طالما كانت المدن هي أكبر ضحايا الحروب، ولكنها في كثير من الأحوال تحولت إلى مقابر للغزاة وهزمت جيوشاً عظيمة وغيرت مسارت الحروب، وفي هذا التقرير نرصد أشهر معارك وحروب المدن في العصور الحديثة.
لمعرفة الضراوة التي تتسم بها حروب المدن، تجدر الإشارة إلى أنه من بين العشرين معركة الأكثر دموية في التاريخ، التي رصدها موقع أطلس العالم World Atlas هناك نحو 18 معركة دارت في المدن كلياً أو جزئياً أو في محيطها أو كانت عبارة عن حصار لمدن، على رأسها معركة حصار لينينغراد الروسية (سان بطرسبرغ حالياً) خلال الحرب العالمية الثانية، ومعركة ستالينغراد الشهيرة، وحصار بغداد على يد المغول ثم اقتحامها.
حروب المدن أصبحت أكثر قسوة على الجيوش الغازية وسكانها
الحروب في المناطق الحضرية ليست ظاهرة جديدة. فالحروب تُخاض في المدن منذ قرون، لكن ما يتغير هو كيف تدور رحى هذه الحروب، في ظل ارتفاع وتيرة التوسّع الحضري ونمو السكان التي لم تهدأ في العقود الأخيرة.
حتى بداية القرن الحادي والعشرين، كان عدد الناس الذين يعيشون في المناطق الريفية أكثر من المناطق الحضرية. يعيش الآن أكثر من نصف سكان العالم في البلدات والمدن، وهو رقم من المتوقع أن يرتفع إلى الثلثين بحلول عام 2050. الغزو الصيني لتايوان على سبيل المثال، في حالة حدوثه، سيتطلب من الجيش الصيني أن يشق طريقه عبر مدن وبلدات الجزيرة، حيث يعيش 80% من سكانها.
أدّى التوسع الحضري إلى واقع لم يسبق له مثيل يجد فيه المدنيون أنفسهم في خضم القتال، واقع يقترن باعتمادهم على بنى تحتية حيوية لكن هشة. ونتيجة ذلك أن المدنيين هم من يتحملون وِزر الحروب في المدن.
وحين تتعرض المدن للتفجيرات والقصف، تكون 90% من الإصابات من المدنيين، حسب أحد التقديرات، ويُعزى ذلك جزئياً إلى تداخل مواقع المدنيين والأهداف العسكرية وقربها من بعضها. وتكون المدارس والمستشفيات في الكثير من الحالات واقعة إلى جانب أهداف عسكرية توصف بالمشروعة وتُصاب بسبب الإهمال أو بسبب اختيار أسلحة غير مناسبة.
وبالفعل، فإن أحد الأسباب الرئيسية لمعاناة المدنيين خلال الحروب في المناطق الحضرية هو استخدام الأسلحة المتفجرة التي تصيب مناطق واسعة والمصممة للاستخدام في ساحات المعارك المفتوحة.
فلقد صُممت الأسلحة المتفجرة الحديثة إلى حد كبير لمعارك الحرب الباردة في سهول أوروبا. وعندما يتم استخدامها في مناطق مأهولة بالسكان، فمن المحتمل أن يكون 9 من كل 10 ضحايا على الأقل من المدنيين، كما يشير تقرير صادر عن "منظمة العمل على العنف المسلح".
يقول ديفيد بيتز من كينغز كوليدج لندن واللفتنانت كولونيل هوغو ستانفورد – توك في مقال بدورية تكساس للأمن القومي (مجلة عسكرية وأمنية): "على مدار التاريخ تقريباً، كان الجنرالات يكرهون احتمال القتال في المدن وسعوا إلى تجنبه". ولكن سواء أحببنا ذلك أم لا، فإن الجيوش الحديثة تضطر بشكل متزايد إلى القيام بذلك.
ومع تضخم المدن، تقلصت الجيوش. في الماضي "اجتاحت الجيوش المدن وشكلت جبهات كبيرة حولها ومن خلالها"، كما يشير مؤلف كتاب "حرب المدن في القرن الحادي والعشرين" أنتوني كينغ. قبل ثمانين عاماً قاتل ما يقرب من نصف مليون رجل في ستالينغراد، التي كان عدد سكانها قبل الحرب نحو 400 نسمة ألف. ويضيف كينغ: "اليوم المدن تطوق القوات المسلحة".
إحدى نتائج قتال الجيوش بأعداد صغيرة في المدن الكبرى هي أنها غالباً ما تنتهي بسلسلة من "الحصار الصغير المحلي"، بحسب كينغ. يقول العقيد المتقاعد الذي قاد اللواء الأول للفرقة الأمريكية المدرعة الأولى في بغداد عام 2003 بيتر منصور: "يمكن أن يستهلك مبنى واحد كتيبة كاملة (ما يصل إلى 1000 جندي) في قتال ليوم واحد"، حسب ما نقل عنه تقرير لصحيفة الشرق الأوسط السعودية.
تشتهر حرب المدن بالوحشية والتدمير. توفر المناطق المبنية الكثير من الأماكن للاختباء، لذلك تحدث معارك إطلاق النار فجأة وعلى مسافة قريبة. يمكن أن تكون المباني مليئة بالألغام والأشراك الخداعية. الحاجة إلى التنبه باستمرار تؤثر في أعصاب الجنود. يمثل القتال في الأدغال أو الغابات صعوبات مماثلة، لكن وجود المدنيين في المدن يجعل كل شيء أكثر صعوبة. قال ضابط أوروبي سُئل عن المكان الذي يفضل القتال فيه: "يمكنني تدمير غابة لكن لن أحصل على إذن لتدمير مدينة".
لكن يبدو أن الغرب قد أعطى إسرائيل الإذن في أن تفعل ذلك في غزة.
أولى حروب المدن في العصر الحديث
يعتبر العديد من المؤرخين العسكريين أنّ أوّل مثالٍ حديثٍ على حرب المدن، بمعنى "حرب الشوارع"، كان خلال حصار سرقسطة (ساراغوسا) الإسبانية من قوات نابليون عام 1809.
كانت الجيوش الإسبانية تتقهقر في اتجاه سرقسطة بعد هزيمتها في معركة توديلا، والجنرال الفرنسي لوفيفر يطاردها بقوات أكبر منها بكثير. حين وصلت بقايا الجيش الإسباني الى سرقسطة، كان المسار التقليدي في حالةٍ من هذا النّوع هو أن يتواجه الإسبان والفرنسيون في مكانٍ مفتوحٍ خارج المدينة، ثم يدخلها المنتصر فاتحاً.
منذ العصور الوسطى، كانت معارك المدن تتوقّف فعلياً على الأسوار، من يخترق الأسوار ويمسك بها يسيطر تلقائياً على المدينة، التي تستسلم له أو يستبيحها، فلا معنى للقتال في الشوارع. أمّا في عهد نابليون، فقد ألغت المدفعية حصانة الأسوار الأوروبية القديمة.
في ساراغوسا، فهم القائد الإسباني، بالافوكس، أنّه لا يملك حظّاً في الصمود أمام الفرنسيين في مواجهةٍ مفتوحة، فقرّر أن يحوّل مدينته الى حصنٍ كبير، وأن تكون هي ميدان المعركة، حسب ما ورد في تقرير لصحيفة "الأخبار" اللبنانية.
تحيط بالمدينة، من جهتين، مجموعةٌ من الأديرة القديمة الضّخمة والمبنية من حجر صلد، حوّلها الإسبان الى قلاع ووصلوها بساترٍ ترابيّ وضعت عليه مرابض المدفعية. من جهة الجنوب عدّلوا مسار نهرٍ ليكون بمثابة حاجزٍ مائي يحمي الجبهة، ثمّ حضّروا حصوناً على مداخل المدينة وفي النقاط المشرفة، ليصبح استيلاء الفرنسيين على أيٍّ من هذه المواقع الإجبارية مكلفاً ومعقّداً.
ولكنّ التحضيرات الكبرى كانت داخل المدينة نفسها؛ جنّد بالافوكس أكثر من 10 آلاف سرقسطي ليشاركوا في الدّفاع، ثمّ قسّم المدينة الى مربّعات صغيرة، أصبح كلٌّ منها حصناً مستقلّاً، وثُقبت الجدران ليتمكّن المدافعون من الانتقال بأمان بين مباني كلّ مربّع. وزّع الإسبان مدفعيّتهم لتكون فوهاتها موجّهة صوب الشوارع الرئيسية وشرايين المدينة والسّاحات العامّة، التي سيتقدّم عبرها الفرنسيون. وضعوا المدافع والقناصة في أبراج الكنائس وعلى الطوابق العليا.
بعد شهرين من الحصار والقتال، تمكّن الفرنسيّون من تحطيم الدفاعات الخارجية لسرقسطة، ثمّ تقدّموا في أحياء المدينة واحتلّوا وسطها وأجبروا القيادة الإسبانية على الاستسلام. قُتل خمسون ألفاً بسبب المعارك والأمراض، منهم 35 ألفاً من أهل مدينة كان يسكنها 55 ألف شخص عام 1808 قبل الحرب.
أشهر معارك وحروب المدن
ستالينغراد.. المدينة التي هزمت أقوى جيش في التاريخ
تعد معركة مدينة ستالينغراد الروسية أيقونة حروب المدن، ويعتقد أنها صاحبة أكبر أو ثاني أكبر عدد ضحايا في معركة واحدة عبر التاريخ.
واستمرت المعركة التي بدأت في أغسطس 1942، نحو 6 أشهر وأسفرت عن هزيمة قوات ألمانيا النازية أمام قوات الاتحاد السوفييتي السابق المدافعة عن المدينة خلال الحرب العالمية الثانية. ويصف المحللون والخبراء العسكريون معركة ستالينغراد بالمحورية والمفصلية في هزيمة ألمانيا بالحرب العالمية.
وتمثل المعركة مثالاً نادراً في تاريخ معارك المدن، لأنها أدت إلى بداية نهاية الجيش الألماني الغازي، والذي كان يعد حتى هذه اللحظة أقوى جيش في التاريخ.
النجاح المدوي الذي تحقق في معركة ستالينغراد، جاء في ظل استراتيجية سوفييتية أوسع، فلقد خاض السوفييت معركة تأخيرٍ لعدوهم في المدينة بينما الألمان يتقدّمون بنجاح على طول المدينة، فستالينغراد تشبه مستطيلاً طويلاً على نهر الفولغا، وقد حوّل السوفييت كلّ جزءٍ منه، وفي قلبه مجمّع صناعيّ، الى عقدةٍ دفاعية.
كان الهدف هو جذب الجيش السادس الألماني الى "فخٍّ"، حين يصير منتشراً في عمق المدينة، فتضرب الجيوش السوفييتية من الخارج جناحيه وتعزله داخلها، فيصبح محاصَراً بعدما كان مهاجِماً. وحين أطبق الحصار أخيراً على الألمان وانقطعت عنهم الإمدادات في ستالينغراد، استسلم الجيش بكامله بعد أقلّ من شهرين.
هناك نقطة مهمة لفهم نتائج معركة ستالينغراد أن السوفييت ظلوا طوال المعركة يتلقّون الإمدادات ويخلون الجرحى عبر نهر الفولغا.
معركتا الفلوجة الأولى التي حذر بايدن الإسرائيليين من تكرارها
من أشهر معارك المدن التي وقعت في العقود الأخيرة، هي معركة الفلوجة الأولى، التي آلت إلى فشل القوات الأمريكية في اقتحام المدينة العراقية في أبريل/نيسان ومايو/أيار 2004.
ولقد حذر بايدن الإسرائيليين من تكرار معركة الفلوجة في غزة.
وقعت المعركة بسبب ممارسات الاحتلال الأمريكي في المدينة بما فيها قتل مدنيين، تصاعد الأمر ووصل إلى ذروته حين اختطفت ميليشيا بلاك ووتر الأمريكية عروساً عراقية في حفل زفافها، الأمر الذي أدى بأهالي الفلوجة والمقاومة العراقية المتمركزة في المدينة إلى الهجوم على دورية لميليشيا بلاك ووتر وقتل 4 عناصر منها وسحلهم وتعليق جثثهم في مركز المدينة.
لم يمض أقل من 24 ساعة على مقتل الأمريكيين الأربعة، حتى حاصرت القوات الأمريكية الفلوجة من جميع الجهات، بهدف معلن هو تسليم الأشخاص المسؤولين عن الحادث، وبعد مناوشات محدودة بدأ الهجوم الأمريكي في الخامس من أبريل/نيسان بقصف مدفعي وجوي من المروحيات قبل أن تتقدم الدبابات من الجهة الشرقية للمدينة حيث مدخلها الاعتيادي، وبدا لأول وهلة أن مهمة مشاة البحرية لن تكون صعبة في السيطرة على المدينة خلال ساعات أو أيام، وذلك قبل أن يواجه المهاجمون مقاومة شرسة، أعطت المعركة بُعداً مختلفاً، ووضعت الأمريكيين في خضم حرب حقيقية لم يحسبوا لها حساباً.
وبعد نحو شهر من القتال، لم تتمكن القوات الأمريكية من السيطرة عليها إلى حين وقوع معركة الفلوجة الثانية بعد عدة أشهر.
خلال المعركة، تمكن المقاتلون المقاومون للاحتلال الأمريكي المتحصنون في المدينة من إرباك القوات الأمريكية باستخدام أسلحة بسيطة وأساليب حرب العصابات، فألحقوا خسائر جسيمة بالجانب الأمريكي بأسلحته المتطورة، ما أدى إلى قصف عنيف وعشوائي للمدينة، حسب ما ورد في تقرير لموقع هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي".
بقيت الفلوجة مدينة خارج الإدارة الأمريكية في العراق طيلة 6 أشهر، ومن أجل إخضاع المدينة، قام الجيش الأمريكي بإطلاق عملية الفجر، والتي تعرف بـ معركة الفلوجة الثانية، وكانت أكثر المعارك دموية في حرب غزو العراق بأكملها للقوات الأمريكية.
معركة الفلوجة الثانية شهدت استخدام أمريكا لأسلحة محرمة
بدأت معركة الفلوجة الثانية في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2004، وانتهت في 23 من ديسمبر/كانون الأول 2004، خلال هذه المعركة قاد كلٌ من الجنرال اللفتنانت والجنرال جون ف.ساتلر واللواء ريتشارد ف.ناتونسكي 15 ألف جندي أمريكي وجندي في قوات التحالف في مواجهة ما يقرب من 5 آلاف مقاتلٍ من المقاومة العراقية والعربية بقيادة كلٍ من عبد الله الجنابي وعمر حسين حديد.
بدأت المعركة بحصارٍ أمريكي خانقٍ على المدينة لمنع خروج المقاتلين منها، مع ذلك تم السماح بنزوح أكثر من 300 ألف مدني من الفلوجة، ليتسنى للجيش الأمريكي الهجوم دون ضغوطٍ على المسلحين بداخلها، ثم شرعت الطائرات الأمريكية في قصف المدينة بقصف مكثف وغارات غير مسبوقة وأسلحة محرمة دولياً خلال أيام المعركة.
اعترفت قوات التحالف في النهاية بمقتل حوالي 110 من عناصرها، وجُرح حوالي 600 آخرين، بينما قُتل أو أُسر حوالي 3 آلاف عنصر من المقاومة العراقية.
وتخليداً لهذه المعركة، قامت البحرية الأمريكية بإطلاق اسم "الفلوجة" على إحدى سفنها الهجومية البرمائية، وذلك بعد أن لقيت في المدينة العراقية مقاومةً تاريخية.
معركة غروزني الأولى التي أذلت الروس
وقعت الحرب الشيشانية الأولى في الفترة من 1994 إلى 1996، عندما حاولت القوات الروسية استعادة السيطرة على الجمهورية بعد أكثر من ثلاث سنوات على إعلان الشيشان استقلالها.
بحلول يونيو/حزيران 1995، تسببت القوات الروسية في إصابة ما لا يقل عن 30.000 ضحية، وضمن ذلك آلاف الأطفال.
وأخفقت موسكو في السيطرة على العاصمة الشيشانية غروزني في بداية الأمر، وتعرضت لهزيمة مُذلة على يد المقاتلين الشيشانيين الذين كان كثير منهم مقاتلين بالجيش السوفييتي السابق ومدعومين بعقيدة دينية وقومية.
وحتى بعد أن سيطرت القوات الروسية على غروزني، وقتلت رئيس الشيشان جوهر دودايف، وعلى الرغم من التفوق العددي الساحق في الرجال، والأسلحة، والدعم الجوي، لم تتمكن القوات الروسية من إقامة سيطرة فعالة على الشيشان، خاصة في المنطقة الجبلية، بسبب العديد من المعارك الناجحة واسعة النطاق وغارات التمرد التي نفذها الشيشانيون.
دفع الإحباط الواسع النطاق للقوات الروسية في المنطقة والهجوم الناجح لاستعادة غروزني من قبل قوات المتمردين الشيشان بقيادة أصلان مسخادوف، الرئيس الروسي بوريس يلتسين إلى إعلان وقف إطلاق النار في عام 1996، والتوقيع على معاهدة سلام بعد ذلك بعام، وشهدت انسحاب القوات الروسية، دون حسم لمسألة استقلال الشيشان.
وأدت الحرب إلى أن ما يقرب من نصف مليون شخص (40% من سكان الشيشان قبل الحرب) نزحوا داخلياً وعاشوا في مخيمات اللاجئين أو القرى المكتظة. وتمركز لواءان روسيان بشكل دائم في الشيشان.
معركة غروزني الثانية انتصر فيها الروس فما الذي تغير عن المعركة الأولى؟
بدأت الحرب الشيشانية الثانية بغارات جوية روسية مكثفة على الشيشان. وفي 1 أكتوبر/تشرين الأول 1999، تم شن هجوم بري.
وعكس يلتسين في عام 1994، جمع خليفته الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بين العمل العسكري والسياسي، حيث شكَّل تحالفاً مع مفتي الشيشان أحمد قديروف وعشيرته.
وجاء أداء الجيش الروسي في حرب الشيشان الثانية أفضل تنظيماً وتخطيطاً ووحشية من الحرب الشيشانية الأولى، سيطرت القوات المسلحة الروسية على معظم المناطق. واستخدمت القوات الروسية أساليب وحشية، فقتلت 60 مدنياً شيشانياً خلال عملية تطهير في ألدي، في 5 فبراير/شباط 2000، بعد إعادة الاستيلاء على غروزني.
وقالت مورا رينولدز، مراسلة "لوس أنجلوس تايمز" في موسكو آنذاك: "كانت الأرض متفحمة بالمعنى الحرفي للكلمة. لم يكن هناك سوى عدد قليل جداً من المباني في وسط غروزني لا تزال قائمة… لقد احترقت جميع الأشجار، على الرغم من حلول الربيع، لم يكن هناك لون أخضر. لم تكن هناك أية علامة على الحياة".
تظهر معركتا ستالينغراد وغروزني الأولى وكذلك الفلوجة الأولى أن المدافعين يبلون بلاءً حسناً عندما يكون الحصار حول المدن غير مكتمل ويظلّ للمدافعين منفذ للخارج.
ففي غروزني عام 1994، حاول الرّوس اقتحام العاصمة من جهتين مع ترك جبهةٍ كاملة مفتوحة للشيشانيين. فاستخدمها دوداييف ومسخادوف لتنظيم الإمدادات وتأمين الانسحاب، ولم يكن هدف المعركة الصمود في المدينة، فهي سقطت في النهاية، بل تأخير الرّوس وتكبيدهم خسائر تكسر لديهم إرادة القتال.
معركة الدفاع عن مخيم جباليا التي دفعت إسرائيل للانسحاب من غزة
في معركة أيام الغضب التي استهدفت مخيم جباليا بشمال قطاع غزة عام 2004، تعرض الإسرائيليون لواحدة من أكبر الهزائم في تاريخ صراعهم مع الفلسطينيين.
إذ حشد الاحتلال آنذاك تعزيزات قوامها 100 دبابة مدعومة بغطاء جوي من طائرات الاستطلاع والأباتشي تجاه الأطراف الشرقية لمخيم جباليا، مستهدفةً المواطنين الآمنين في بيوتهم، بشتى أسلحته للضغط على المقاومة، في محاولة لدفع الشعب الفلسطيني للتخلي عن احتضانه لها ووقف إطلاق صواريخ القسام والمقاومة.
استمرت المعركة 17 يوماً، خاضت المقاومة الفلسطينية فيها قتالاً شرساً، مستخدمةً فيه الأسلحة البسيطة والعبوات محلية الصنع، إضافةً إلى استمرار إطلاق الصواريخ تجاه بلدة "سديروت" وتنفيذ عدة عمليات ضد القوات الإسرائيلية المتوغلة.
وتصدت كتائب القسام والمقاومة لتوغل الاحتلال، ونفذت عمليات أوقعت من خلالها عدداً من القتلى والجرحى في صفوف قواته، ما أربك حسابات الاحتلال. وتُوجت عمليات المقاومة خلال معركة أيام الغضب بعملية اقتحام "موقع الإدارة المدنية"، التابع للاحتلال والتي أدت إلى مقتل قائد الحملة العسكرية على جباليا وخمسة آخرين، وإصابة عدد من الجنود بجروح مختلفة، تلت هذه العملية سلسلة كمائن عبر عبوات أرضية، أحدها تفجير عبوة موجهة تجاه دورية مشاة تقدر بخمسين جندياً، وتفجير أخرى بدورية مشاة (كوماندوز) على أعتاب المخيم.
أفشلت المقاومة مخطط الاحتلال بالتوغل داخل المخيم، وألحقت خسائر فادحة بالقوات والآليات المتوغلة، وتمكنت من تدمير أكثر من 22 دبابة، و31 جرافة، إضافةً إلى 18 ناقلة جند وجيب عسكري، التي حاول جنود الاحتلال الاحتماء بحديدها الذي تشظى من وطأة أسلحة المقاومة، وهو ما أدى إلى مقتل نحو 20 جندياً إسرائيلياً.
وتقدّر الأوساط الفلسطينية أن أرئيل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق وأحد أكثر السياسيين تطرفاً ودموية أجبر على اتخاذ قرار الانسحاب من قطاع غزّة (ضمن ما سماها خطة فكّ الارتباط) إثر نتائج هذا العدوان الذي فشل في تحقيق أهدافه، فلم يمنع الهجوم الإسرائيلي على مخيم جباليا، وصول الصواريخ ولم يوقف عمليات المقاومة ولم يخمد الانتفاضة الشعبية الفلسطينية.
معركة الموصل.. نموذج لجحيم حرب المدن وشهدت توسعاً في قتال الأنفاق
كانت السيطرة على الموصل في العراق والرقة في سوريا بمثابة انتصار كبير لتنظيم "داعش" في 2014؛ وكان طرده من تلك المدن من قبل تحالف تقوده الولايات المتحدة بعد عامين مؤشراً على سقوطه، ولكن الثمن كان باهظاً.
واستعاد الجيش العراقي الموصل، بمساندة جوية من قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة، من قبضة مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية في يوليو/تموز 2017.
واستغرقت عملية استعادة المدينة 9 أشهر من القتال الضاري مع مسلحي التنظيم، ولكن التدمير كان مروعاً، ويعتقد أن إخلاء نسبة كبيرة من السكان المدنيين وكراهية كثير من سكان المدينة لداعش وحكمها سهل مهمة القوات العراقية.
وتضاربت التقديرات حول الخسائر العسكرية والمدنية، ولكن كثيراً من المؤسسات الإنسانية والإعلامية تقول إن عدد الضحايا هو أضعاف العدد المعلن، وقالت وكالة أسوشيتدبرس الأمريكية إن العدد الفعلي للمدنيين القتلى حوالي 9 آلاف.
في الموصل، أصابت الضربات الجوية الأمريكية المباني بدقة غير عادية، حسب ما ورد في تقرير صحيفة الشرق الأوسط، لكن الإرهابيين هربوا ببساطة إلى أماكن أخرى ضربت بدورها. النتيجة، كما يشير الرائد في الجيش الأمريكي عاموس فوكس، كانت أن القنابل تتتبع العدو ببساطة من منزل إلى منزل. قُتل أكثر من 10000 مدني في الموصل، نحو ثلثهم على يد التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة.
تظهر حروب المدن أنها تميل للتوسع تحت الأرض، يصف العالم وضابط الاحتياط في الجيش البريطاني ماركو بولمر، كيف تم استغلال المجاري والكهوف حول الموصل؛ حيث بُنيت أنفاق جديدة، بعضها كبير بما يكفي للمركبات. تم تجهيز أكثرها تطوراً بالمهاجع والمستشفيات وأنظمة التهوية.
ويتوقع أن حرب في غزة سوف تشهد دوراً للأنفاق أكبر من الموصل، وقد يكون الدور الأكبر في تاريخ حروب المدن.
وتزعم القوات المسلحة الإسرائيلية أنها دمرت 100 كيلومتر من الأنفاق تحت غزة خلال الحرب مع حركة "حماس" 2021.
في المدن ببساطة لا تستطيع الجيوش رؤية معظم التهديدات؛ حيث يتم إخفاء قطاعات كبيرة من العدو عنا".
ماريوبول بأوكرانيا.. معركة المصنع
في الحرب على أوكرانيا، واجهت روسيا أنواعاً مختلفة من حروب المدن التي تحصن داخلها مقاتلون أوكرانيون تسببوا في تدمير المعدات الروسية وإبطاء تقدمها.
تعرضت مدن أوكرانية، كمدينة ماريوبول على سبيل المثال وليس الحصر، لقصف عنيف خلال الغزو الروسي الذي دمر الأبنية والبنية التحتية في المدينة. وتشير التقارير إلى أن الدمار شمل نحو 90% من المدينة التي "لم يستطع الجيش الروسي اقتحامها بالدبابات" فحولها إلى أنقاض وفقاً للقائد السابق لقيادة القوات المشتركة البريطانية ريتشارد بارونز.
وفي المقابل، استخدم المدافعون الأوكرانيون في ماريوبول الشبكات الجوفية لأعمال الصلب في مصنع آزوفستال؛ ما جعلهم يصمدون أمام قوة روسية متفوقة لعدة أشهر.
شروط نجاح حروب المدن ومتي تأتي لصالح المدافعين؟
يظهر من العرض السابق أن نجاح المدافعين عن المدن مرتبط بعدة عوامل، أبرزها أن يكونوا من أهل المدينة وأن يحظوا بدعمهم، وأن يكون لديهم شبكة أنفاق قوية، وأن يكون لديهم طرق للإمدادات.
يتوفر كل ذلك للمقاومة الفلسطينية تقريباً ما عدا العامل الأخير، ولكن في الأغلب المقاومة قامت بتخزين كميات ضخمة من الذخيرة والعتاد والمؤونة، إضافة إلى أن المقاومة باتت تصنع جزءاً كبيراً من ذخائرها وأسلحتها في ورش صغيرة مخفية تحت الأرض.
كما أنه من المعروف أنه في غزة إلى جانب الأنفاق الموجودة للعمل العسكري ومباغتة الإسرائيليين فإن الأنفاق نشأت في الأصل كوسيلة لتهريب السلاح والسلع من خارج القطاع لمواجهة الحصار القائم منذ سنوات، الأمر الذي قد يكون مؤشراً على قدرة المقاومة ولو جزئياً على حل مشكلة الإمداد والتموين.
العديد من التقنيات الحديثة التي تعتمد عليها القوات الغربية ببساطة غير فعالة تحت الأرض، بما في ذلك الملاحة عبر الأقمار الصناعية والمراقبة باستخدام الطائرات من دون طيار كما يمكن أن تكون غير دقيقة على السطح أيضاً. يمكن أن تتداخل "الأخاديد الحضرية" بين المباني الشاهقة مع إشارات الراديو.
التلفزيون والراديو المدني يؤثران في موجات الأثير. يقول العميد الإسرائيلي المتقاعد الذي قاد وحدات في الضفة الغربية ولبنان غال هيرش: "المشكلة الرئيسية هي أنه في مثل هذه المنطقة المزدحمة والمكتظة بالسكان والمعقدة، نرى فقط ما يمكننا رؤيته".
يراهن الأمريكيون وهم يقدمون النصائح للإسرائيليين على أن المعركة سوف تكون أقرب لمعركة الموصل ضد داعش منها للفلوجة، ولكن هناك نقطة فارقة رئيسية بين الموصل وغزة.
كان تنظيم داعش مكروهاً في الموصل وسائر العراق، بينما المقاومة ابنة طبيعية للبيئة في غزة، والمقاومون يقاتلون بين أهاليهم وأقاربهم، كما أن شبكة الأنفاق في غزة في الأغلب لا مثيل لها في التاريخ، ولذا فإن هذه العوامل قد تجعل معركة غزة أقرب بالنسبة للمدافعين عنها إلى ستالينغراد ومعركة الفلوجة الأولى منها للموصل.