يبدو أن حزمة العقوبات الغربيّة على روسيا منذ بداية الحرب قد خيّبت الآمال والتوقعات الرسميّة، وحتى الشعبيّة، إذ واصل الاقتصاد الروسي تحقيق نمو للربع الثاني على التوالي رغم العقوبات الغربية المفروضة على موسكو بسبب الحرب في أوكرانيا، ورغم ارتفاع التضخم، وذلك وفقاً لبيانات رسمية صدرت مؤخراً؛ إذ تزعم روسيا على لسان المتحدثة باسم وزارة الخارجية ماريا زاخاروفا، أن تلك الحزمة قد أضرّت بالأطراف الصّادرة عنها أكثر من إضرارها بالطرف المسلّطة عليه.
إذ كان يتوقع الصندوق الدولي لروسيا نسبة نمو مقدارها 1.5% هذا العام، في وقت لم يتمّ فيه القضاء على الروبل كعملة فاعلة، ولم تُجدِ مقاطعة التجارة الروسية، حيث وجدت موسكو ملاذاتها وبدائلها في أسواق آسيا الوسطى وعموم آسيا، خاصّة الشريكتين الهند والصّين، فمنذ الحرب، أعادت موسكو توجيه جزء كبير من صادراتها الحيوية من النفط والغاز إلى الصين والهند، وفرضت ضوابط على العملة لدعم الروبل الذي لا يزال غير مستقر.
ويبدو أنّ روسيا قد استفادت بشكل لافت من خبراتها في العقوبات المسلّطة عليها، خاصّة بعد ضمّها للقرم عام 2014، إذ أظهرت بيانات اقتصادية بدء تعافي صادرات المنتجات النفطية الروسية بفضل زيادة صادرات الوقود، بعد تراجع هذه الصادرات نتيجة القيود المفروضة على تصدير الديزل وعمليات الصيانة الموسمية للمصافي، وفقاً لوكالة بلومبيرغ. ويتوقع استمرار نمو صادرات المنتجات النفطية الروسية خلال الفترة المقبلة مع زيادة إنتاج المصافي عقب انتهاء عمليات الصيانة الموسمية. كما أنّ السّلع الرّوسيّة، حسب بيانات منظمة التجارة العالمية (منظمة غربيّة)، قد ارتفعت صادراتها من 494 ملياراً عام 2021 إلى 532 مليار دولار في 2022، عام بداية الحرب.
فعلى الصعيد السياسي والاقتصادي، دول مثل إيران وتركيا لم تلتزم بالعقوبات الدولية وواصلت علاقاتها مع روسيا حتى لا تنفرد الولايات المتحدة بالمسرح الدولي. بالإضافة إلى أن دولاً عدّة قد أعلنت الحياد من الدخول الروسي على أوكرانيا.
قد لا تكون المرّة الأولى التي ينزل معها علم الغرب صاغراً، إذ يبدو أن عقوبته قد انكسرت على أسوار الأقوياء، وذلك ليس بالأمر الجديد، إذ لم تُركع عقوباته إيران، بينما لم يتمكن قانون قيصر من معاقبة النظام السوري على جرائمة هو وكل الأنظمة التي تعاونه، بل رأينا عودة النظام الملطخة بالدماء إلى الجامعة العربية دون حتى أن يقدم تنازلات.
كل ذلك يشير إلى فرط زمام الهيمنة من بين يديه، إذ لم يثبت نجاعته في فرض كلمته في عدة جبهات، بل على العكس نرى تراجعاً في جبهات لطالما كأن يأمن سيطرتها، إذ نشاهد سقوط فرنسا الاستعمارية مع كل هيبتها في الأرض بعد الانتكاسات المتكررة لها في السّاحل الأفريقي في مدّة وجيزة، حيث خرجت صاغرة من بوركينا فاسو ومالي والتشاد والنيجر، مع توازٍ في زيادة النفوذ الروسي في أفريقيا.
ورغم أن الجبهة الغربية ليست موحدة، إلا أنها تتكبد خسائر اقتصادية وسياسية تؤثر على نفوذها في شتى المجالات، ولعل ذلك ما يدفع الغرب لدعم الاحتلال الإسرائيلي دون قيد أو شرط لمواصلة الإبادة الجماعية في غزة، ظناً منها أنه يمكن أن تلملم هيمنتها المتهاوية، بنصر حاسم يأتي بسحق المقاومة الفلسطينية، لكنها بنفس الكبرياء الاستعماري، تطلق النار على قدميها في غزة.
اليوم تزداد هواجس الغرب بعد أوكرانيا في أوروبا والساحل في أفريقيا، ليُضاف إليها الخسائر الفادحة التي تُلاحق حليفتها إسرائيل في فلسطين، فرغم الدّعم الغربي وبخاصة الأمريكي، في المجالات العسكريّة والسياسيّة والدعائيّة وغيرها، إلاّ أنّ واقع الميدان العسكري والسياسي والاقتصادي يُظهر بشكل واضح حجم الانتكاسات التي مُني بها التحالف الغربي في المنطقة، ويبدو أنّ كل تلك الأحداث التي جاءت متسارعة في وقت وجيز قد عرّت هيمنة الغرب وقدرات إسرائيل بشكل غير مسبوق، لتؤكد مرّة أخرى أن إحراز الانتصارات عن طريق المقاومة بشكل عام ليس مستحيلاً، وأنّ التوّجه نحو تلاشي النّظام المركزي العالمي قد لاحت بشائره.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.