لا يحتاج السلاح يداً فحسب، ولا السلام رغبة فقط، وإنما يستلزم الأمران عقلاً ووعياً ورشداً يحددان الوجهة والوقت اللذين يرسمان فعل البداية وانتصار النهاية، فبدونهما يتحول السلاح إلى أداة إيذاء، ويتحول السلام إلى لعبة ساذجة يتسلى بها العدو وهو يتفنن كل حين بشكل القتل الذي يقدمه لنا على طاولة البؤس والهوان!
إذن.. ليست المشكلة بطاولة المفاوضات ذاتها، بل بمن يجلس عليها، وما يوضع فوقها!
ليس التفاوض سلوك الضعفاء دوماً، بل هو خيار مقاوم وصامد، ما دام عرف كيف يختاره وينتقيه بعناية، وهو فعل منطقي ومطلب، ما دام يأتي في اللحظة المرسومة له بدقة، ودون أن يأتي ارتجالاً أو اضطراراً.
والتاريخ يحدثنا دوماً عن أشكال من هذه اللحظات المصيرية، بدءاً من سيرة سيدنا الرسول الأعظم -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ انتقل الإيقاع التفاوضي حسب طبيعة كل مرحلة وبالتزامن والتناغم مع أشكال الفعل الأخرى، حتى أنتجت دولة العدل المسلمة وحافظت عليها وعلى امتدادها المطلوب.
وعلى الطرف الآخر، في تواريخ الآخرين قصص كثيرة، كانت المفاوضات فيها نتيجة عناد وتزمت وعدم قراءة للساحة جيداً، فغدت الاتفاقيات معنونة بالذل، ورافعة رسالة الهزيمة، وواضعة خارطة مرحلة التكبيل والتقييد والاستسلام.
ولنا في العراق قصص لا تنتهي لتلك الحكايات التي دمرت شعباً بأكمله حيناً، وأمعنت بتمزيق جسده بالسلاح الأعمى ليكون وبالاً على الشعب والوطن، ولم تنتهِ القصص، فتبعاتها وتراكماتها ممتدة لعقود مليئة بالشقاء حيناً آخر!
لذلك، أظن اليوم، وبمستوى من اليقين المقنع، أنه حانت لحظة التفاوض في غزة، فهي لحظة تثبيت محطة التقدم والانتصار المتحققة، وهي مرحلة جمع المكاسب التي ــ وعلى الرغم من كل شكل المأساة الظاهري ـ تمنح مقعد أهل غزة على طاولة المفاوضات الكثير الكثير من القوة والثبات، في ظل إمعان العدو الغاصب بالصراخ بلغة القوة الغاشمة، والكل يعلم أنها لغة بدائية تحمل معاني عديدة من بينها اليأس من تغيير المعادلة على الأرض.. ومن لا يفهم سوى هذه اللغة لا يعلم كثيراً أنه يدمّر نفسه بيديه دون أن يشعر!
إن التكتيك المبني على الرؤية الاستراتيجية العامة متعدد الأفعال والأشكال.. ونحسب أن طوفان الأقصى محسوب الأمواج مدروس في امتداداته، فلم يخطط له ليكون معركة التحرير الشاملة، وإنما هي مرحلة ومحطة أصيلة على طريق التحرير الطويل، والذي يترجح أنها حققت ثمارها المرجوة، ويكفي بإيقاد جذوة قضية فلسطين مكسباً.. وتحطيم سكك قطار التطبيع الآثم منجزاً.
ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة عظيمة حسنة، ففي صلح الحديبية، لما اتفق الطرفان على بنود الصلح، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لسيدنا علي اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فاعترض سهيل بن عمرو وقال اكتب باسمك اللهم، فأقره النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه، ثم أكمل صلى الله عليه وسلم، فقال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو، فاعترض سهيل وقال: لو كانوا يعلمون أنك رسول الله ما صدوك وما قاتلوك، وطلب أن يكتب اسمه فحسب، فوافق النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: امحها يا علي، فامتنع علي رضي الله عنه عن محوها تأدباً، فأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحيفة فمحاها، وقال: اكتب محمد بن عبد الله، متنازلاً صلى الله عليه وسلم عن بعض الميزات والمكاسب الآنية المحدودة من أجل الفوز مستقبلاً بمكاسب أعظم.
واليوم: الكل يبحث عن نصر، ولكن ليس كله سواء، فهناك نصر واهم، وهناك نصر القسّام!
ملاحظة: من لا يرى أبعد من أرنبة أنفه لن يرى التقدم الحاصل أو يفهم هذا الكلام، فهو لم يسمع يوماً بنصر أصحاب الأخدود، ولا يبصر سوى الأشلاء… وهذا المقال ليس لهم دون شك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.