التاريخ ما قبل العدوان المستمر على قطاع غزة غير التاريخ الذي يكتب هذه الأثناء وفيما بعد. حرب الإبادة هذه التي تستهدف الشعب الفلسطيني في غزة والضفة هي مفصل بين تاريخين.
لقد حاول المؤرخون الأوربيون والأمريكيون طيلة الحرب الباردة التي تلت الحرب العالمية الثانية أن يطمسوا التاريخ العنيف الذي كان عليه العالم الغربي. ثم كان على علماء الاجتماع والسياسة ورجال الفكر والفلسفة أنْ يخترعوا هذا النظام الحديث الذي غُلّف بكثير من الشعارات التي تعني قضايا الحرية وحقوق الإنسان. وقد تبنّت جمعية الأمم المتحدة التي تَصدّرتها الدول المنتصرة في الحرب تشريعات قانونية وعممتها على بقية دول المعمورة لتصبح بما يتعارف عليها اليوم قوانين الشرعية الدولية.
تصدع القوانين الدولية
هذه القوانين مجتمعة يعطلها منذ نشأتها الاحتلال الإسرائيلي المدعوم من العالم الغربي. واليوم، يطلق عليها طلقة الرحمة من خلال عمليات حرب الإبادة والتطهير العرقي التي ينفذها ضد السكان الأصليين في قطاع غزة.
ومن قبل ودائماً كان السؤال يظل ملتهباً حول هذه القوانين التي لا تُطبّق إلا على الدول الفقيرة: هل حمت هذه القوانين الإنسان في كل مكان وصانت كرامته، هل ردّت عنه الظلم، أفراداً وجماعات؟ هل أقامت العدل وأنصفت فقراء الكوكب؟، هل وفّرت لهم التقدم والرفعة، أم ظلّت الدول الأقوى ذات النهج الاستعماري تفرض نفسها كأنظمة انتداب استبدادية على الشعوب، ودأبت على نهب ومصادرة خيرات ومقوّمات بلادهم؟ هل ألزمت هذه القوانين الحكومات الغربية بقول الحقيقة، وفي تسمية الأشياء بمسمياتها ومعانيها، أم أنها امتهنت بوجهها سياسة الكيل بمكيالين، هذه التي قلبت الموازين وانحازت إلى جانب القاتل وشوّهت الضحية.
من النازية إلى الاحتلال الإسرائيلي
الأمر لم يعد يتوقف هنا فقط، والعالم يطالع ويسمع بقوانين تصدرها بلدان أوروبية خاصة بها تغرف من وعاء الكراهية والاستبداد، هذه التي يقف المرء حائراً أمامها ليكتشف أنّ انقلاباً يحدث في الأنظمة، وأنّ تدميراً ممنهجاً يصيب مداميك الحضارة المعاصرة.
القارة العجوز تبدو مصابة بزهايمر وما عادت تشبه نفسها، والأكثر تعبيراً عن هذه الحالة المرضية هي حكومة ألمانيا الاتحادية التي بدأت تعبّر بشكل أوضح عن سياساتها الجديدة التي تتبنى السياسات الاستعمارية الإسرائيلية، وكأن النازية التي قتلت اليهود في المحارق لم تكن من فعل الألمان.
كان العالم ينتظر أنْ تتطور قوانين المجتمع الدولي دعماً لرفعة الإنسان ولتكون أعمّ وأشمل في أنحاء المعمورة، وتطول كل البشرية على قدر واحد في العدل والمساواة، وعلى رؤية واحدة لوحدة المعايير. ويبدو أن هذه الرؤية كانت مجرد موقف رومانسي بني على آمال فقط.
فالحرب على غزة جاءت لتكشف كل المخبّأ في السياسات الغربية المقيتة وأولّها السياسة الفاشية القائمة على العنصرية والشعبوية التي ما عاد معها من مجال لستر العنصرية التي كانت تتصاعد في هذه المجتمعات التي جلبت عبر الانتخابات سياسيين متطرفين إلى سدة الحكم داعمين للكراهية.
أوروبا اليوم منقسمة على ذاتها، وبعضها على قطيعة مع إنسانيتها. والأسوأ في المشهد الأوروبي ظاهرة اليمين المتطرف الآخذ بالتمدد وتؤازره بعض المجموعات اليسارية التي تبحث في الطبق السلطوي عن حصتها. يسعى هذا اليمين عبر حضوره لإعادة أوروبا إلى قبليّتها وإلى عصور الظلام، إذ بات يشكل خطراً مباشراً على حياة المهاجرين، وبالأخص المسلمين منهم.
وكانت وزيرة الداخلية الألمانية ليست بعيدة عن هذا الدرْك الظلامي حين دعت مواطنيها المسلمين إلى إدانة حركة المقاومة الفلسطينية التي تدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني في وطنه، ومطالبتها لشعبها بالعيش في كرامة أسوة ببقية البشر، بينما أجازت الحق لدولة الاحتلال بالدفاع عن نفسها، وهو التعبير الأشد خبثاً والمستتر لمنح الاحتلال حق إبادة البشر والحجر والشجر في غزة، وهذا ما أكد عليه في بداية الحرب الرئيس الأمريكي الذي يبدو أنه من يدير السياسات الأوروبية بكل نزق وصلف.
بوليس لمراقبة المشاعر
بين مسلمي ألمانيا عشرات الألوف من الفلسطينيين ممن ساقتهم ظروف الشقاء والاحتلال إلى تلك البلاد، ولهم في غزة وكل فلسطين أهل يذبحون. واليوم يقومون بالاصطفاف الى جانب أهلهم، لكن يبدو أن الحكومة الألمانية لا يعجبها ذلك، فبدأت تقمع أي شيء يدعم حق فلسطين في ألمانيا، إذ لا يروق لحكومتها حتى تضامن أهل فلسطين المغتربين حتى في تشكيل مظاهرات أو تبرعات. بل يتخطى الأمر ذلك، إذ تدعم الحكومة الألمانية الاحتلال الإسرائيلي بدون أي شروط ولا قيود، بينما تقف وتقمع من يغرد بغير ذلك.
أي عبث هذا بالإنسان؟ وأي بلاد هذه التي تريد محو إرث جرائمها بجرائم جديدة؟ وهل يوجد نفاق أكثر من نفاق هذا النظام الذي يدعي الديمقراطية وهو ينشئ بوليس لمراقبة المشاعر والأفكار لمنع التضامن مع الأهل، ثم الإغارة على البيوت الآمنة لمجرد كتابة تعاطف مع ضحايا غزة ورد على أحد مواقع التواصل الاجتماعي.
هذا بالإضافة إلى قانون "معاداة السامية" الذي تستخدمة أوروبا كفزاعة تمنع به المواطنين من انتقاد الاحتلال الإسرائيلي، في حين أنّ خطايا وآثام وجرائم الاحتلال لا تعدّ ولا تحصى بحق الإنسانية وقوانين الشرعية الدولية. وحقيقة الأمر أنّ هذا القانون يضاهي "كتيبة إعدام" بحق المنتقدين، خاصة إذا كانوا من المهاجرين الذين يمكن أنْ يخضعوا لعقوبة الطرد من البلاد.
سياسات سوريالية
لقد وضعت الحكومات الأوروبية عبر فلسفات سوريالية، نفسها كمحامي الاستعمار وهي تدافع عن الاحتلال الإسرائيلي. الدول التي تغنت طولاً بالإنسانية، فجأة، وضعت نفسها على نقيض الإنسانية. فشرّعت قوانين عجيبة غريبة صادمة تفوق الخيال، ومن الصعوبة فهمها وهي تجافي العقل والمنطق الإنساني والحضاري. ومثل هذه الفلسفات تفتح العالم على معضلات وجودية ربما تقود إلى حروب دينية وثقافية واقتصادية.
فما يجري في قطاع غزة من جرائم ضد الإنسانية ما عاد يعني فقط الضحايا الفلسطينيين، بل يعني في أبعاده كل البشرية في أنْ تكون أو لا تكون.
الأنظمة التي أجازت قتل الأطفال والنساء، وغضت النظر عن قصف المستشفيات والمدارس وبيوت الله، وفرضت التجويع والعطش على المدنيين المحاصرين، عار على البشرية جمعاء أنْ سكتت وجعلت من المشهد أمراً مألوفاً.
المحاكم والقصاص
المجتمع الدولي مطالب اليوم بجلب كلّ مجرمي الحرب ومن يساندهم ويشجعهم على القيام بجرائمهم إلى المحاكم الدولية؛ ليلقوا القصاص العادل إنصافاً لحقوق الضحايا، ولكي لا يتعوّد المجتمع الدولي على هذه الوحشية الإسرائيلية.
رغم كل هذه العتمة، يأتي بصيص أمل حين نرى المظاهرات والمسيرات والتجمعات الصاخبة تعم عواصم ومدن العالم هاتفة ضد العدوان، ومعلنة وقوفها مع الحق الفلسطيني، ومستنكرة الوحشية الإسرائيلية المتبناة من الرئيس الأمريكي بايدن وإدارته، كنواة متقدمة في وضع أفكار ورؤى لصنع نهضة جديدة تقوم على أنقاض هذا الاهتراء في النظام الحالي الذي بات مقتلة للإنسان وفنائه.
وكما أقدمت البشرية في منتصف القرن الماضي على إدانة النازية والفاشية وكل أنظمة القتل، آن الأوان اليوم أن ترفع المجتمعات التي تعشق الحرية والسلام صوتها وتدين الاحتلال الإسرائيلي كنظام فاسد تنمو في أحشائه جينات الوحشية، ووجوده بهذه الهمجية بات يشكل خطراً على البشرية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.