تركت أهلها ووطنها وحياتها الرغدة واختارت الانتقال إلى لبنان ثم مصر وفلسطين، وبالضبط قطاع غزة، فقط من أجل مساعدة الفلسطينيين والوقوف إلى جانبهم، إيماناً منها بقضيتهم، إنها الدكتورة الأسترالية جين كالدر، مؤسِّسة كلية تنمية القدرات الجامعية، التابعة للهلال الأحمر الفلسطيني.
فقد كانت كالدر واحدةً من بين أبرز الشخصيات التي عملت على مساعدة وإعادة تأهيل الفلسطينيين من ذوي الاحتياجات الخاصة في قطاع غزة، خصوصاً أنها تكفلت بثلاثة أيتام غير أشقاء من ذوي الاحتياجات الخاصة، واعتنت بهم إلى آخر يوم في عمرها، متقمّصة دور الأم الحنون التي عملت على حماية أطفالها وتربيتهم بأحسن الطرق، حتى وإن لم يكونوا من صلبها.
من أستراليا إلى غزة.. جين كالدر والعمل الإنساني
وُلدت الناشطة في مجال العمل الإنساني جين كالدر في ولاية كوينزلاند الأسترالية سنة 1937، وفي سنة 1982 اختارت الانتقال إلى بيروت والتطوع للخدمة في الهلال الأحمر الفلسطيني هناك، قبل فترة الاجتياح الإسرائيلي للبنان.
لكن بعد الاجتياح الإسرائيلي، وعندما أصبحت الأوضاع صعبة في لبنان، قرّرت جين الانتقال إلى بلد آخر، بعدما كانت تعمل لفترة طويلة في إسعاف الجرحى والمصابين المحتاجين للمساعدة.
إذ إنها قبل المغادرة قابلت ثلاثة أطفال أيتام من ذوي الاحتياجات الخاصة، وهم دلال ومحمود وبلال، وقررت التكفل بهم، لتكون أُماً لهم، ومساعدتهم للعيش بشكل أفضل بسبب أوضاعهم الصحية الصعبة.
فقد كان محمود يعاني من شلل رباعي وتأخر عقلي، وبلال مصاب بالضمور العقلي، أما دلال فقد وُلدت فاقدة لحاسة البصر.
وانتقلت معهم إلى سوريا، ثم إلى مصر سنة 1986، حيث توظفت في الهلال الأحمر الفلسطيني، وقامت بتأسيس مركز تأهيل متخصص في رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة، تابع للهلال الأحمر.
ترأست جين كالدر المركز حتى سنة 1994، وهي السنة التي تم فيها تأسيس السلطة الفلسطينية، إذ قررت الانتقال للعيش في قطاع غزة، رفقة أطفالها الثلاثة، بالضبط في مدينة خان يونس.
وهناك أكملت مسارها التضامني والإنساني، والتحقت مرةً أخرى بالهلال الأحمر الفلسطيني، حيث استأجرت بيتاً صغيراً بالقرب من مكان عملها.
إذ إنها قررت تأسيس كلية تنمية القدرات الجامعية، التي تعمل على مساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة صحياً واجتماعياً، من خلال تقريبهم بشكل أكبر من المجتمع، والاندماج داخله دون عوائق أو فروقات.
كرست حياتها لمساعدة الفلسطينيين
قررت جين كالدر عدم الزواج، والاستمرار في عملها الإنساني داخل قطاع غزة، إذ إنها لُقبت خلال سنوات خدمتها وحتى آخر يوم في حياتها بأُم الأطفال الأيتام، كما أنها عُرفت بإيمانها بالقضية الفلسطينية، وكانت مدافعةً عن الحرية، وضد الاحتلال، الشيء الذي جعلها قريبةً بشكل كبير من أهالي غزة.
إذ إنها كانت تحرص على دمج الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة في المدارس بين الأطفال الأصحاء، من أجل جعلهم مقبولين بشكل أكبر في المجتمع، كما أنها كانت رائدةً في مجال التعليم الشامل والمستمر، وقد حصلت على عدة جوائز وتكريمات على مستوى محلي ودولي.
ومن بين أهم الجوائز التي حصلت عليها وسام "رفيق" من أستراليا سنة 2005، تكريماً لها على خدماتها الإنسانية في منطقة الشرق الأوسط، ثم حصلت على دكتوراه فخرية في العلوم من جامعة كوينزلاند سنة 2012.
زيادةً على كل هذا تمكّنت جين من الاعتناء بأطفالها الذين رعتهم منذ الصغر، إذ إن دلال أصبحت مديرة التعليم المستمر، ومحاضِرةً في كلية تنمية القدرات الجامعية في جمعية الهلال الأحمر، فيما عملت على تزويج بدر الذي تمكَّن من تأسيس أسرة خاصة به، إلا أن وضع محمد الصحي كان صعباً، وتُوفي سنة 2008.
وبالرغم من عدم دخولها الدين الإسلامي وبقائها على المسيحية فإن جين كانت ملتزمةً بتربية أبنائها على قيم الإسلام، وتعليمهم الصلاة والصوم وقراءة القرآن.
ومن بين الطرق التي كانت تنتهجها من أجل ربط أطفالها الذين تكفلت بهم بالدين الإسلامي، مشاركتهم الصوم في شهر رمضان، كما أنها كانت قد أهدت دلال، التي وُلدت مكفوفةً، مصحفاً بلغة برايل، وكانت تسألهم عن أدائهم للصلوات الخمس وتُحدثهم عن ذلك.
وفاة بطعم الوفاء لقطاع غزة
توفيت جين كالدر بتاريخ 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، في مدينة خان يونس، التي دخلتها قبل 30 سنة ولم تخرج منها، حيث دُفنت في أراضيها، عن عمر يناهز 85 سنة.
وقد عانت جين من مرض سرطان القولون ابتداء من سنة 2020، إذ منعها الاحتلال من مغادرة قطاع غزة من أجل تلقي العلاج، عبر معبر "بيت حانون"، الشيء الذي تسبب في تدهور حالتها الصحية، ودخولها في غيبوبة لمدة طويلة.
لكن قبل وفاتها بفترة قصيرة انتقلت جين إلى مصر، إلا أن الوقت كان قد فات من أجل علاجها، فقررت العودة مرةً أخرى إلى غزة ولفْظَ أنفاسها الأخيرة هناك.
وقد نعى الرئيس الفلسطيني محمود عباس وفاة كالدر، ووصفها بالمرأة العظيمة التي قدمت نموذجاً فريداً من الإنسانية والتضحية والتعاطف مع الشعب الفلسطيني.
كما عبّر عدد من المسؤولين والمنظمات الإنسانية والتعليمية العالمية عن حزنهم وتقديرهم لمسيرة جين كالدر الحافلة بالعطاء والنجاح، خصوصاً فيما يخص القضية الفلسطينية.