رغم سيطرة اليمين المتطرف بزعامة نتنياهو على القرار الأوروبي البريطاني والأمريكي؛ ورغم السماح بمزيد من الوقت لتحقيق انتصار يغسل حجم العار والدمار، ورغم ذلك كله يُكسر أنف جيش الاحتلال الإسرائيلي ولم يعد هناك وقت لمزيد من الخسائر والتورط في وحل هزيمة مؤلمة يبكي لها أعضاء الكنيست الإسرائيلي المنهزم.
وكلما ازدادت المعاندة من نتنياهو تقلصت الفرص في إحراز تقدم ميداني؛ لذلك كان لا بدَّ أن تتعقل الولايات المتحدة الأمريكية الأمور ولا تندفع نحو تطلعات وطموحات شخصية لرئيس الوزراء المهزوم والمأزوم سياسياً وعسكرياً.
فقوات الاحتلال الإسرائيلي إذا أرادت نشر ترسانته واستعراض قوته وما يمتلكه من قدرات عسكرية فائقة القوة بالغة التطور التكنولوجي؛ إذا أرادت نشر تلك القوات فإنها تحتاج إلى أضعاف مساحة غزة!
ورغم ذلك، فإن ما يحدث ميدانياً وعسكرياً هو معجزة تخطت الحدود والجغرافيا والمنطق العسكري.
تلك الحرب وضعت حداً للتحالفات وأظهرت كل المؤامرات وأوضحت كيف تدور السياسة الدولية في العالم وانكشفت مشاهد العبثية التي كانت تفتخر بالإنسانية والحرية والكرامة والمساواة والعدل وقوة الشرعية الدولية لا شرعية الغاب!
لم تتأكد أمريكا من هيسترية موقفها غير المدروس إلا بعد غرق قوات الاحتلال الإسرائيلي في رمال غزة وعدم قدرة القيادة السياسية ولا العسكرية على إعادة الأوضاع إلى الآن إلى ما قبل السابع من أكتوبر.
لذلك يبدو أن متغيراً كبيراً قد حدث في الموقف الأمريكي، حيث عقد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن مؤتمراً صحفياً في العاصمة اليابانية طوكيو بعد اجتماع وزراء خارجية الدول السبع، قال فيه كلاماً مهماً عن قطاع غزة ومستقبله، مما يمكن أن يعد تراجعاً كبيراً عن كل المواقف التي أطلقتها الإدارة الأمريكية منذ بداية "طوفان الأقصى".
وقبل الدخول في أهم ما قاله وزير الخارجية الأمريكي، نؤكد أن هذا التراجع الأمريكي بعد أكثر من شهر على بداية المعركة ما كان له أن يحدث، لولا صمود وتضحيات شعبنا وبسالة المقاومة في قطاع غزة وشجاعة وقدرة الحاضنة الشعبية على الوقوف أمام ذلك الاحتلال الغاشم.
بدأ الموقف الأمريكي من العدوان على غزة ينحني متراجعاً عن صلابته التي أظهرها في البداية، وهو تراجع فرضته طبيعة مجريات المعارك على الأرض، فضلاً عن إدراك إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن حجم الخطأ الاستراتيجي الذي وقعت به، ويمكن تلخيص ما قاله بلينكن بأن الاحتلال الإسرائيلي لن يستطيع إدارة القطاع، وأن واشنطن تدعم المسار السياسي للصراع، عبر إعادة تطبيق فكرة حل الدولتين كمدخل لإنهاء الحرب الحالية.
هذا التبدل المهم في الموقف الأمريكي يأتي نتيجة لتضحيات أهلنا في غزة وصمودهم وجهد المقاومة.
بالإضافة إلى حرص الإدارة الامريكية على مصالحها وحفاظاً على جيش الاحتلال الإسرائيلي وحمايته من السقوط والفشل أكثر من ذلك.
فالمعركة اليوم مختلفة تماماً، لما لها من تداعيات وتأثيرات إقليمية ودولية واسعة، حيث عرت الازدواجية لدى الإنسانية الأوروبية الأمريكية التي كانت مجرد خديعة لم يكتب لها الاستمرار وقتاً أكثر من ذلك.
فبالمقارنة بين إنسانية أمريكا وأوروبا في حرب أوكرانيا وإنسانيتها المعدومة في حرب غزة تم تعرية الحقيقة بسهولة حتى رئيس أوكرانيا نفسه الذي نال تعاطف العرب لم يخفِ صهيونيته وانحيازه الكامل للمحتل بتصريحاته العنصرية واللا إنسانية.
وفشلت كل الحجج الواهية، بداية من "دعشنة" المقاومة إلى حق الدفاع والرد، وأصبح واضحاً للجميع أن تلك الحرب يتم التحكم فيها بعقلية وعقيدة دينية عنصرية ومتطرفة مرتكزة على فكر استعماري صهيوني يكنّ كل الكراهية للعرب ويعتبرهم حيوانات بشرية.
هذه العقلية بلا أي أفق سياسي وهو ما يجر الولايات المتحدة الأمريكية لخسائر لا تُحمد عقباها، وهو ما تدركه الإدارة في واشنطن اليوم، حيث أدركت تلك العقلية أنها تجر الجميع إلى الهاوية.
ورغم واقع الهزيمة العسكرية المؤلمة ورغم ما نشهده من تغيير في التصريحات والمواقف، ظل الخطاب الإعلامي الرديء لأمريكا وأوروبا وإسرائيل كما هو، إذ يتحدث عن مستقبل غزة من دون حماس ويتشاورون فيما بينهم عن تشكيل قوة دولية تدير القطاع مع وجود قوات عربية ضمن تلك القوات، غير أن الدول العربية رغم موقفها المتخاذل لم توافق على المشاركة في تلك القوات ولن تستطيع ذلك.
ربما لم تستوعب الإدارة الأمريكية بشكل كامل حتى الآن ميدانياً وعسكرياً حجم الهزيمة ولا تبعاتها ولا متغيراتها، ولا ترغب بالاعتراف بالفشل والهزيمة، وتحاول دعم استمرار الاحتلال في نفس مسار ارتكاب فظائع وجرائم حرب ضد الإنسانية في غزة من أجل ترميم ما تم سحقه عسكرياً واستخباراتياً.
لكن تعلم أنها إذا استمرت ربما ستفشل وتهزم، وسوف يكون الاحتلال حينها مجبراً على التراجع والاعتراف بالهزيمة وقبول وقف إطلاق النار.
طالت الحرب أم قصرت، فإن المقاومة صنعت المستحيل، وحققت نجاحات كبيرة ومعجزات عسكرية غير مسبوقة وتفوقاً ميدانياً كبيراً على مستوى التخطيط العسكري والتفوق الاستخباراتي والمعلوماتي واحترافية الخطاب الإعلامي العسكري الرائع، الذي جذب انتباه الملايين في العالم، وانقلبت معه كل المفاهيم والقيم والأخلاق والمبادئ الجامعة التي يرتضيها ويقبلها العالم الحر؛ وأصبحت القضية الفلسطينية حاضرة في كل المنتديات وكل التجمعات الدولية.
ومن أهم أسباب نجاحات المقاومة، الحاضنة الشعبية للقضية الفلسطينية التي أذهلت العالم في ثباتها وصمودها، رغم الإبادة الجماعية والقصف المجنون ومسح أحياء بكاملها من خارطة العمران في غزة؛ حيث تجتمع قوة دولية وإقليمية عسكرية في العالم، كما اجتمع أغلب أوروبا وأمريكا وإسرائيل لحرب بقعة جغرافية صغيرة، ستصبح رمزاً لأصغر مساحة جغرافية في العالم تهزم أقوى جيوش واستخبارات العالم.
لقد أثبتت تلك المعركة أن الشعوب وأصحاب الأرض ينتصرون مهما تعاظمت قدرات المحتل العسكرية والاستخباراتية، فالأرض تعرف أصحابها وتحارب المحتل معهم!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.