الفلسطينيون والإسرائيليون للالتزام بحماية المعالم التاريخية والأثرية من ويلات الحرب، يأتي الاحتلال في هذا العدوان على غرار كلّ مرّة ليضرب عرض الحائط بكلّ الأعراف والمواثيق الدولية، دون أية مراعاة لتاريخ أو ثقافة أو حضارة مرّت على أرض غزّة.