وقعت مجزرة دير ياسين قبل شهرٍ واحد من مجزرة الطنطورة وشهرٍ واحد من قيام ما يُعرف بـ"دولة إسرائيل"، وقد تركت أثراً بالغاً لدى الفلسطينيين ليس بسبب عدد ضحاياها، بل لأنها شكلت علامةً فارقة في تثبيت المشروع الصهيوني على أرض فلسطين.
ارتُكبت المجزرة على يد جماعاتٍ صهيونية مسلحة، صارت بعد فترةٍ وجيزة جيشاً نظامياً تابعاً لدولة الاحتلال الإسرائيلي. وهي محفورة في الوجدان الفلسطيني، لأن ما رافقها من أحداثٍ سياسية وعسكرية جعلها نقطة تحوّلٍ في النكبة عام 1948.
ما قبل مجزرة دير ياسين
تقع دير ياسين غربي القدس، على تلٍّ يصل ارتفاعه إلى 800 متر، ما منحها إطلالة واسعة مواجهة للضواحي اليهودية التي شملت 6 مستعمرات -أبرزها مستعمرة جفعات شاؤول- كانت بمثابة سدٍّ منيع بينها وبين القدس.
قُدّر عدد سكانها بـ750 نسمة موزعة على ما يقارب 145 منزلاً، وقد فصل بين دير ياسين والمستوطنات اليهودية وادٍ، غُرست فيه أشجار الزيتون والتين واللوز، وكان موازياً لطريقٍ ترابي يؤدي إلى جفعات شاؤول ومن ثم القدس.
سبق مجزرة دير ياسين تطورات سياسية أثرت على المشهد العام في المنطقة. فبعد صدور خطة تقسيم فلسطين في نهاية 1947، وخلال الأشهر التي سبقت نهاية الانتداب البريطاني على فلسطين في مايو/أيار 1948، اشتعلت الحرب في فلسطين.
فقد شهدت تلك المرحلة منافسة عسكرية شرسة، بين تنظيم الهاغاناه من جهة وتحالف تنظيمَي الإرغون وشتيرن (ليحي) من جهة أخرى، الذي كان مناحيم بيغن أبرز قادته. وقد تنافست الجهتان على العمليات الإرهابية ضدّ الفلسطينيين.
في النصف الأول من أبريل/نيسان 1948، شهدت المنطقة تحولاً نوعياً في ميزان القوى بين الصهيونيين والفلسطينيين، إثر بدء تنفيذ الخطة (د) من قِبل القيادة الصهيونية والتي تنصّ على توسيع رقعة الدولة اليهودية وتطهيرها عرقياً، ومحاولة ضمّ مدينة القدس إليها.
وفقاً لـ"الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية"، فقد صدر قرار بدء مجزرة دير ياسين في 6 أبريل/نيسان، بهدف تسجيل انتصارٍ جديد لصالح تنظيمَي الإرغون وشتيرن، عقب احتلال قوات الهاغاناه قرية القسطل الاستراتيجية.
وقد وقع الاختيار على دير ياسين بسبب عجز التنظيمين عن القيام بعمليةٍ واسعة النطاق على غرار عمليات الهاغاناه، مع الإشارة إلى أن مجزرة دير ياسين حدثت بعد أسبوعين فقط من توقيع اتفاقية سلام طالب بها رؤساء المستوطنات اليهودية، ووافق عليها أهالي دير ياسين.
ويتضح من المراسلات التي ظهرت لاحقاً بين قادة عصابتَي الإرغون وشتيرن وقيادات في الهاغاناه، أن الأخيرة أعطت ضوءاً أخضر لبدء تنفيذ مجزرة دير ياسين، ما يعني أن اختيارها لم يكن عشوائياً على الإطلاق.
تفاصيل مذبحة دير ياسين
كانت الخطة التي وضعتها العصابتان تقضي بمهاجمة القرية من خلال التحرك على 4 محاور؛ يتقدم أول فريق من مستوطنة جفعات شاؤول، بالتوازي مع فريقٍ آخر يدخل القرية من الشرق وتتقدمه مصفحة عليها مكبرٍ للصوت.
أما المحور الثالث فينطلق من مستعمرة "بيت هكيرم" ويتقدّم لاقتحام القرية من الناحيتين الجنوبية والشرقية عند جامع الشيخ ياسين، فيما يتوجه المحور الرابع من "بيت هكيرم" نحو الغرب لتنفيذ ما يُعرف بالحركة الالتفافية.
وفجر يوم الجمعة 9 أبريل/نيسان 1948، بدأت مجزرة دير ياسين باقتحام الصهاينة للقرية في محاولةٍ لمباغتة أهلها النائمين، إلا أن الأهالي كانوا يتناوبون على الحراسة متسلّحين ببنادق قديمة، لأنهم كانوا في حالة حذرٍ شديد في الأيام التي سبقت المذبحة، لاسيما بعد استشهاد القائد العسكري الفلسطيني عبد القادر الحسيني.
وقعت في البداية معركة غير متكافئة بين القوات الصهيونية وأهالي قرية دير ياسين، الذين واجهوهم بمقاومةٍ شرسة -رغم أنها لم تصمد طويلاً- ما استدعى تدخل قوات الهاغاناه.
استمر الهجوم على دير ياسين حتى الواحدة من بعد ظهر اليوم التالي، وقد ارتكب التنظيمان -بمساعدة الهاغاناه- مجزرة كاملة بحق أهالي القرية، مستخدمين أكثر الأساليب وحشية؛ من قتل الرجال والنساء والأطفال والشيوخ، والتنكيل بالجثث، مروراً بتدمير البيوت فوق رؤوس أهلها عن طريق استخدام قذائف الهاون، وصولاً إلى الاغتصاب ونهب البيوت.
لم تكتفِ العناصر الصهيونية المسلحة بإراقة الدماء في القرية، بل عمدوا إلى تجميع النساء والأطفال والشيوخ ونقلهم في شاحنات طافوا بها داخل الأحياء اليهودية لاستعراض "بطولاتهم"، قبل إعادتهم إلى دير ياسين وإيقافهم على الجدران ثم إعدامهم بالرصاص.
في حين تشير بعض المصادر إلى أن عدد القتلى وصل إلى 360، تؤكد مصادر أخرى أن هذا العدد مبالغ فيه وأن الذين تمّ إعدامهم في القرية لا يتخطون الـ150 شخصاً، وسط تكتمٍ إسرائيلي شديد على الأرقام الموثقة لديه.
وتحفل الكتابات التي تناولت المجزرة بشهادات الناجين الذين تحدثوا عن ممارسات وحشية ارتُكبت بحق عائلاتٍ قُتلت بأكملها، وبحق الفتيات اللواتي تم اغتصاب بعضهن بحضور أهلهن، قبل تعذيبهن والتنكيل بجثثهن ورميهن في النار.
"وُلد في دير ياسين" هو فيلمٌ وثائقي أعدّته المخرجة الإسرائيلية نيتع شوشاني التي تقول في تقريرٍ من إنتاج قناة "الجزيرة": "عندما قرأتُ عن دير ياسين، فهمتُ أنه حدث شيءٌ كبير عُرف بالنكبة وعلق في ذاكرة الفلسطينيين".
تقول المخرجة الإسرائيلية إن مركز الأرشيف المركزي الإسرائيلي لم يوافق لها على فتح الملفات ومشاهدة الصور القديمة، رغم لجوئها إلى المحكمة العليا في إسرائيل، وتؤكد: "في إسرائيل، لا أحد يريد فتح ملف دير ياسين".
تُعتبر دير ياسين من أولى المدن الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل، وبالتأكيد لم تكن الأخيرة، لكن رمزيتها مرتبطة بالنكبة ومخططات التهجير القسري بحق الفلسطينيين المستمر حتى اليوم.
بعد يومين من مذبحة دير ياسين، دخل جاك دو رينييه -ممثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر في القدس- إلى القرية المنكوبة لتوثيق ما جرى. ووفقاً لكتاب "دير ياسين"، للمؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي، فقد وصف دو رونييه ما شاهده قائلاً:
"كان جلّ أفراد العصابة من الأحداث، وبعضهم في سن المراهقة، وكانوا جميعاً مدججين بالسلاح ويحملون المسدسات والرشاشات والقنابل اليدوية والسكاكين الطويلة. وكانت معظم السكاكين ملطخة بالدماء. وكان واضحاً أن هذا هو فريق التطهير المكلف بالإجهاز على الجرحى، واتضح ذلك من خلال الجثث المكدسة خارج المنازل وداخلها".
في رسالةٍ كتبها بعد يومٍ واحد من المجزرة إلى شيبرد ريفكين، الذي كان يتولى منصب المدير التنفيذي لـ"جمعية أصدقاء المحاربين من أجل حرية إسرائيل" في الولايات المتحدة، ندّد ألبرت أينشتاين بما سمّاها "الكارثة" قائلاً:
"عندما تحلّ بنا كارثة حقيقية ونهائية في فلسطين، فإن المسؤول الأول عنها سيكون البريطانيون، والمسؤول الثاني هو المنظمات الإرهابية التي تكوّنت من صفوفنا".
في العام نفسه، وبعد إعلان ما يُعرف بـ"دولة إسرائيل"، قررت حكومة الاحتلال المؤقتة تحويل الهاغاناه إلى جيشٍ نظامي تابع للدولة، ومنه اتخذ الجيش اسمه.
وقد تباهت سلطات الاحتلال بمجزرة دير ياسين، لدرجة أنها عيّنت أفراد الهاغاناه في المناصب العليا بدولتها الحديثة، مثل رؤساء الوزراء شمعون بيريز وإسحاق رابين ومناحيم بيغن، كما تولّى موشيه ديان لاحقاً قيادة جيش الاحتلال الذي وُلد من رحم هذه الجماعات الصهيونية التي ارتكبت الفظائع.