لم تكن أمريكا دائماً حليف إسرائيل الأقوى، فما الذي تغير؟ ولماذا؟ وكيف وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه في رئاسة جو بايدن من "رعاية" كاملة للاحتلال الذي يرتكب جرائم حرب ربما لم يرتكبها غيره تاريخياً؟
صحيفة The Guardian البريطانية نشرت تقريراً يرصد تاريخ العلاقات بين أكثر دولتين مكروهتين في الشرق الأوسط، وربما حول العالم هذه الأيام، في ظل تواصل العدوان الإسرائيلي الغاشم وغير الإنساني على قطاع غزة، والدعم الأمريكي غير المحدود لهذا العدوان، سياسياً وعسكرياً وإعلامياً واقتصادياً.
فرنسا وليست أمريكا.. حليف إسرائيل الأبرز
كانت الولايات المتحدة أول دولة تعترف بحكم الأمر الواقع بالحكومة الإسرائيلية الجديدة، عندما أعلنت الدولة اليهودية عن قيامها في 14 مايو/أيار 1948. وبعد مرور 75 عاماً تظل واشنطن أقوى حليف عسكري ودبلوماسي لإسرائيل.
لكن الأمر لم يكُن دائماً على هذا النحو، فخلال العقدين الأولين بعد نشأة إسرائيل كانت فرنسا الحليف الأجنبي الرئيسي لها، وزوَّدتها بجميع أسلحتها الكبرى تقريباً، بما في ذلك الطائرات والدبابات والسفن، فضلاً عن بناء المحطة النووية التي طوّرت منها الأسلحة الذرية.
ولم تقدم الولايات المتحدة حينها نفس الغطاء الدبلوماسي الذي تقدمه اليوم، وعندما هاجمت إسرائيل مصر مع البريطانيين والفرنسيين خلال أزمة السويس عام 1956، انضمت واشنطن إلى موسكو في الأمم المتحدة لإجبار إسرائيل وحلفائها على الانسحاب.
ولسنوات عديدة اقتصرت المساعدات الأمريكية لإسرائيل على القروض لشراء الغذاء، خلال الصعوبات الاقتصادية في السنوات التي تلت الاستقلال.
إذاً ما الذي تغيّر ولماذا؟
مع تصاعُد التوترات قبل حرب الأيام الستة عام 1967، فرضت باريس حظراً على الأسلحة على المنطقة، ورفضت تسليم 50 طائرة مقاتلة دفعت إسرائيل ثمنها، وبعد الحرب انحازت فرنسا إلى جانب الدول العربية، وذلك جزئياً لتحسين العلاقات بعد هزيمتها في الحرب الاستعمارية في الجزائر.
وكان الرئيس ليندون جونسون متعاطفاً مع موقف إسرائيل، لكنه كان متردداً بشأن توريد كميات كبيرة من الأسلحة بسبب القلق من صراع إقليمي يجذب الاتحاد السوفييتي.
وبعد انتصار إسرائيل واحتلالها لغزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، خلُصت واشنطن إلى أنَّ الدول العربية انتقلت إلى المعسكر السوفييتي، وبالتالي زادت مبيعات الأسلحة للدولة الإسرائيلية، بما في ذلك مقاتلات الفانتوم النفاثة.
وألزم جونسون الولايات المتحدة بالحفاظ على "التفوق العسكري النوعي" لإسرائيل، وفتح الباب أمام عقود من مبيعات الأسلحة التي ساعدت في بناء جيش الاحتلال الإسرائيلي، لتتشكل أسطورة "أقوى جيش في الشرق الأوسط".
هل دعمت الولايات المتحدة إسرائيل لتطوير أسلحة نووية؟
في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي بنت فرنسا مفاعلاً أكبر لإسرائيل، قادراً على إنتاج البلوتونيوم، ومصنعاً لإعادة المعالجة في منشأة سرية في ديمونة في صحراء النقب، التي وفرت الأدوات الأساسية لتطوير سلاح نووي. وأبلغت إسرائيل الولايات المتحدة بأنَّ المحطة النووية ليست إلا "لأغراض سلمية"، لكن في عام 1960 خلُصَت وكالة المخابرات المركزية إلى أنها ستستخدم لإنتاج البلوتونيوم لتصنيع الأسلحة.
في عام 1963، طالب الرئيس جون كينيدي إسرائيل بالسماح بإجراء عمليات تفتيش أمريكية منتظمة لمفاعل ديمونة، وحذر من أنَّ الفشل في تقديم "معلومات موثوقة" حول المحطة النووية من شأنه "تعريض دعم واشنطن لإسرائيل للخطر الشديد"، وفقاً لتقرير صدر عام 2019، في صحيفة Haaretz الإسرائيلية.
وقد وافقت إسرائيل على عمليات التفتيش، لكن بعد اغتيال كينيدي كانت إدارة جونسون أقل صرامةً في التعامل مع هذه القضية، وتوقفت عمليات التفتيش في عام 1969. وبحلول ذلك الوقت خلُص المسؤولون الأمريكيون إلى أنَّ إسرائيل كانت تعمل بالفعل على تطوير قنبلة ذرية، رغم ادعاءاتها عكس ذلك.
متى انضمت الولايات المتحدة لأعمال الوساطة للوصول لاتفاقيات سلام؟
خلال حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، التي شنّتها مصر وسوريا على إسرائيل، انزعج الرئيس ريتشارد نيكسون من التلميحات الإسرائيلية حول استخدام الأسلحة النووية، عندما اضطرت قواتها في البداية إلى التراجع عن مواقعها في سيناء المصرية والجولان السورية، فأمر نيكسون بإرسال جسر جوي للإمدادات العسكرية إلى إسرائيل.
وبعد أن ساعد الدعم الأمريكي في تماسك جيش الاحتلال، أصبحت الولايات المتحدة أكثر حرصاً على الحد من حجم الخسائر المصرية جزئياً لإبقاء السوفييت خارج الصراع، لكن أيضاً لتعزيز النفوذ الأمريكي على الزعيم المصري أنور السادات. وهذا بدوره مهد الطريق لاتفاقية السلام الإسرائيلية المصرية في وقت لاحق من هذا العقد.
أدى فشل الحكومة الإسرائيلية في توقع حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 (حرب يوم الغفران) إلى إعادة تنظيم سياسي شهد وصول حزب الليكود اليميني إلى السلطة لأول مرة مع مناحيم بيغن رئيساً للوزراء. ووجه بيغن دعوة للسادات، عبر الولايات المتحدة، لزيارة القدس، وألقى الرئيس المصري كلمة أمام البرلمان الإسرائيلي.
وأشرف الرئيس جيمي كارتر على أشهر من المفاوضات التي تُوِّجَت باتفاقيات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، ومهدت الطريق لمعاهدة السلام الإسرائيلية المصرية النهائية، في مارس/آذار 1979، والتي شهدت انسحاب إسرائيل من سيناء. لكن بيغن رفض محاولات كارتر للتوصل إلى اتفاق يقضي بتخلي إسرائيل عن الأراضي الفلسطينية التي احتلتها عام 1967.
إذا أراد كارتر السلام، فما الذي أراده رونالد ريغان؟
كان خليفة كارتر، رونالد ريغان، مهتماً ببيع الأسلحة أكثر من اهتمامه بالتوسط في السلام. وتحت إدارة ريغان تعزّز الدعم العسكري لإسرائيل، وبدأت أيضاً دفاعاً دبلوماسياً أكثر نشاطاً عن إسرائيل، وخاصةً حمايتها من الانتقادات في الأمم المتحدة.
ووقع البلدان اتفاقيات عسكرية استراتيجية، وبدأت واشنطن في تخزين الأسلحة في إسرائيل المخصصة رسمياً للقوات الأمريكية، لكن يمكن تسليمها بسرعة إلى الإسرائيليين.
وكانت هناك توترات، فقد وقع الهجوم الإسرائيلي على المفاعل النووي العراقي في عام 1981 دون موافقة الولايات المتحدة؛ ما دفع ريغان إلى تعليق بعض شحنات الأسلحة، ولم تكن الإدارة الأمريكية راضيةً عن الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982.
لكن واشنطن واصلت حماية إسرائيل في الأمم المتحدة، بما في ذلك استخدام حق النقض (الفيتو) ضد التحرك السوفييتي في مجلس الأمن لفرض حظر على تزويدها بالأسلحة، ومع ذلك صدمت إدارة ريغان إسرائيل بالتحدث مع منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، وهي المنظمة التي كانت تعتبرها إسرائيل "إرهابية".
ما الذي حدث لجميع مبادرات السلام؟
اعتقد عددٌ من الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين أنهم قد يكونون هم من يتوصلون أخيراً إلى اتفاق سلام بين إسرائيل وفلسطين.
ويمكن القول إنَّ الرئيس بيل كلينتون كان الأقرب عندما أشرف على سلسلة من المحادثات والاتفاقات التي انتهت إلى اتفاقيات أوسلو للسلام عام 1993، التي أنشأت السلطة الفلسطينية مع حكم محدود على أجزاء من الأراضي المحتلة، باعتبارها خطوةً نحو التوصل إلى اتفاق نهائي.
لكن اغتيال إسحاق رابين، رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي وقّع الاتفاقيات، في عام 1995، فتح الطريق أمام صعود بنيامين نتنياهو إلى السلطة، الذي عارض علناً قيام دولة فلسطينية، وبذل قصارى جهده لإفساد اتفاقية أوسلو.
وكان لدى كلينتون فرصة أخيرة للتوصل إلى اتفاق في قمة كامب ديفيد عام 2000 بين زعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود باراك. وعندما فشلت تلك المحادثات ألقى كلينتون اللوم على عرفات، لكن بعض مسؤولي كلينتون الذين حضروا المحادثات قالوا إنَّ العرض الإسرائيلي لم يفِ بما هو مطلوب للتوصل إلى اتفاق.
وفي وقت لاحق، قال أحد المفاوضين الإسرائيليين، وزير الخارجية شلومو بن عامي، إنه لو كان فلسطينياً لرفض مقترحات كامب ديفيد. وفي عام 2005 قال آرون ديفيد ميلر، المسؤول السابق بوزارة الخارجية الأمريكية، الذي اضطلع بدور أساسي في جهود السلام التي بذلها كلينتون، إنَّ واشنطن لم تكُن حكماً محايداً، بل تصرفت باعتبارها "محامي إسرائيل، الذي يرعى الإسرائيليين وينسق معهم على حساب نجاح مفاوضات السلام".
وأطلق خليفة كلينتون، الرئيس جورج دبليو بوش، جهود السلام الخاصة به، تحت عنوان "خارطة الطريق"، رغم أنَّ سبب دفعه بهذه الخطة يرجع جزئياً للتعويض عن الضرر الدبلوماسي الذي أحدثه الغزو الأمريكي للعراق.
ولم يتمكن رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون من تحدي البيت الأبيض؛ لذلك أشاد بخطة بوش ثم شرع في تخريبها من خلال وضع الشروط. واستخدم انسحاب المستوطنات اليهودية والقواعد العسكرية الإسرائيلية من غزة عام 2005 كوسيلة لتجميد خارطة الطريق في "بدايتها… حتى لا تكون هناك عملية سياسية مع الفلسطينيين"، على حد تعبير رئيس أركان شارون، دوف فايسغلاس.
لماذا كانت العلاقات بين إسرائيل وأوباما متوترة؟
أشرف الرئيس الأسبق باراك أوباما على أكبر حزمة من المساعدات العسكرية لإسرائيل على الإطلاق، بقيمة 38 مليار دولار على مدى عقد من الزمن، لكنه ظل يعتبر حليفاً غير موثوق به، وخاصةً من رئيس الوزراء نتنياهو.
وشعر المسؤولون الإسرائيليون بالغضب عندما اختار أوباما إجراء أول زيارة للمنطقة بعد توليه الرئاسة للقاهرة، حيث ألقى خطاباً وعد فيه العالم الإسلامي بـ"بداية جديدة" بعد غزو العراق. وعقد أوباما ونتنياهو اجتماعاً متوتراً في البيت الأبيض، حيث قال الرئيس إنه يريد تجميد بناء المستوطنات اليهودية، وأن تأخذ إسرائيل محادثات السلام مع الفلسطينيين على محمل الجد.
وطلب بعض المسؤولين في الإدارة الأمريكية من الرئيس أوباما أن يحدد موعداً نهائياً لنتنياهو للموافقة على المحادثات، وإلا سيواجه الولايات المتحدة التي ستطرح خطتها الخاصة لإقامة دولة فلسطينية، لكن هذا التصميم تراجع مع حشد الزعيم الإسرائيلي الدعم السياسي في الولايات المتحدة، وخاصةً بين الجمهوريين الذين كان يسعدهم مهاجمة أوباما.
إضافة إلى ذلك، عارض نتنياهو علانيةً الاتفاق الأمريكي مع إيران لاحتواء برنامجها النووي، واعتبره "خطأً تاريخياً" من شأنه السماح لطهران بتطوير أسلحة نووية. واتخذ الزعيم الإسرائيلي خطوةً غير مسبوقة بانتقاد سياسة البيت الأبيض علناً في خطاب ألقاه أمام الكونغرس.
وأطلق أوباما رصاصة وداع في الشهر الأخير له في منصبه، عندما رفضت الولايات المتحدة على غير العادة استخدام حق النقض ضد قرار في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، يدين بناء المستوطنات الإسرائيلية. وردّ نتنياهو بالقول إنه يتطلع إلى وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
هل كان ترامب ونتنياهو على وفاق؟
بحلول نهاية فترة ولايته الرئاسية لم يكُن دونالد ترامب يحظى بشعبية كبيرة في معظم أنحاء العالم، وكانت إسرائيل استثناءً، بعدما نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، معترفاً بالمدينة عاصمةً لإسرائيل، وهو ما لم تفعله معظم الدول.
وتفاوضت إدارة ترامب على صفقات لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والعديد من الدول العربية. وطرحت نسختها الخاصة من مقترح السلام بين إسرائيل وفلسطين، الذي يسمح لإسرائيل بضم حوالي 30% من الضفة الغربية. وتضمنت الخطة رؤية لدولة فلسطينية تتكون من عدة جيوب محاطة بالأراضي الإسرائيلية التي تحمل تشابهاً كبيراً مع مقترحات اليمين الإسرائيلي، التي وُصِفَت بأنها تكرار لنظام الفصل العنصري للسود في جنوب أفريقيا.
وكشف وزير خارجية ترامب، ريكس تيلرسون، أنَّ نتنياهو أنتج مقطع فيديو مفبركاً للرئيس الفلسطيني محمود عباس، يدعو فيه إلى قتل الأطفال، بعدما أشار الرئيس الأمريكي إلى أنَّ الزعيم الإسرائيلي قد يكون العقبة الحقيقية أمام السلام مع الفلسطينيين. وإثر ذلك انقلب موقف ترامب ضد الفلسطينيين.
وفي العام التالي انسحب ترامب من الاتفاق النووي الإيراني
ثم جاء جو بايدن إلى البيت الأبيض لتشهد رئاسته دعماً غير محدود لأكثر الحكومات الإسرائيلية تطرفاً، برئاسة نتنياهو وحلفائه من زعماء الأحزاب الدينية وأحزاب المستوطنين، لينفجر الموقف بصورة غير مسبوقة، عندما ردَّت المقاومة الفلسطينية في غزة، يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، على الجرائم الإسرائيلية المتكررة بحق الفلسطينيين وأراضيهم ومقدساتهم في القدس والضفة المحتلتين وقطاع غزة المحاصر.