رصد تقرير لصحيفة Financial Times البريطانية، الخميس 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، كيف تجاهلت مخابرات الاحتلال "إشارات" كثيرة أثيرت حول تدريبات حماس العسكرية ومناوراتها في غزة، متجاهلةً إمكانية حدوث ما وقع فجر السابع من أكتوبر/تشرين الأول، حينما نفذ المقاومون عملية "طوفان الأقصى"، حيث اقتحموا معسكرات ومستوطنات الاحتلال في غلاف القطاع وقتلوا وأسروا المئات.
تنفل الصحيفة عن "مناحيم جيدا" المتخصص بالاتصالات شعوره السوداوي بالتوجُّس على مدار عامين.
كان "جيدا" جزءاً من فريق متطوعين يستخدمون "مزرعة أقمار صناعية" في جنوب إسرائيل، ويراقبون شبكات الاتصال ووسائل الإعلام في غزة لتمرير المعلومات إلى جيش الاحتلال.
كانت علاقة الفريق بالجيش شبه رسمية، لكن عندما حذر الفريق الجيش مراراً من أن مقاتلي حماس يجرون مناورات حرب معقدة بالقرب من الحدود؛ تجاهل العسكريون فريق الهواة.
لم يحدث ذلك مع جيدا فحسب، إذ صرح مايكل ميلشتاين، ضابط الاستخبارات العسكرية السابق، بذلك لعددٍ من زملائه السابقين وكتب عدة مقالات في الصحف حول عدم جدوى نهج إسرائيل في التعامل مع حماس، لكن لم يلق كثيراً من الآذان الصاغية.
كما تعرضت تحذيرات سلاح الاستخبارات القتالية للتجاهل أيضاً، وهو الجهاز المسؤول عن مراقبة جبهة البلاد مع غزة، حيث قالت المجندة نوا ميلمان لقادتها في وقتٍ سابق من العام الجاري، إن مسلحي حماس يتدربون على هجمات على سياج وهمي، ويفجرونه مراراً وتكراراً.
وفي السابع من أكتوبر/تشرين الأول، شنّت حركة حماس هجوماً أشد من أسوأ كوابيس جيدا، وميلشتاين، ونوا، إذ حطم الهجوم المتزامن ثقة إسرائيل بجيشها وأجهزة استخباراتها. حيث فشلت تلك المؤسسات في تعقب ما يخطط له أحد أعدائها الرئيسيين، كما تجاهلت التحذيرات المتعددة من استعدادات حماس لهجوم كبير، والتي كانت تجري في وضح النهار أحياناً.
من جانبه، أوضح رئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت، أن إسرائيل عانت من "الثقة المفرطة التي أدت إلى الغرور، ما أسفر عن توليد شعور بالرضا عن الذات. وقد فعلت حماس بنا ما نفعله نحن بالآخرين عادة: المفاجأة، والبراعة، والتفكير خارج الصندوق".
عوامل الإخفاق
من جانبه، قال أحد المسؤولين الإسرائيليين البارزين: "شعرنا بأن شيئاً ما على وشك الحدوث حتى في ليلة الهجوم، لكن التفسير كان اعتبار الأمر مجرد تدريبات عسكرية عادية لحماس. لقد تعرضت استخباراتنا لإخفاق جوهري".
يرجع السبب جزئياً إلى أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية استهانت بقدرة حماس على شن هجوم واسع النطاق كهذا بكل ما يتطلبه من أمن عملياتي مشدد، وتخطيط منضبط، ومعرفة مفصلة بالأراضي الإسرائيلية.
وقال السير أليكس يونغر، الرئيس الأسبق لجهاز الاستخبارات البريطاني: "من الجميل أن تُدرك الأمر بعد فوات الأوان، لكن يبدو أن الإخفاق الكبير (لإسرائيل) كان نتيجة الفشل في تصوُّر احتمالية الأحداث قبل وقوعها، كما حدث في الـ11 من سبتمبر/أيلول. هناك دائماً خطر يتمثل في الخلط بين ما ترغبه وواقع الأمور… وقد شعرت إسرائيل بأن حماس صارت منزوعة الخطر".
وارتكبت إسرائيل خطأ مماثلاً قبل 50 عاماً بالضبط، عندما تصورت أن الدول العربية لن تهاجمها مطلقاً بسبب قوتها العسكرية، وذلك قبيل حرب عام 1973 مع مصر وسوريا.
أما السبب الثاني لإخفاق إسرائيل فيتمثل في ما وصفه مسؤول غربي بـ"الغطرسة التقنية"، أو القناعة المتعجرفة بأن التقنيات المتطورة ستتفوق بالضرورة على قدرات حماس التقنية المحدودة. وتشمل تلك التقنيات المتطورة المسيّرات الجوية التي تتجسس على غزة والسياج المزود بأجهزة الاستشعار.
وساعدت تلك التقنيات المتطورة جيش الدفاع على إحباط جميع عمليات الاختراق تقريباً لسنوات طويلة. لكنها منحت الجيش إحساس أمانٍ كاذباً، بحسب مسؤول أمني غربي آخر.
كما توقفت وحدة 8200 لاستخبارات الإشارة في الجيش الإسرائيلي عن التنصت على أجهزة الراديو المحمولة التي يستخدمها مسلحو حماس، وذلك بعد أن وجدوا الأمر مضيعةً للوقت، بحسب صحيفة New York Times الأمريكية.
حيث قال مايكل: "لقد أصبحنا مدمنين بلتقنية، والسيبرانية، والبيانات الضخمة، وما إلى ذلك. لكننا استهنا تماماً بأهمية الاستخبارات الأبسط والأرخص، مثل الاستخبارات مفتوحة المصدر وتعقب اتصالات حماس اللاسلكية، وحتى الاستماع إلى جنديات المراقبة على الحدود".
وتتمثل المشكلة الأخرى في أن وسائل المراقبة الإسرائيلية عالية التقنية تستطيع إنتاج معلومات استخباراتية فنية عالية الجودة، كتحديد موقع دقيق لمنصة صواريخ، لكنها أقل جودةً في كشف الاستراتيجيات أو نوايا القيادة التي تُعد مجال التركيز الرئيسي للاستخبارات البشرية.
بينما كانت الاضطرابات السياسية هي السبب الثالث لإخفاق إسرائيل في التنبؤ بهجوم حماس، وذلك نتيجةً للسياسات المحلية المثيرة للجدل التي اتبعها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، والتي أضعفت الأمن القومي وشغلت أجهزة الاستخبارات.
وقال ديفيد باتريوس، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية الأسبق: "من المفهوم أن الشاباك كان يركز على ارتفاع وتيرة العنف في الضفة الغربية، التي صارت تمثل تحدياً متصاعداً".
وقد استغلت حماس تلك المشتتات. كما تظاهرت بالتوافق مع سياسة نتنياهو التي سعت لتعزيز قبضة حماس على غزة، باعتبارها وسيلة لإضعاف مكانة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.
وحتى أثناء استعداد حماس للحرب، حافظت الحركة على اتصالها اليومي بالحكومة الإسرائيلية لنقاش قضايا هامشية مثل حصص التصدير وتراخيص العمالة. ويؤكد العديد من المسؤولين الإسرائيليين والدوليين أن هؤلاء العمال ساعدوا في جمع المعلومات الاستخباراتية، وضمن ذلك الخرائط المفصلة للكيبوتس التي هاجمتها حماس لاحقاً.
فضلاً عن أن حماس عكفت على تصفية المعلومات التي تُنشر عبر قنوات يعرفون أن المخابرات الإسرائيلية تراقبها، بينما ظلت الخطط الفعلية حكراً على مجموعة صغيرة من قادة الحركة.
بحسب الصحيفة، فإن الدروس التي تعلمها المسؤولون الإسرائيليون من فشلهم في التنبؤ بالهجوم هي أن إسرائيل لم يعد بوسعها الاعتماد على الاستخبارات للحصول على إنذار مبكر.
لهذا قال مسؤول إسرائيلي بارز: "الحل الوحيد هو عدم الاعتماد على الاستخبارات بعد الآن. لم يعد الردع كافياً… نحن أمام نموذج جديد".
ومنذ 34 يوماً، يشن الجيش الإسرائيلي حرباً على غزة "دمر خلالها أحياء سكنية على رؤوس ساكنيها"، وقتل 10 آلاف و812 فلسطينيا، بينهم 4412 طفلاً و2918 سيدة، وفق وزارة الصحة في غزة.