كثيراً ما توصف إسرائيل بأنها " دولة إرهابية ومحتلة ومستعمرة"، ورغم أن هذه الكلمات تثير المشاعر المناسبة إزاءها، فهي تبدو ضحلةً في بعض الأحيان، حتى بالنسبة لأولئك الذين يؤمنون بتحرير فلسطين. ما أعنيه هو أنه رغم أننا نستخدم هذه الكلمات في السياق الصحيح، فإننا بحاجةٍ إلى أن نكون قادرين على الإشارة بصورةٍ ملائمة إلى مدى صحة هذه الدلالات في تعريفها الأكثر حرفية في كل الكتابات. نحن بحاجة إلى القيام بذلك، ليس فقط لمكافحة الحجج المضللة التي يقدمها الاحتلال، بل أيضاً لفهم مدى الإرهاب والاحتلال والاستعمار الذي نتعرض له.
الاستعمار، على سبيل المثال، هو عمل مدمر قام به الاحتلال الاسرائيلي، وهو ليس إجراءً، بل عملية ممتدة، ولا تقتصر هذه العملية على استنزاف الموارد المادية والمادية لبلد ما، ولكن أيضاً بناء عقلية للتأثير على المجتمع العالمي، للتفكير بشكل إيجابي في هذا الاستعمار. والمبررات التي تشكل هذه العقلية موجودة بشكل أساسي للحد من أو إزالة أية تداعيات لأعمال المستعمرين غير القانونية وغير العادلة والقاسية واللاإنسانية.
إحدى الطرق الرئيسية لبناء هذه العقلية هي من خلال أن يلعب المستعمرون دور الضحية، الفكرة الرئيسية وراء ذلك هي أنه إذا وضعت الدولة المستعمرة نفسها في أذهان المجتمع الدولي كأقلية تتعرض للهجوم، وتُعاقَب أو تخضع "لتمييزٍ ضدها" من قِبَلِ الذين استعمروهم، فمن الأسهل تبرير أي هجوم.
والخطوة المتخذة نحو ترسيخ هذه العقلية هي اختلاق سردية "نحن مقابل هم" بناءً على نسخٍ مُعدَّلة من الواقع. مع اختلاق هذه النسخ من الواقع يصبح لدى المستعمرين طريق سهل لتجريد السكان المستعمَرين بالكامل من إنسانيتهم وتشويه سمعتهم، لقد لاحظنا هذه العملية في التاريخ، ومع الفحص الدقيق يمكن للمرء أن يدرك أنه من خلال استخدام التاريخ والقيم والتحيزات المسبقة تجاه المسلمين والعرب، فإن الاحتلال الإسرائيلي يشبه كثيراً عمليات الاستعمار في إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا في القرنين التاسع عشر والعشرين.
ولكي تترسخ سردية الضحية، يعتمد المستعمر غالباً على مآسٍ حقيقية أو "مآسٍ متفاقمة"، يمكن تعريف المأساة المتفاقمة بأنها أحداث معينة من العنف السياسي، التي تسبب صدمة لطرف تتفاقم عواطفه من خلال الدعاية والمعلومات المضللة من أجل تعبئة الغضب العام.
إن استخدام التاريخ كسلاح يدور حول أخذ مأساة حقيقية أو "مأساة متفاقمة"، والاعتماد على مشاعر المجتمع المتراكمة لتبرير العنف في المستقبل. كثيراً ما استخدم الفرنسيون هجمات جبهة التحرير الوطني (حركة التحرير الجزائرية) على الجنود الفرنسيين لإعادة تأجيج الحماس العام لتعزيز قضيتهم في البلاد. وفعل البريطانيون الشيء نفسه بعد تأميم جمال عبد الناصر لهيئة قناة السويس، ما أدى إلى أزمة قناة السويس.
وقد تم إضفاء الشرعية على وجود بلجيكا في الكونغو من خلال فكرة منع المزيد من "الهجمات" على المواطنين البلجيكيين، وتستخدم إسرائيل الهولوكوست بالطريقة نفسها. ومن المهم أن نلاحظ أن الأمثلة الغربية تُظهِر مآسيَ متفاقمة تُستخدَم سلاحاً، وآثارها قصيرة المدى ومحدودة بشكل عام. ومن ناحية أخرى، كان للهولوكوست تأثيرٌ محلي، ولأنها جرت أحداثها في الحرب العالمية الثانية صار تأثيرها عالمياً. وبمساعدة أدوات الاتصال الجماهيري (الأفلام والمسلسلات التلفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي)، لم يكن تأثيرها قصير المدى بالتأكيد. ومع أخذ ذلك في الاعتبار، فإن الهولوكوست هي أداة قوية جداً لخلق قصة "نحن مقابل هم".
والأهم من ذلك، أن التذكير المستمر بذلك أثناء الصراع الفلسطيني، يساعد على خلق فهم بأن الصهيونية وتطلعاتها الاستعمارية ليست ضرورية لـ"بقاء اليهود" فحسب، بل إن الصهيونية واليهودية هما شيء واحد. هذه "الوحدة" بين الأيديولوجيا والدين بدورها تمهد الطريق بأن يوصَف أي غضب وانتقاد مشروع تجاه الاحتلال وممثليه بأنه نتاجٌ لمعاداة السامية.
كان التصوير الفرنسي والبريطاني لمن استعمروا بلادهم هو كما لو كانت هذه المجتمعات "همجية وغير متحضرة وجاهلة"؛ لذلك كان هؤلاء المستعمرون موجودين أيضاً، من أجل "المساعدة والحضارة والتعليم والتثقيف". ما يفعله هذا التصوير هو أنه يؤمّن ضمنياً فكرة أنه نظراً لحقيقة أن المستعمَرين "همجيون"، فما من طريقةٍ يمكن بها تبرير أيٍّ من أفعالهم، ما يؤدي إلى استنتاج مفاده أن جميع تصرفات المستعمِرين مبرَّرة. إن حجج الصهاينة الذين يستخدمون الهولوكوست باستمرار أثناء بناء السرد لتبرير القمع الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين تظهر تكتيكاً استعمارياً مشابهاً. وبدلاً من الإيحاء بأنهم موجودون هناك من أجل "الحضارة" في المقام الأول، فإن رسائلهم تشير ضمناً إلى أن الفلسطينيين همجيون؛ لأن ما يفعلونه هو نسخة جديدة من المحرقة. ويعزز المنظِّرون الغربيون هذه الأفكار بالزعم أن الاحتلال الإسرائيلي هو النظام "الديمقراطي المستقر" الوحيد في الشرق الأوسط، الأمر الذي يقوي الوهم بأن الاحتلال الإسرائيلي أكثر تحضراً.
من المهم للغاية أن نفهم آليات الاستعمار، إن إحدى طرق الحفاظ على الإمبراطورية الاستعمارية هي إضفاء الشرعية على الاستعمار، ومن دون الفهم الصحيح لكيفية استعمار العقول من المستحيل تحرير الأرض.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.