تصعيد إسرائيلي لافت تجاه لبنان جرى بالتزامن مع إعلان الاتفاق على الهدنة بين جيش الاحتلال والمقاومة الفلسطينية بغزة، ولم يقتصر التصعيد على اغتيال نجل محمد رعد، رئيس كتلة حزب الله البرلمانية، بل شمل حشد الجيش الإسرائيلي لنحو مائة ألف جندي على حدود لبنان، فهل نحن أمام تصعيد شكلي لتغطية الإخفاق في غزة وإبعاد النظر عن الانتصارات التي تمثلها صفقة الأسرى لحماس، أما نحن بصدد سيناريو يصل إلى فتح جبهة جديدة مع حزب الله؟.
نعى حزب الله رسمياً 5 من مقاتليه، بينهم نجل رئيس كتلته البرلمانية "كتلة الوفاء للمقاومة"، في غارة شنتها إسرائيل جنوب لبنان، وقال في بيان إن عباس رعد، نجل رئيس كتلة حزب الله النيابية محمد رعد، "استُشهد على طريق القدس"، كما قصفت مسيرة إسرائيلية قبل عدة أيام عمق محافظة "النبطية" بجنوب لبنان لأول مرة منذ 2006، إضافة إلى ذلك استُشهد لبنانيان وتركيان مدنيان كانوا يتضامنون مع الشعب الفلسطيني ويقدمون الإغاثة له بجنوب لبنان إثر غارة إسرائيلية، حسبما ذكرت حركة حماس.
نتنياهو يصعّد في كل اتجاه بالتزامن مع الاتفاق على صفقة الأسرى
بعدما كانت إسرائيل حذرة في الرد على حزب الله وبدت حريصة على عدم توسع الصراع من غزة إلى لبنان وجبهات أخرى، فجأة بالتزامن مع صفقة تبادل الأسرى مع المقاومة الفلسطينية تشمل إبرام هدنة لأربعة أيام؛ صعّدت إسرائيل هجماتها ضد لبنان، عبر اغتيال نجل محمد رعد رئيس كتلة "حزب الله" البرلماني خلال غارة استهدفت منزلاً في جنوب لبنان، أثناء تواجده داخله مع عدد من عناصر الحزب.
وقالت قناة "الجديد" المقربة من حزب الله إن المجموعة المستهدفة تضم عدداً من أبناء النواب في كتلة "الوفاء للمقاومة" التابعة لحزب الله.
كما قصف طيران الاحتلال الإسرائيلي "الحربي"، أمس الأربعاء، محيط العاصمة السورية "دمشق"، في منطقة السيدة زينب بعدة صواريخ.
كما كان لافتاً أن إسرائيل عمدت إلى تصعيد هجماتها على غزة والإعلان أن موعد بداية الهدنة هو الجمعة وليس الخميس، مما دفع الوساطة القطرية للتأكيد على أن إعلان موعد بدء سريان الهدنة الإنسانية في قطاع غزة سيكون خلال الساعات القادمة، مشيراً إلى أن المحادثات بشأن الخطة التنفيذية لاتفاق الهدنة تسير بشكل إيجابي، وأن الدوحة تعمل بشكل مستمر مع حماس وإسرائيل، بالإضافة إلى الشركاء في القاهرة وواشنطن لضمان سرعة بدء الهدنة.
وتواصلت مظاهر استعراض القوة الإسرائيلية بالمنطقة قبيل بدء الهدنة؛ إذ توعد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأن "الحرب مستمرة" على الرغم من الاتفاق على وقف مؤقت لإطلاق النار وإطلاق سراح بعض الأسرى، وفي مؤتمر صحفي يوم الأربعاء.
إسرائيل حاولت امتصاص هجمات حزب الله، ولكن الخلاف الداخلي بشأن صفقة الأسرى قد يغير المعادلة
منذ بداية حرب غزة، كان الرد الإسرائيلي على حزب الله والأمريكي على الحشد الشعبي، أقل خشونة من المتوقع، وبدا واضحاً أن الجانبين حريصان على عدم إشعال جبهات جديدة في المنطقة، فهل هذا التصعيد الأخير يمثل تغييراً في هذا التوجه السابق، أم أنه محاولة لاستعراض العضلات خاصة من الجانب الإسرائيلي للتغطية على الإخفاق في القضاء على حماس وكذلك للتغطية على حقيقة أن صفقة الأسرى تمثل انتصاراً لحماس؟
وتثير صفقة تبادل الأسرى مع المقاومة الفلسطينية التي جرى التوصل لها بوساطة قطرية ودور أمريكي رئيسي خلافاً داخل الائتلاف الحاكم في إسرائيل، حيث عارضه وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير، الذي هدد بأنه إذا لم يتم استئناف الحرب على القطاع فإنه سوف يستقيل من الحكومة، كما اعتبر الإعلام العبري أن نتنياهو استسلم لشروط رئيس حماس في غزة يحيي السنوار.
فرغم محاولة الجيش الإسرائيلي إقناع وزراء الحكومة بأنه سيستطيع الاستفادة من الهدنة ميدانياً، فإن هذا يخالف تقارير سابقة تفيد أن الجيش الإسرائيلي يريد صفقة واحدة كبيرة لتبادل الأسرى وأنه يعارض فكرة صفقات جزئية متعددة بهدن متعددة وهو أمر تمهد له الصفقة الحالية، لأن مثل هذه الهدن سيكون في صالح المقاومة التي ستعيد تنظيم صفوفها.
كما أنه ووفقاً للهدنة المعلنة، تلتزم القوات الإسرائيلية بالبقاء في مواقعها، والأهم أنها تتضمن أيضاً وقف أطلاق النار، وهو ما يوفر ميزة كبيرة للمقاومة الفلسطينية.
المرحلة الأولى من الاتفاق تشمل إطلاق سراح 50 من المحتجزين المدنيين في قطاع غزة، وهذا العدد يمثل أقل من ربع الأسرى الإسرائيليين، وهذا قد يعني أنه قد يكون هناك مزيد من الهدن لإطلاق مزيد من الأسرى بما في ذلك اشتراط حماس وقفاً دائماً لإطلاق النار مع هدنة أكبر لإطلاق العدد الأكبر من الأسرى.
كل ذلك يضع نتنياهو في مأزق قد يدفع للبحث عن صورة انتصار في مكان آخر قد يكون لبنان أو سوريا أو كليهما.
حزب الله يريد تهدئة في جنوب لبنان بالتزامن مع هدنة غزة
اللافت أن حزب الله يبدو أنه كان يريد تهدئة في جنوب لبنان، بالتزامن مع الهدنة في غزة، وذلك قُبيل اغتيال عباس، نجل النائب محمد رعد.
وقال مصدر في حزب الله لـ"الجزيرة" إن "الحزب لم يكن جزءاً من المفاوضات المتعلقة بالهدنة وتبادل الأسرى بين حركة حماس وإسرائيل، ولكن جنوب لبنان هو جبهة مساندة لقطاع غزة، وتوقف القتال هناك سينسحب على لبنان، وإن حزب الله سيلتزم بالهدنة التي أعلن عنها إذا التزمت بها قوات الاحتلال الإسرائيلي".
ولكن المصدر أكد أن "أي تصعيد إسرائيلي في جنوب لبنان، أو في غزة خلال الهدنة، سيقابله رد من حزب الله".
غير أن اغتيال نجل القيادي بالحزب محمد رعد (خاصة لو افترض أنه مقصود) يبدو مخالفاً لهذا السيناريو القائل إن الهدنة مع غزة تعني تهدئة في جنوب لبنان.
وقُبيل اغتيال نجل رعد، حذَّر وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، الأربعاء، خلال زيارته لبيروت، من أن خطر انتشار الحرب سيتزايد ما لم تستمر الهدنة بين إسرائيل وحماس.
وقال وزير الخارجية الإيراني، أمير عبد اللهيان، لقناة الميادين ببيروت: "إذا لم يستمر وقف إطلاق النار، فلن تبقى الأوضاع في المنطقة كما كانت قبل وقف إطلاق النار، وسيتسع نطاق الحرب".
في المقابل، أكدت صحيفة معاريف الإسرائيلية أن المواجهة مع حزب الله قد تبدو حتمية.
اتجاهان في إسرائيل.. أحدهما يخشى فتح جبهة لبنان، والآخر يراها فرصة لتقليم أظافر الحزب
وقبل إعلان الهدنة في غزة بعدة أيام، قال تقرير لصحيفة Haaretz الإسرائيلية إنه "لولا حرب غزة، لكانت إسرائيل منغمسة بشدة في حرب مع حزب الله".
ويبدو أن هناك اتجاهين في إسرائيل بشأن التعامل مع حزب الله منذ بداية الحرب، اتجاهاً يميل لعدم التصعيد لعدم فتح جبهتين، خاصة أن المعركة في غزة مرشحة لأن تطول، واتجاهاً آخر يرى أن الحرب فرصة لإضعاف حزب الله وتنفيذ القرار الدولي الذي أوقف العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006، والذي قضى بمنع أي وجود مسلَّح من غير الحكومة اللبنانية جنوب نهر الليطاني، وأن تتولى قوات اليونيفيل الأممية تنفيذ ذلك.
ومن أبرز رموز تيار هذا التيار بالحكومة الإسرائيلية، وزير الدفاع يوآف غالانت، الذي يريد معاقبة حزب الله بشكل أكثر صرامة بسبب قصفه المواقع العسكرية الإسرائيلية على طول الحدود.
وفي وقت سابق، خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس الأمريكية جو بايدن، أعرب غالانت لوزير الخارجية أنتوني بلينكن عم رغبته في ضرب حزب الله بشكل استباقي، لكن زملائه الإسرائيليين رفضوا ذلك.
وتريد تل أبيب تحديداً التخلص من وجود قوات نخبة حزب الله على حدودها المعروفة باسم كتيبة الرضوان، حيث قالت صحيفة Haaretz: "الجيش الإسرائيلي يستغل التصعيد لإزالة ما يسميه "المضايقات المستقبلية" – بما في ذلك المواقع التابعة لقوة كتائب الرضوان التابعة لحزب الله والأسلحة المضادة للطائرات والدبابات المضادة التابعة للحزب".
والواقع أن حزب الله ضرب بهذا البند عرض الحائط تماماً، وتواجد قواته معروف في الجنوب اللبناني حتى لو لم يمكن ظاهراً للعيان، وقوات اليونيفيل تتجنب إغضاب حزب الله، خاصة أن الأغلبية السكانية في الجنوب شيعية موالية له؛ حيث عادة يحرك الحزب الشارع الشيعي ضدها إذا تخطَّت خطوطه الحمراء.
ويريد هذا التيار ترميم الردع الإسرائيلي في جبهة الشمال، الذي تآكل عبر سنوات، وهو أمر كانت قد تجاهلته المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، ولكن بعد هجوم "طوفان الأقصى" الصادم الذي نفذته "حماس" التي يفترض أنها أضعف من حزب الله، أصبح القادة الإسرائيليون قلقين من قدرات حزب الله المتصاعدة.
ما هي فرص شن إسرائيل حرباً واسعة على لبنان؟
يعني ما سبق أن هناك سيناريوهين، الأول أن تعمد إسرائيل لشن حرب واسعة على لبنان، لتدمير قدرات حزب الله وتدمير لبنان معها، وهو سيناريو تزايد احتماله مع حالة السعار التي أصابت القيادة العسكرية والسياسية الإسرائيلية، وشعورها بأن قدرات حركات المقاومة في لبنان وفلسطين باتت أخطر من أن تترك.
ولكن يظل هذا السيناريو أقل احتمالاً رغم تزايد فرصه، بالنظر إلى أنه سوف يواجَه في الأغلب بتحفُّظ أمريكي، كما أنه يأتي في ظل إخفاق إسرائيل في تنفيذ أهدافها في غزة باستثناء إيقاع إبادة جماعية بحق المدنيين، كما أن الوضع المتوتر في الضفة يشتت جهود الجيش الإسرائيلي، إضافة إلى أن هجوماً واسع النطاق على حزب الله قد يدفع فصائل المقاومة الفلسطينية لوقف صفقة الأسرى والهدنة المصاحبة لها.
وسيكون فتح جبهة مع حزب الله المتحصن في جبال لبنان الوعرة وأزقة الضاحية الجنوبية لبيروت ومدن جنوب لبنان الضيقة، والذي لديه مجموعة أقوى وأكبر من الصواريخ مقارنةً بالفصائل الفلسطينية بمثابة توسيع غير منطقي لحرب متعثرة أصلاً، وهروب من إخفاق إلى إخفاق أكبر، كما أنه يهدد بتوسيع نطاق الحرب إقليمياً، بما في ذلك تدخل الحوثيين في اليمن وقوات الحشد الشعبي العراقي، وتنفيذهم هجمات ضد أهداف أمريكية أو قيام الحشد وحزب الله بالتحرك من سوريا في وقت يمثل فيه استدعاء 360 ألف جندي احتياطي ضغطاً كبيراً على المجتمع والاقتصاد الإسرائيلي، ويشتت جهود واشنطن عن حرب أوكرانيا والمنافسة مع الصين.
الاحتلال قد يلجأ للتصعيد المحسوب، ولكن كيف سيرد الحزب على مقتل نجل محمد رعد؟
السيناريو الثاني، هو سيناريو التصعيد المحسوب، ولكن هذا السيناريو قد تُفسده عدة عوامل، منها أن اغتيال هدف كبير مثل نجل محمد رعد يتطلب رداً من حزب الله، قد يكون أكبر مما يمكن لإسرائيل تحمّله، كما أن التصعيد المتبادل قد يخرج عن السيطرة ويتحول لحرب تدريجياً.
ولكن يظل هناك احتمال بأن يكون رد حزب الله محدوداً، خاصة أن إيران سبق أن كان ردها شكلياً على اغتيال واشنطن لقاسم سليماني، قائد فيلق القدس بالحرس الثوري وأيقونة النفوذ الإيراني بالمنطقة عام 2020 بالعراق، كما أن رد حزب الله على اغتيال قائده الكبير عماد مغنية في سوريا عام 2008 كان محدوداً، فكثيراً ما تعتبر إيران والحزب هذه الاغتيالات خسائر حتمية لا تؤثر على استراتيجتها الكبرى، وتحتاج فقط إلى رد شكلي.
تل أبيب قد تضغط لنَيل تنازل تريده منذ فترة من حزب الله
وقد تحاول إسرائيل من خلال التصعيد الحالي انتزاع تنازل من حزب الله، بإلزامه بقرار مجلس الأمن رقم 1701، الذي أنهى حرب لبنان الثانية عام 2006، وينص على عدم وجود أي قوات مسلحة له جنوب نهر الليطاني، ولكن من المرجح ألا يوافق حزب الله على تنفيذ ذلك فعلياً.
وقد يكون هناك ما يشبه التفاهم الذي يُبرم عبر وساطات (قد تكون أمريكية وفرنسية)، لتصعيد محسوب من قِبَل حزب الله وإسرائيل لحفظ ماء وجه الطرفين، مع العمل على منع تحوُّل الوضع إلى حرب جديدة لا يريدهما أي منهما على الأرجح. ولكن تظل سياسة حافة الهاوية التي يتجه إليها حزب الله وإسرائيل تهدد بخروج الأمور عن السيطرة، خاصة في ظل شعور نتنياهو بأن مستقبله السياسي بات مهدداً في ظل الانتقادات الموجهة للإخفاق الأمني الإسرائيلي في عملية طوفان الأقصى واستعادة الأسرى، والاتهامات المتصاعدة له بأنه مسؤول عن هذه الإخفاقات الجسيمة؛ بسبب الانقسام الداخلي الذي سبَّبه عبر إصراره على التعديلات القضائية.