ترمسعيا، قرية هانئة وديعة، تقع على الطريق الواصل بين مدينتَي نابلس ورام الله، تحفّ قامتها الباسقة ظلال مرج العذارى، وتحيط بجيدها كروم العنب وأشجار الزيتون.
لكنَّ أحوال القرية تبدَّلت يوم 21 يونيو 2023، عندما أغار عليها 300 مستوطن إسرائيلي، معظمهم من الشباب، خرجوا من الحافلات والمركبات، يحملون رشاشات وقنابل حارقة وهراوات وحجارة، يهتفون: "الموت للعرب"، وتحرسهم قوات الاحتلال الإسرائيلي.
اقتحم المستوطنون القرية من شمالها، وعاثوا فيها فساداً، فروّعوا المواطنين وحبسوهم في منازلهم وأشعلوا النيران في كل ما طالته أيديهم، بعد أن ضربوا النساء والشيوخ والأطفال، ولم تجد أنَّات الضحايا ضمائر تنصت في أفئدة المعتدين. وما إن انتهوا من سلب وتدمير البيوت، حتى راحوا يحرقون السيارات والمحال ويقطعون الأشجار، وهم ينادون على بعضهم أن استمتعوا يا أبناء الرب بهذا النصر.
قبل تلك الحادثة بسنوات، عقد عمر أبو القطين، أحد أبناء القرية الأبرار، قرانه على قريبته هديل أبو القطين، التي تحمل الجنسية الأمريكية، وأنجب منها طفلين هما: عبد الله، وديمة. بذلك صار لعمر الحق في الانتقال للعيش في الولايات المتحدة والإقامة بها، لكنه فضّل البقاء في الوطن رغم سعار المستوطنين وصعوبة الأوضاع الاقتصادية. كان لعمر جرافة يعمل بها في أعمال البناء والزراعة وشق الطرق، كما كان لاعب كرة قدم في نادي "ترمسعيا" الرياضي.
ألحَّت عليه والدته كثيراً أن يلحق بشقيقيه إلى بلاد العم سام، فالأرض المحتلة لم تعد آمنة، لكنه لم يفتأ يرفض العرض المغري ويرد على والدته: "لا أريد أمريكا، أنا بدّي الوطن". كانت وجهة نظره بسيطة لكنها ثاقبة؛ قيادتي لجرافتي وتعميري لأرضي أفضل عندي "من مصاري الدنيا كلها".
كلمات عمر أبو القطين تلك لم تكن مبالغات أو جعجعة وطنية، بل كانت دستوراً يصدقه بالقول والفعل. عندما علم عمر بهجوم المستوطنين على أهل قريته، غادر عمله وعاد إليها مسرعاً، وعندما وصل ترجّل من عربته، وراح يذود عن أهله وناسه ببسالة. قبل ذلك بقليل، هاتف والدته وأخبرها أنه في خضم الاشتباكات مع المعتدين المدججين بالأسلحة، فأوصته أن لا يكون في المقدمة حتى لا يصبح هدفاً سهلًا لقوات الاحتلال والمستوطنين، لكنه رد عليها: "ديري بالك على أولادي".
كانت تلك آخر كلمات الشهيد عمر أبو القطين؛ لأن جندياً إسرائيلياً سيجثو على ركبتيه ويطلق رصاصة ستخترق قلب عمر وتنهي حياته على الفور. عندما وصل النبأ للأم، وتجمع حولها الأهل والجيران، قالت لهم: "كانت الشهادة مرسومة على وجهه"، ثم طلبت من النسوة الحاضرات أن يزغردن ابتهاجاً باستشهاده.
وعندما وصل الجثمان إلى المنزل، وضعت زوجته هديل قُبلة على جبينه وضمته الضمة الأخيرة، ثم عاهدته أن تربي أطفاله وترعاهم حتى آخر نفَس. ثم راحت تعتذر له بأنها صرخت وبكت وانتحبت عندما وصلها خبر وفاته.
انتهت رحلة عمر الأب والزوج ولاعب كرة القدم. أنهى الاحتلال أحلامه وتطلعاته، لم يأخذ العالم الرياضي موقفاً مما جرى، لم يُدِن الاتحاد الدولي الواقعة، ولم تقف الفرق دقيقة صمت حداداً على روحه، ولم تصدر حتى بيانات الإدانة الجوفاء التي اعتدنا عليها. لكن، ما ضير عمر أبو القطين إن أضاء الطريق الحالكة لأجيال قادمة!