"بريطانيا سبق أن قتلت 80 طفلاً في مستشفى بالخطأ في الحرب العالمية الثانية"، كان هذا رد بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي على الصحفيين الأجانب عندما ضغطوا عليه بسؤال حول وفيات المدنيين في غزة.
وأشار نتنياهو، في رده الذي جاء خلال مؤتمر صحفي يوم الإثنين، 30 أكتوبر/تشرين الأول، إلى غارة جوية شنّتها بريطانيا قبل نحو 80 عاماً وتسببت في مقتل عشرات الأطفال.
ويأتي ذلك ضمن حملة تبريرية لجأ فيها المسؤولون الإسرائيليون إلى التاريخ بحثاً عن الذرائع لتفسير المجازر بحق الشعب الفلسطيني مع دخول الحرب في غزة مرحلتها الثانية، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Washington Post الأمريكية.
قتلنا للأطفال ليس جريمة حرب
وقال نتنياهو: "في 1944، قصف سلاح الجو الملكي البريطاني مقر البوليس السري الألماني (الغيستابو) في كوبنهاغن عاصمة الدنمارك. وكان الهدف شرعياً تماماً. لكن الطيارين البريطانيين أخطأوا الهدف وأصابوا إحدى مستشفيات الأطفال القريبة بدلاً من مقر الغيستابو. وأسفر ذلك عن احتراق 84 طفلاً حتى الموت على ما أظن. ليست هذه جريمة حرب. ولا أحد يلوم بريطانيا على فعلتها تلك. لقد كان هذا عملاً حربياً شرعياً له تداعياته المأساوية التي ترافق مثل هذه التحركات المشروعة".
وقد حامت القياسات التاريخية حول هذا الصراع منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، عندما شنّت حركة حماس هجوماً مفاجئاً على إسرائيل. لكن المسؤولين الإسرائيليين لم يكتفوا بذكر تاريخ الصراعات الإسرائيلية-الفلسطينية أو هجمات عام 2001 على الولايات المتحدة، التي أدّت لاندلاع "الحرب على الإرهاب"؛ بل صاروا يذكرون واحدة من أكثر الصراعات تدميراً في التاريخ بأسره على نحوٍ متزايد: الحرب العالمية الثانية.
قارنوا بين قصف غزة وضرب أمريكا لليابان بقنبلتين ذريتين
وفي المؤتمر الصحفي نفسه، دحض نتنياهو الحجج الداعية لوقف إطلاق النار بالإشارة إلى قصف ميناء بيرل هاربر عام 1941. وقد صدرت نقاط خطابية مماثلة عن الساسة الإسرائيليين بحسب ما نقلته صحيفة New York Times الأمريكية الأسبوع الجاري، مع حديث بعضهم عن "كيفية لجوء الولايات المتحدة وغيرها من قوى الحلفاء إلى التفجيرات المدمرة في ألمانيا واليابان خلال الحرب العالمية الثانية -بما في ذلك إسقاط قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناغازاكي-، في محاولةٍ لهزيمة تلك الدول".
وخلال اجتماع لمجلس الأمن بالأمم المتحدة في نيويورك يوم الإثنين، علّق السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة جلعاد إردان وفريقه مجموعة نجوم صفراء على صدورهم. ومثّلت تلك النجوم رمزاً واضحاً آخر من الحقبة نفسها التي شهدت إجبار ألمانيا النازية لليهود على ارتداء نجوم مماثلة داخل ألمانيا وبعض الدول، وذلك خلال الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية ومحرقة الهولوكوست التي أسفرت عن مقتل 6 ملايين يهودي.
وحملت النجوم التي ارتداها إردان وفريقه رسالة تقول: "لن تتكرر أبداً".
ولا شك أن البحث عن تبريرات لصراعٍ معاصر بين صفحات التاريخ هو أمر خطير. إذ أخطأ نتنياهو التعبير عندما قال إن سلاح الجو البريطاني قصف مستشفى للأطفال عام 1944، لأن المثال الذي اختاره يُعد أكثر تعقيداً مما يوحي به خطابه، حسب تقرير صحيفة Washington Post.
وقد أدى تكرار ذكر الحرب العالمية الثانية ومحرقة الهولوكوست في سياق حرب غزة إلى إثارة الانتقادات. حيث كتب داني دايان، رئيس متحف ياد فاشيم في القدس، على الشبكات الاجتماعية يوم الثلاثاء 31 أكتوبر/تشرين الأول: "ترمز النجمة الصفراء إلى عجز الشعب اليهودي وكونه تحت رحمة الآخرين. لكننا نمتلك اليوم دولةً مستقلة وجيشاً قوياً".
ونظراً للأهمية المحورية لمحرقة الهولوكوست في التاريخ الإسرائيلي، ليس من المفاجئ أن يجري الحديث عن هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول بنبرةٍ مشابهة. كما يشعر العديد من الإسرائيليين باستياء معقول لأن جزءاً كبيراً من المجتمع الدولي قد تجاوز عنف ذلك اليوم بسرعةٍ كبيرة. لكن هذا الأمر لا يجعلها مقارنةً مناسبةً بالضرورة وفقاً لمايكل بيرينباوم من الجامعة اليهودية الأمريكية، والذي تحدث إلى صحيفة Times of Israel الأسبوع الماضي.
وقال بيرينباوم إن "الوصف المناسب لما حدث هو المذبحة المدبرة. لقد شهدنا مذبحة لليهود من النساء والأطفال -وليس الرجال فحسب-، واغتصاباً للنساء، وتدميراً وحشياً للممتلكات، وانتهاكاً للمنازل، بينما كانت حكومتنا تنظر في الاتجاه الآخر"، (بالطبع مزاعم قتل الأطفال واغتصاب النساء ثبت أنها مزيفة).
غالبية قواعد القانون الإنساني الدولي لم تكن موجودة خلال الحرب العالمية الثانية
وعلى نحوٍ مماثل، سنجد أن سياق نقاش جرائم الحرب في هذا الصراع يُعد مختلفاً كلياً الآن عما كان عليه عام 1945. فغالبية قواعد القانون الإنساني الدولي المتعارف عليها اليوم، والتي تُوصف بقواعد الحرب، لم تظهر بشكلٍ رسمي سوى بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث ظهرت تلك القواعد كاستجابةٍ لما حدث في الحرب العالمية الثانية من فظائع.
ومن الممكن اعتبار بعض تصرفات التحالف خلال الحرب العالمية الثانية بمثابة جرائم حرب بموجب التعريفات الحالية. لكن ادعاءات جرائم الحرب تظل مجرد ادعاءات حتى تفصل فيها المحكمة. يُذكر أن المحكمة الجنائية الدولية هي الجهة المصممة للمحاكمة على هذا النوع من الجرائم عندما تتعثر بقية الجهود، لكنها لم تُفتتح حتى عام 2002. (وتجدر الإشارة إلى أن إسرائيل ليست عضواً في تلك المحكمة).
ولم تُتح تصريحات نتنياهو في يوم الإثنين مجالاً كبيراً للنقاش؛ حيث استخدم مثال كوبنهاغن ليُشير إلى أن الحرب قد تكون لها "تداعيات كارثية" في كثير من الأحيان، مع الاقتراح بأن حماس يمكنها وقف الوفيات المدنية أحادياً بالكامل لو غادر هؤلاء المدنيون شمال غزة. وأردف: "ليس من الضروري أن يموت أي مدني".
ضرب مخيم كامل لاستهداف شخص واحد يخالف مبدأ التناسبية في القانون
لكن هناك بعض العوامل المعقدة التي يجب وضعها في الاعتبار، ومنها "مبدأ التناسبية" الذي يحظر ارتكاب أي عمل عسكري من المتوقع أن يؤدي إلى خسائر عرضية "مفرطة" في حياة المدنيين، وذلك عند مقارنة الخسائر المدنية بالنتائج العسكرية المتوقعة، لهذا ينبغي تقييم كل حدث حسب ظروفه في هذه النوعية من القضايا.
إذ قالت السلطات الفلسطينية إن القصف الإسرائيلي لمخيم جباليا للاجئين شمالي غزة أسفر عن مقتل وإصابة مئات المدنيين يوم الثلاثاء. ولم ينكر المسؤولون الإسرائيليون عدد الضحايا، لكنهم قالوا إن القصف كان يستهدف القائد الحمساوي الكبير إبراهيم البياري الذي قُتِل هناك، وهو ما نفته حماس.
وعلّق المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، ريتشارد هيشت، على حجم الخسائر المدنية لشبكة CNN الأمريكية قائلاً: "هذه هي مأساة الحرب"، في تكرار للغة نفسها التي استخدمها نتنياهو للحديث عن وفاة أطفال المدرسة عام 1945.
وما لم يشر إليه تقرير الصحيفة الأمريكية أيضاَ عن تبرير نتنياهو لقصف المستشفيات بخطأ قصف بريطانيا لمستشفى أطفال بالخطأ، أن لندن لم تملك وقتها أجهزة رصد وتصويت دقيقة وموجهة بالأقمار الصناعية كالتالي تمتلكها إسرائيل اليوم، كما أن إسرائيل لم تقصف المستشفى المعمداني فقط بالخطأ كما تقول، بل مئات إن لم يكن آلاف الأهداف المدنية، من بينها مستشفيات ودور عبادة، بما فيها كنائس ومن الساذج تصور أن حركة حماس ذات المرجعية تخفي أسلحة أو مقاتلين في كنيسة.