تسطّر المقاومة الفلسطينية ضروباً من المجد في تصديها للعدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الثاني الماضي، إذ عجز الاحتلال الاسرائيلي المدعوم أمريكياً وغربياً، وبعد مرور 59 يوماً من الحرب، عن تحقيق اختراقٍ واضحٍ في عملياته البرية ضد قطاع غزة، وذلك بسبب أداء المقاومة الفلسطينية بمختلف فصائلها خلال هذه المواجهة، ومن بين هذه الفصائل قوات الشهيد عمر القاسم، إحدى مجموعات كتائب المقاومة الديموقراطية، الذراع العسكرية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.. فمن يكون الشهيد عمر القاسم؟
درس الإنجليزية وانخرط في حركة القوميين العرب وهو فتى
وُلد عمر محمود القاسم في حارة السعدية بمدينة القدس، في 13 من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1941، وترجع أصول عائلة القاسم إلى بلدة الطيرة، التي أقامت فيها حتى عام 1911م، وبعدها انتقلت إلى قرية حبلة، التابعة لمحافظة قلقيلية، قبل أن تستقر في القدس.
وفي القدس أكمل عمر القاسم دراسته الابتدائية والثانوية، فدرس الابتدائية في المدرسة العمرية القريبة من المسجد الأقصى، وأنهى دراسته الثانوية في المدرسة الرشيدية الثانوية عام 1958، ليعمل بعدها مدرساً في مدارس القدس.
كانت طموحات عمر القاسم الدراسية لا تُقاس، فقرر مواصلة دراسته الجامعية بالانتساب إلى كلية الآداب بجامعة دمشق، التي تخرج فيها بشهادة ليسانس الآداب من قسم اللغة الإنجليزية.
وعلى الرغم من صغر سنه، فإنّ عمر القاسم حمل الهمّ الوطني الفلسطيني مبكراً، إذ التحق في البداية بحركة القوميين العرب في سنّ الـ17 عاماً، وكان في مقدمة المظاهرات الشعبية المنددة بالاحتلال، ولم يغب عن أي فعالية وطنية رافضة للاحتلال.
ونظراً لنشاطه السياسي والسري في حركة القوميين العرب، أصبح على رأس قائمة المطلوبين في القدس، وتعرّض لعدة عمليات استهداف بالاغتيال والاعتقال من قبل الاحتلال، لكنه كان ينجح في الإفلات من قوات الاحتلال كلّ مرة.
وأمام تزايد الخطر حوله، قرّر عمر القاسم السفر إلى خارج فلسطين للالتحاق بمعسكرات الثورة الفلسطينية، حيث حصل على العديد من الدورات العسكرية، ومن ثمّ التحق بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين منذ انطلاقتها عام 1967، التي أصبح عضواً في قيادتها العسكرية، وتسلم مسؤولية القطاع الأوسط في عام 1968.
أسّس الجبهة الديمقراطية وأصبح أوّل عميدٍ للأسرى الفلسطينيين
وفي 28 أكتوبر/تشرين الأوّل من عام 1968 قرر العودة إلى فلسطين، من أجل مقاومة الاحتلال، وبُعيد اجتيازه نهر الأردن وهو على رأس مجموعة فدائية من كوادر الجبهة الشعبية التي كان هدفها التمركز في رام الله، لكنها اصطدمت في طريقها بكمين إسرائيلي قرب قرية كفر مالك، وتبادل الطرفان إطلاق النار إلى أن نفدت ذخيرة الخلية الفدائية، وتمّ أسر أفرادها وقائدها.
تعرّض عمر القاسم ومجموعته إلى تحقيق قاسٍ، إذ مورست عليه مختلف أساليب التعذيب على يد السجانين، إلى أن حكمت عليه محكمة الاحتلال العسكرية بالسجن المؤبد، ومكث في الغرف الإسمنتية فترة طويلة، كما شهد خلال فترة اعتقاله تنقلاً بين العديد من السجون وأقسامها.
ومن الأسر، ساهم عمر القاسم في فبراير/شباط 1969، في تأسيس الجبهة الديمقراطية التي خرجت من رحم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حيث كان له الدور المؤسس في تطوير بنيتها، وتعزيز وجودها، واتساع شعبيتها، وتثقيف رفاقها في السجون.
كما قام بتدريس الأسرى اللغة الإنجليزية، وقدّم للحركة الأسيرة دراسات قيّمة لأوضاع المعتقلين، وتجارب حركات التحرر العالمية.
ونظراً لطول مدة أسره، التي تجاوزت 20 سنة، أصبح عمر القاسم أوّل عميدٍ للأسرى الفلسطينيين، كما أُطلق عليه لقب "مانديلا فلسطين"، وذلك بسبب مسيرته النضالية داخل الأسر.
شارك القاسم في العديد من الإضرابات عن الطعام التي خاضها الأسرى، وكان من أبرز الداعين لها، كذلك ساهم في القيام بعشرات الخطوات الاحتجاجية، ونسج علاقات قائمة على الاحترام، فحظي باحترام الأسرى.
في عام 1974، وبعد قيام عناصر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بعملية معالوت، التي احتجز مسلحو الجبهة 22 عسكرياً إسرائيلياً في مدرسة عليا كرهائن، قامت إدارة السجن بنقل عمر القاسم ورفيقه أنيس دولة على متن طائرة مروحية إلى مكان العملية في الجليل، وطلبوا منه التحدث للفدائيين لتسليم أنفسهم وإطلاق سراح الرهائن، غير أن القاسم رفض ذلك، الأمر الذي استفز الاحتلال فانهالوا عليه بالضرب المبرح، ووضعوه في الزنازين الانفرادية، ورفضوا إدراج اسمه في كل عمليات تبادل الأسرى التي حدثت فيما بعد.
انتقم منه الاحتلال بحرمانه من الرعاية الصحية حتى وفاته
وبعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، حاول الاحتلال الدفع بخطوات للتهدئة لاحتواء زخم الانتفاضة المتصاعد، إذ رأى الاحتلال أيضاً أن تأثير عمر القاسم تجاوز حدود المعتقل، وأثناء مقابلة إسحق نافون، رئيس الاحتلال السابق مع القاسم داخل السجن، طلب منه عدم القيام بأي نشاط سياسي، مقابل الإفراج عنه والسماح له بالإقامة في القدس، وجاء رد عمر حازماً بالقول: "أمضيت 20 عاماً في الاعتقال، ولا يهمني مصيري الشخصي، ما يهمني هو قضية شعبي، وألا يبقى كابوس الاحتلال على صدر الشعب. سأبقى أناضل وسوف يأتي اليوم الذي أتحرر فيه".
كان انتقام الاحتلال من عمر القاسم من خلال تطبيقه سياسة الإهمال الطبي المتعمَّدة من قِبل إدارة مصلحة السجون، خصوصاً أنّ القاسم كان مصاباً بالعدد من الأمراض، ليستشهد داخل الزنزانة في الرابع من يونيو/حزيران عام 1989.
دفن الشهيد عمر القاسم في مقبرة الأسباط في مدينة القدس، وصُلّي عليه بالمسجد الأقصى، وشارك في تشييع جثمانه الآلاف من الجماهير والقيادات السياسية والوطنية، كما أُقيمت للشهيد مسيرات وجنازات رمزية، ومظاهرات عمّت أرجاء فلسطين المحتلة.