أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي رسمياً توسيع عمليته البرية في قطاع غزة، بعد 25 يوماً من التهديد والتردد، حيث توغلت القوات الإسرائيلية بغطاء جوي كثيف في عدة محاور من القطاع، لتجد مقاومة عنيفة وضارية في طريقها، بحسب ما أعلن الناطق الرسمي باسم جيش الاحتلال.
ليست المعركة البرية الأولى في غزة
شهد قطاع غزة مواجهات برية أكثر من مرة بين المقاومة والجيش الإسرائيلي، في حرب عام 2008 وحرب عام 2014، عندما حشدت إسرائيل 75 ألف جندي احتياط لعملية استمرت 50 يوماً، ودخلت عبر طرق القطاع ذاتها التي تدخلها اليوم، وهي تواجه مقاومة شرسة في نفس المناطق والأماكن التي وصلت إليها من قبل.
اجتياح غزة عام 2008
في 27 ديسمبر/كانون الأول 2008، بدأت إسرائيل حرباً على قطاع غزة ضمن عملية أطلق عليها اسم عملية "الرصاص المصبوب"، ورد الفلسطينيون عليها بعملية معركة الفرقان، وكان الهدف الذي وضعته إسرائيل لهذه الحرب هو "إنهاء حكم حركة حماس في القطاع بالكامل، ومنعها من قصف إسرائيل بالصواريخ"، لكنها فشلت في ذلك.
وبعد فترة وجيزة وبالتحديد في الثالث من يناير/كانون الثاني 2009، بدأ اجتياح بري للقطاع، وتقدمت القوات الإسرائيلية وحاصرت منطقة وسط غزة، حيث خاضت معارك عنيفة مع المقاومة الفلسطينية، وتعرضت قواتها لكمائن غير مسبوقة.
وبعد بضعة أسابيع من الاجتياح البري، أعلنت إسرائيل وقف إطلاق النار من جانب واحد، يوم 17 يناير/كانون الثاني، وعزمها الانسحاب في حال توقف الفلسطينيون عن قصف المستوطنات، ثم انسحبت إسرائيل من غزة.
وأسفرت تلك الحرب عن أكثر من 1430 شهيداً فلسطينياً، معظمهم من الأطفال والنساء، بالإضافة إلى أكثر من 5400 جريح، ودمرت أكثر من 10 آلاف منزل دماراً كلياً أو جزئياً. وبدورها اعترفت إسرائيل بمقتل وإصابة نحو 300 إسرائيلي معظمهم من الجنود.
اجتياح غزة عام 2014
في 8 يوليو/تموز 2014، شنت إسرائيل حرباً على غزة بهدف تدمير حماس وإنهاء حكمها، وأطلقت عليها اسم "الجرف الصامد"، وردت كتائب عز الدين القسام عليها باسم "معركة العصف المأكول".
وفي 17 يوليو/تموز، أعلنت إسرائيل عن غزوها لقطاع غزة بهدف تدمير نظام الأنفاق في غزة؛ ثم انسحبت القوات البرية الإسرائيلية في 5 أغسطس/آب بعد تكبدها خسائر فادحة قُتل على إثرها نحو 70 جندياً إسرائيلياً، واستمرت الحرب 7 أسابيع استشهد خلالها أكثر من 2100 فلسطيني في غزة.
والحرب في المدن دائماً ما تكون مرعبة ودموية. فقد أدى الهجوم الأمريكي الأول على الفلوجة عام 2004 إلى تدمير المدينة الصغيرة بسبب حجم الخسائر التي تكبدها الجيش الأمريكي هناك، كما قتل قرابة 600 مدني، أو 0.2% من السكان، مقارنة بنحو 0.3% في حرب اليوم في غزة. وأدى هجوم ثانٍ في وقت لاحق من ذلك العام إلى مقتل نحو 800 شخص آخرين وإلحاق دمار كبير بمعظم مباني المدينة.
لماذا ستكون هذه الحرب البرية في غزة أكثر دموية وتعقيداً بالنسبة لإسرائيل؟
1- قطاع غزة مكان مليء بالسكان الذين يرفضون مغادرته
رغم تدمير إسرائيل لأكثر من 50٪ من المباني السكنية في قطاع غزة في هذه الحرب، بوساطة الطائرات التي لا تتوقف عن شن ضرباتها من الجو بهدف التمهيد للدخول البري، تختلف هذه المعركة البرية كثيراً عن أي اجتياح سابق، وتختلف حتى عن معركة الجيش الأمريكي في الفلوجة أو اجتياح الموصل في عام 2014 لقتال داعش.
وأحد هذه الاختلافات الرئيسية أن قطاع غزة يعيش فيه مئات آلاف المدنيين ويرفضون الخروج منه. أما المدنيون من الموصل، فقد خرجوا من مدينتهم، وفرّ قرابة 900 ألف شخص بين أكتوبر/تشرين الأول عام 2016 ويونيو/حزيران عام 2017، وهو ما يمثل قرابة نصف سكان المدينة قبل الحرب.
وحتى أثناء الحصار الذي فرضته روسيا على ماريوبول في أوكرانيا في الفترة من فبراير/شباط إلى مايو/أيار 2022، جرت مفاوضات على هدنة مؤقتة لأسباب إنسانية للسماح برحيل بعض المدنيين. وفي المقابل، رفضت إسرائيل حتى الآن دعوات من الاتحاد الأوروبي وآخرين لهدنة مماثلة، وفي الوقت نفسه يرفض أهل غزة الرحيل عنها، وخصيصاً المنطقة الشمالية.
وحتى المدنيون الذين نزحوا إلى جنوب غزة تم قصفهم ولا يزالون يواجهون أزمة إنسانية متفاقمة. إذ يواجه نظام الرعاية الصحية في غزة ضغوطاً شديدة، وبلغت طاقته الاستيعابية 3,500 سرير فقط، وهذا أقل بكثير من الطلب الناتج عن الصراع المتفاقم.
2- طبيعة جغرافية صعبة في غزة
تطرح طبيعة غزة الجغرافية صعوبات أمام عمليات الإخلاء أثناء الحرب. ورغم التهديدات التي أصدرتها إسرائيل لـ1.1 مليون مدني بإخلاء شمال غزة، اختار عدد كبير منهم البقاء في تحدٍّ للاحتلال، وهناك آخرون منهم أصبحوا لاجئين بالفعل داخل مدارس وكالة الغوث. والخوف من فقدان المنازل بشكل دائم يمنع البعض من المغادرة. أما خيار اللجوء إلى مصر فمرفوض وغير متاح.
وتواصل إسرائيل شن غاراتها على الأجزاء الجنوبية من غزة، وإن كان بدرجة أقل عن الشمالية. وتحول المناطق الحضرية ذات الكثافة السكانية العالية دون عثور السكان المحليين على مكان آمن يلجأون إليه، ودون تنفيذ عمليات عسكرية في مناطق مفتوحة.
ويشير خبير حرب المدن، آموس فوكس، إلى أن القتال في غزة حالة مستقلة بذاتها وربما أكثر تدميراً من الحروب السابقة، لأنها شريط جغرافي مليء بالكثافة السكانية والمباني المتلاصقة، وتحتاج إسرائيل للقضاء على حماس إلى القتال في غزة من بيت إلى بيت، وهو أمر مستحيل.
3- الحاضنة الشعبية وجذور حماس الراسخة في غزة
ويتمثل الاختلاف الآخر في درجة امتزاج البنية التحتية المدنية بالعسكرية في غزة. ففي الموصل، احتل تنظيم الدولة الإسلامية المدينة لفترة قصيرة من الزمن، أنشأ خلالها أنظمة دفاعية استناداً إلى العقيدة العسكرية الغربية. ومن ناحية أخرى، تأسست حركة حماس الفلسطينية في غزة عام 1987، ولها جذور عميقة في المنطقة تعود إلى عقود طويلة.
وحماس جزء أساسي من النسيج الاجتماعي في غزة، وتسيطر على القطاع وتديره منذ 17 عاماً. ودفاعات حماس مبنية في كل مكان، وأحد أسباب نجاح حماس في السيطرة على غزة عام 2007 كان حاضنتها الشعبية القوية، والتي خاضت معها حروباً عديدة شنها الاحتلال الإسرائيلي.
4- اختلاف التكتيكات العسكرية وجهوزية حماس العالية
والاختلاف الآخر عن أية معركة برية سابقة، هو التكتيكات العسكرية وجهوزية حماس العالية التي طورت من قدراتها العسكرية والصاروخية والاستخباراتية بشكل كبير، وتمثل هذا في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، حيث صدمت حماس إسرائيل والغرب بقدراتها غير المسبوقة.
ورغم إلقاء إسرائيل عشرات آلاف من القنابل على غزة وزعمها أنها استطاعت ضرب حماس بقوة، إلا أن إطلاق الصواريخ من غزة على المدن المحتلة لم يتوقف على الإطلاق، بل أصبح أكثر شراسة مؤخراً، وسط اتهامات من الإسرائيليين لنتنياهو بالفشل وعدم القدرة على حمايتهم من غزة وفشل كل وعوده بذلك.
كذلك الأمر لم تتوقف عمليات الإنزال التي تنفذها كتائب القسام خلف الخطوط الإسرائيلية، وظلت تشن عمليات برية وبحرية تباغت الجيش الإسرائيلي الذي يحاول لملمة جراحه والتركيز على ما هو آتٍ.
5- "هستيريا الأنفاق" التي تنتظر الجيش الإسرائيلي
الأخطر بالنسبة لإسرائيل في هذه المعركة، هو أن المقاومة في القطاع تمتلك شبكة لا نهاية لها ولا يعلم عنها أحد شيئاً من الأنفاق الدفاعية والهجومية على طول مساحة القطاع، والتي تم تطويرها بشكل كبير منذ آخر حرب برية خاضتها إسرائيل مع قطاع غزة في عام 2014، وكان عنوانها الرئيسي تدمير شبكة أنفاق حماس، لكنها فشلت في ذلك.
وستصبح مواجهة إسرائيل لهذه الأنفاق في هذه الحرب، الأكثر صعوبة في تاريخ الاحتلال، لفشلها في مواجهة ظاهرة الأنفاق الأرضية المنتشرة على حدود القطاع وفي داخله، وهو ما يصيب المستويين السياسي والعسكري بما يسمى "هستيريا الأنفاق" التي باتت تشكل تهديداً استراتيجياً حقيقياً.
حيث يخشى جيش الاحتلال من أن تلعب الأنفاق الدور الأكثر محورية في استنزافه، وتكبيده خسائر فادحة في الأرواح والعتاد العسكري، عبر العمليات الهجومية التي ستفاجئ وحدات النخبة في مختلف مناطق قطاع غزة "التفاح، الشجاعية، شرق خان يونس، رفح، وبيت حانون".
ولعل ما ضاعف هذه الهستيريا أن النفق الواحد جرى استخدامه أكثر من مرة من طرف المقاومة، وأن عدداً منها أعلن الجيش عن تدميره قام المقاومون بإعادة استخدامه مرة أخرى، ما أذهل قادة الاحتلال، وغرس فيهم القلق والإحباط بشكل غير مسبوق.
6- إسرائيل تخوض هذه الحرب دون معلومات استخباراتية
الفرق المهم والخطير أيضاً عن حروب إسرائيل البرية السابقة مع غزة، هو طبيعة المعلومات في ساحة المعركة، حيث تفتقد إسرائيل لهذا العنصر، بعد الضربة التي تلقتها فرقة غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بالإضافة إلى أن الاهداف المعتادة والمعروفة، تم ضربها في الأسبوع الأول من الهجوم. وكان على القوات الجوية الإسرائيلية بعد ذلك أن تنتقل إلى الاستهداف "الديناميكي"، أي إيجاد أهداف لم تكن معروفة في بداية الحرب وضربها، لكن لم تكن إسرائيل تمتلك أياً من المعلومات حول تلك المواقع، ولهذا السبب صبت جام غضبها على المدنيين العزل وارتكبت عشرات المجازر.
في الموصل، قدّم بعض المدنيين، وكثيرون منهم كانوا يكرهون داعش، ثروة من المعلومات الاستخبارية البشرية، أو المعلومات التي تنقلها مصادر على الأرض، إلى القوات العراقية، وهذا ساعدها على استهداف مقاتلي داعش. وفي المقابل، خلال معركة الرقة، وهي مدينة سورية كان يسيطر عليها تنظيم داعش، عام 2017، كان القادة، في وجود عدد محدود من قوات المشاة على الأرض، "تنقصهم المعلومات المحلية"، ووجدوا أنفسهم يعتمدون على المراقبة الجوية، وعاجزين عن مشاهدة ما يحدث داخل المباني، وفقاً لتقرير صادر عن مؤسسة راند البحثية.
وتعرضت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية بالفعل لفشل استخباراتي خطير في غزة، بعدما أغفلت إشارات كثيرة عن استعدادات حماس لهجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول. وتتمتع حماس على الأرجح بميزة الاستخبارات البشرية على الأرض، بحسب تقديرات أمريكية، وذلك لأن السكان المحليين يعاونونها باستمرار مع أي تقدم للجيش الإسرائيلي على الأرض.