بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بدأنا سماع كلمة الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي؛ ما دفع إلى التساؤل عن أصل هذه الكلمة وكيف اندرجت ضمن القانون الدولي.
تُعدّ كلمة "الإبادة الجماعية" واحدة من أكثر المصطلحات المحزنة في التاريخ الإنساني. تم تصميم هذا المصطلح لوصف أعمال العنف الجماعي التي تستهدف مجموعات بشرية معينة بناءً على أسباب عرقية أو دينية أو سياسية. ومع ذلك، فإن استخدام هذه الكلمة لم يكن دائماً واضحاً، وقد تطورت مع مرور الوقت.
لم يكن مصطلح "الإبادة الجماعية" موجوداً قبل عام 1944. هذا المصطلح له مدلول خاص جداً، حيث إنه يشير إلى جرائم القتل الجماعي المرتكبة بحق مجموعات معينة من البشر بقصد تدمير وجودها كلياً. بينما حقوق الإنسان، كما هو مبين في قوانين الحريات في الولايات المتحدة الأمريكية أو في إعلان الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان الصادر في عام 1948، هو مفهوم يتعلق بحقوق الأفراد.
النازية وانتشار كلمة الإبادة الجماعية
حسب موقع "facinghistory" الأمريكي خلال سنة 1944، سعى محام يهودي بولندي يدعى "رافائيل ليمكين" إلى وضع وصف للسياسات النازية للقتل المنظم، بما في ذلك إبادة اليهود الأوروبيين. وقام بتشكيل مصطلح "الإبادة الجماعية" genocide باللاتينية عن طريق الجمع بين كلمة "-geno" اليونانية، التي تعني سلالة أو عرقاً أو قبيلة، مع كلمة "cide-" اللاتينية التي تعني القتل.
ولد رافائيل ليمكين، في أسرة بولندية يهودية عام 1900، وفي المراحل المبكرة من حياته ساهم في تشكيل معتقداته حول الحاجة إلى الحماية القانونية للمجموعات، وحينما كان يقوم بصياغة هذا المصطلح الجديد كان رافائيل ليمكين يضع في اعتباره مفهوم "وضع خطة منظمة تتألف من إجراءات مختلفة تهدف إلى تدمير الأساسيات الضرورية لحياة مجموعات قومية، بهدف إبادة المجموعات نفسها".
في العام التالي، وجهت المحكمة العسكرية الدولية في مدينة "نورمبرخ" بألمانيا الاتهامات إلى كبار القادة النازيين بارتكاب "جرائم ضد الإنسانية." وقد اشتملت الاتهامات على كلمة "الإبادة الجماعية"، ولكن ككلمة وصفية، وليست باعتبارها مصطلحاً قانونياً.
ونظراً للجهود المتواصلة التي قام بها "ليمكين" بنفسه في أعقاب "الهولوكوست"، والتي يُقصد بها عملية الاضطهاد والقتل الممنهج الذي سلكته الدولة بغرض قتل 6 ملايين يهودي أوروبي من قبل النظام الألماني النازي وحلفائه والمتعاونين معه في الفترة بين 1933 حتى 1945.
أقرّت الأمم المتحدة اتفاقية تقضي بمنع جرائم الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها في 9 ديسمبر/كانون الأول 1948. واعتبرت هذه الاتفاقية "الإبادة الجماعية" بمثابة جريمة دولية تتعهد الدول الموقعة عليها "بمنعها والمعاقبة عليها".
حسب موقع "ushmm" الأمريكي ينقسم مصطلح الإبادة الجماعية إلى 5 أقسام، وهي:
- قتل أعضاء أو مجموعات.
- التسبب في ضرر جسدي أو عقلي خطير لمجموعة من الناس.
- إخضاع الجماعة عمداً لظروف معيشية يقصد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً.
- فرض إجراءات تهدف إلى منع الولادات داخل الجماعة.
- نقل أطفال المجموعة قسراً إلى مجموعة أخرى.
وهناك أنواع أخرى من جرائم العنف التي لا تندرج تحت التعريف المحدد للإبادة الجماعية. والتي تشمل الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، والتطهير العرقي، والقتل الجماعي.
وفي الوقت الذي شهد فيه التاريخ العديد من الحالات التي يستهدف فيها العنف الجماعات المختلفة وحتى منذ بدء سريان الاتفاقية، تركز التطور الدولي والقانوني للمصطلح حول فترتين تاريخيتين بارزتين:
- الفترة الأولى، وهي الفترة التي بدأت منذ صياغة المصطلح وحتى قبوله كقانون دولي ما بين سنة 1944 و1948.
- الفترة الثانية هي فترة تفعيله في ظل تأسيس المحاكم العسكرية الدولية للبت في جرائم الإبادة الجماعية ما بين 1991 و1998.
الإبادة الجماعية وإدراجها في القانون الدولي
حسب موقع "bbc" البريطاني بدأت القصة عندما تولى أدولف هتلر منصب مستشار ألمانيا في 30 يناير/كانون الثاني 1933إيذاناً بسيطرة الحزب النازي على مقاليد الحكم في ألمانيا. وفي أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، انسحبت الوفود الألمانية من مباحثات نزع السلاح في جنيف، وأعقب ذلك انسحاب ألمانيا النازية من عصبة الأمم المتحدة.
وفي أكتوبر/تشرين الأول، في مؤتمر القانون الدولي بمدريد، اقترح رافائيل ليمكين (الذي صاغ مصطلح "الإبادة الجماعية" فيما بعد) تدابير قانونية لحماية المجموعات، غير أن اقتراحه لم يجد الدعم
عند اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939 إثر قيام ألمانيا بغزو بولندا، ما أدى إلى إعلان كل من إنجلترا وفرنسا بموجب معاهدة بينهما الحرب على ألمانيا، ليتمكن الجيش السوفييتي باحتلال النصف الشرقي من بولندا، ما دفع عدداً من اليهود بالفرار إثر عملية الإبادة التي كانوا يتعرضون لها.
وفي 22 يونيو/حزيران سنة1941 غزت ألمانيا النازية الاتحاد السوفييتي. ومع تقدم القوات الألمانية باتجاه الشرق، نفذت القوات العسكرية والبوليس والقوات الخاصة أعمالاً وحشية دفعت رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الوقت، ونستون تشرشل، إلى أن يصرح في أغسطس/آب 1941 قائلاً: "نحن أمام جريمة لا أجد لها تسمية".
وفي ديسمبر/كانون الأول 1941، دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية إلى جانب الحلفاء. وقد سمع رافائيل ليمكين الذي وصل في عام 1941 إلى الولايات المتحدة كلاجئ حديث تشرشل، وقال فيما بعد أن إدخال كلمة "إبادة جماعية" كان في جزء منه داخل خطاب تشرشل.
سنة 1944 لجأت القيادة النازية إلى مجموعة من السياسات المتعلقة بالكثافة السكانية، والتي كانت تهدف إلى إعادة بناء التكوين العرقي لأوروبا بالقوة، وذلك باستخدام القتل الجماعي كأداة. وقد شملت هذه السياسات، والتي من بينها القتل الجماعي، محاولة قتل كافة اليهود الأوروبيين بالإضافة إلى الغجر، ومحاولة التصفية الجسدية للطبقات القيادية في بولندا والاتحاد السوفييتي السابق.
قامت المحكمة العسكرية الدولية في نورمبرغ في الفترة ما بين 20 نوفمبر/تشرين الثاني 1945 و1 أكتوبر/تشرين الأول 1946 بمحاكمة 22 من كبار القادة الألمان النازيين بتهم الجرائم ضد السلام وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية والتآمر لارتكاب كل واحدة من هذه الجرائم.
وكانت هذه هي المرة الأولى التي تُستخدم فيها المحاكم الدولية كآلية لما بعد الحرب تعمل على إحضار القادة الوطنيين أمام العدالة. وقد كانت كلمة "إبادة جماعية" ضمن عريضة الاتهام، لكنها كانت مصطلحاً وصفياً وليس قانونياً.
كان رافائيل ليمكين قوة مهمة في إدخال مصطلح "الإبادة الجماعية" أمام منظمة الأمم المتحدة المنشأة حديثاً في ذلك الوقت، حيث كانت الوفود من أرجاء العالم تناقش مصطلحات لقانون دولي حول الإبادة الجماعية.
وفي 8 ديسمبر/كانون الأول 1948، تم تبني النص النهائي بالإجماع. وقد أصبحت اتفاقية الأمم المتحدة بشأن منع ومعاقبة الإبادة الجماعية سارية المفعول في 12 يناير/كانون الثاني 1951، بعد تصديق أكثر من 20 بلداً حول العالم عليها.
شعوب تعرضت للإبادة الجماعية عبر التاريخ
منذ القدم تعرض العديد من الشعوب إلى عملية الإبادة الجماعية من بين أبرزها نذكر:
- الكونغو: ما بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وفي دولة الكونغو وسط أفريقيا والتي كان يسيطر عليها "ليوبولد الثاني" ملك بلجيكا، الذي استخرج ثروة من الأرض عن طريق استخدام العمل القسري على المواطنين. تحت هذا النظام كان هناك 2 إلى 15 مليون حالة وفاة بين الشعب الكونغولي.
كان سبب الوفاة القتل العمد والعقوبات القاسية، ما تسبب في انتشار بعض الأمراض الجديدة، ما أدى إلى سقوط عدد أكبر من الوفيات، في هذه الحالة كان الدافع الرئيسي للقتل هو كسب الكثير والمزيد من المال.
بعد فترة تمت مناقشة ما إذا كان مصطلح الإبادة الجماعية يصف هذه الفظائع. ومع ذلك، روبرت ويسبورد كتب في مجلة الإبادة الجماعية في عام 2003 أن محاولة القضاء على جزء من السكان تكفي لكي تصنف إبادة جماعية في إطار اتفاقية الأمم المتحدة.
نشرت تقارير عن الفظائع أدت إلى فضيحة دولية في أوائل القرن العشرين، ليوبولد اضطر في نهاية المطاف في عام 1908 من قبل الحكومة البلجيكية إلى التخلي عن السيطرة على المستعمرة إلى الإدارة المدنية.
- الهنود الحمر: تعد أعمال الإبادة الجماعية التي تعرض لها الهنود الحمر واحدة من أكثر الفصول تأثيراً وألماً في تاريخ العالم. تمتد هذه الأحداث عبر قرون، وتضم قصصاً مأساوية للقبائل الأصلية التي تعيش في أمريكا الشمالية والجنوبية.
حسب موقع "history" تم توثيق العديد من حالات الإبادة الجماعية ضد الهنود الحمر منذ وصول الكولونيين الأوروبيين إلى القارة الجديدة. تشمل هذه الحالات عمليات تهجير قسري وقتل جماعي وتدمير لثقافات وأراضي هذه القبائل. من أمثلة هذه الأحداث، نجد حروب الهنود الحمر والمأساة الأمريكية الهندية.
كان لهذه الأعمال الوحشية تأثيرات عميقة على الهنود الحمر ومستقبلهم. فقد فقدوا أراضيهم ومواقعهم المقدسة، وتم تهجيرهم بشكل جماعي. ولم يتمتعوا بحقوقهم كسكان أصليين بالشكل الذي يجب عليهم.
الجهود الحالية:
توجد العديد من الجهود الحالية لتقديم العدالة والتعويض للهنود الحمر. تشمل هذه الجهود اعترافات رسمية بالإبادة الجماعية ومساعي لاستعادة الأراضي والثقافات المفقودة. تحاول الحكومات والمنظمات غير الحكومية تقديم الدعم لهذه القبائل المنكوبة.
في اليوم الحالي ما زالت قضية الهنود الحمر تشغل العالم، وتجعلنا نتأمل في أخطائنا السابقة ونسعى للمصالحة وبناء مستقبل أفضل لجميع الأمم الأصلية. علينا أن نتعلم من تاريخ الإبادة الجماعية هذا، ونعمل معاً من أجل تحقيق العدالة والمصالحة.
- الجزائر: تعتبر الحرب الفرنسية الجزائرية، التي دارت رحاها من عام 1954 إلى عام 1962، حدثاً تاريخياً شديد الحساسية والتعقيد، وكانت مزاعم الإبادة الجماعية التي ارتكبها الفرنسيون في الجزائر موضع نقاش وبحث منذ سنين.
حسب وكالة الأناضول اتّسمت الحرب الفرنسية الجزائرية بالعنف على نطاق واسع، بما في ذلك المذابح والتعذيب والإصابات في صفوف المدنيين. يرى بعض العلماء والمؤرخين أن تصرفات الجيش الفرنسي والسلطات الاستعمارية ضد الجزائريين تندرج ضمن قائمة الإبادة الجماعية.
- فلسطين: من خلال الضوابط المندرجة في القانون الدولي المتعلق بالإبادة الجماعية، سواء من قتل أعضاء أو مجموعات، بالإضافة إلى الضرر الجسدي والعقلي وإخضاع مجموعات لظروف معيشية صعبة ومحاولة تهجيرهم من أراضيهم.
يقوم الاحتلال الإسرائيلي بعملية الإبادة الجماعية لسكان غزة منذ بداية الانتفاضة الفلسطينية، والتي تسببت في مقتل أكثر من 8 آلاف شخص في أقل من شهر على انطلاقها.