كان خطاب نتنياهو بشأن بدء الاجتياح البري لغزة دعوة مبطنة لجنود الاحتلال لتنفيذ عملية إبادة جماعية، عبر ترديد مقتطفات من التوراة، تعطي شرعية لإبادة الفلسطينيين، دون أن يفهم ذلك المستمعُ العادي من غير اليهود أو غير المتخصصين في الدراسات اليهودية.
وأعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، أول من أمس، أن المرحلة الثانية من الحرب ضد حماس بدأت مع دخول مزيد من القوات البرية إلى غزة، الليلة الماضية.
وفي سعيه لإعطاء مزيد من الحماسة للجنود، استشهد رئيس الوزراء الإسرائيلي بالتوراة قائلاً: "عليكن بتذكر ما فعله العماليق بالإسرائيليين. نحن نتذكر، ونحن نقاتل".
ويقول نتنياهو إن جنود جيش الاحتلال جزء من إرث المحاربين اليهود الذي يعود تاريخه إلى 3000 عام منذ عهد يوشع بن نون إلى أبطال حروب 48، و67، و73، وكل حروب إسرائيل، حسب تعبيره، وأكد أن هدفهم واحد: "دحر العدو القاتل، وضمان وجودنا في أرضنا".
تبدو هذه كلمات عادية من نتنياهو لتشجيع جنوده عبر الإشارة إلى ما يعتبره اليهود معاناة تاريخية تعرضوا لها من قبل العماليق، وهو عدو أسطوري مشكوك في وجوده تاريخياً.
يجب إبادة رجال ونساء وأطفال العماليق وحتى حيواناتهم
ولكن لفهم المغزى الخطير لما قاله نتنياهو يجب ذكر الأجزاء التي تتحدث عن العماليق في التوراة وما يجب أن يُفعل بهم من وجهة النظر الواردة فيها.
ففي كتاب صموئيل، الفصل 15، تقول الآية 3: "والآن اذهب واضرب العماليق وحرموا كل ما لهم ولا تعفوا عنهم. بل اقتلوا على السواء الرجل والمرأة، الطفل والرضيع، بقراً وغنماً، جملاً وحماراً".
والتحريم هنا بمعنى الإبادة.
ولقد استشهد موقع Medium الأمريكي بهذه الآية، وقال إن الآية تشرح بشكل مثالي موقف إسرائيل من الإبادة الجماعية ومن فلسطين وحرقها العشوائي للنساء والأطفال الفلسطينيين منذ عام 1947، وذلك استناداً إلى التوراة، ويقول تقرير موقع Medium إن مثل هذه الأعمال تجعل مجموعة من الصهاينة في العالم مكافئة بشكل جذري لتنظيم داعش.
ويضيف الموقع تتضمن مثل هذه الآيات أيضاً قواعد الإبادة الجماعية والرجعية التي بررت الحرق العشوائي للنساء والأطفال اليابانيين بقنبلتين نوويتين. وهذا يجعل مجموعة من الليبراليين في العالم المسيحي الغربي مكافئة بشكل جذري لتنظيم داعش، حسب تعبيره.
والعماليق" صاروا تمثيلاً لذروة الشر في التقاليد اليهودية، ولأجل هذا استخدم الحاخامات وغيرهم من العوام مصطلح "عماليق" للتعبير عن الشعوب التي تُهدِّد الوجود اليهودي، حسبما ورد في تقرير لموقع الجزيرة.نت.
خطاب نتنياهو ذكر يوشع بن نون القائد الذي قتل 12 ألفاً من الرجال والنساء
أما يوشع بن نون الذي أشار إليه نتنياهو ضمن من وصفهم بأبطال إسرائيل التاريخيين على مدار ثلاثة آلاف عام وهو الوحيد الذي ذكره بالاسم، فإنه من قاد بني إسرائيل لدخول أرض فلسطين لأول مرة بعد خروجهم من فترة "التيه"، ويذكر أهل الكتاب والمؤرخون أنه قطع ببني إسرائيل نهر الأردن، وانتهى إلى أريحا، وكانت من أحصن المدائن، وأعلاها قصوراً وأكثرها أهلاً فحاصرها 6 أشهر.
ويذكر في التوراة أنهم أحاطوها يوماً وضربوا بالقرون، أي الأبواق، ودخلوها وأخذوا ما وجدوا فيها من الغنائم، وقتلوا 12 ألفاً من الرجال والنساء.
وفي سفر يشوع يذكر أن "يشوع" عند اقتحامه أرض كنعان -فلسطين التاريخية- مع جيشه من بني إسرائيل، لم يُبقوا عِرقاً ينبض بالحياة في كل المدن التي اقتحموها. فبعد أن أخذوا أريحا "حرَّموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير، بحد السيف.. وأحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها". والتحريم هنا معناه الإبادة، وكذلك فعلوا بـ"عاي" التي يحكي النص أن "يشوع" أحرقها "وجعلها تلاً أبدياً خراباً".
وبحسب ما قاله دكتور محمد عمارة: "فإن النبي التوراتي يوشع بن نون ادعى أن الأوامر الإلهية أن تدعوهم إلى تدمير كل الأغيار من البشر إلى الشجر إلى الحجر، ومن الحيوان إلى الطبيعة، ومن الكبار إلى الأطفال، ومن الرجال إلى النساء".
أوامر بإبادة استناداً لفهمهم للتوراة
وبالتالي نحن أمام ما قد يكون دعوة مبطنة لجنود الاحتلال لتكرار أوامر التوراة بشأن العماليق، وكذلك تكرار ما فعله يوشع بن نون، أي تنفيذ عملية إبادة جماعية تؤدي لإبادة غزة والقضاء عليها كمجتمع.
وأشار عدد مستخدمي الإنترنت الإسرائيليين إلى أن الكلمات تدعو للإبادة الجماعية، في حين أشار البعض إلى أنها ليست أول مرة يفعل نتنياهو ذلك.
ويرى البعض أن هذا يفسر عملية استهداف الأهداف المدنية مثل المستشفيات بطريقة واضحة لا لبس فيها.
لا نؤمن بالقوانين الدولية بل التوراة فقط
في عددها الصادر لشهرَيْ مايو/أيار ويونيو/حزيران 2009، نشرت مجلة "مومِنت" (Moment) اليهودية الأمريكية حواراً مع الحاخام الصهيوني "مانيس فريدمان" حول الطريقة المثلى لتعامل اليهود بفلسطين المحتلة مع جيرانهم من العرب، وقد أتت إجابة "فريدمان" صريحة: "إنني لا أومن بالأخلاقيات الغربية، بمعنى أن عليك ألا تقتل المدنيين أو الأطفال، وألا تُدمِّر الأماكن المقدسة، وألا تقاتل في المناسبات الدينية، وألا تقصف المقابر، وألا تُطلق النار قبل أن يطلقها عليك الآخرون.. إن الطريقة الوحيدة لخوض حرب أخلاقية هي الطريقة اليهودية: دمِّر أماكنهم المقدسة، واقتل رجالهم ونساءهم وأطفالهم ومواشيهم". وقد علَّل "فريدمان" ذلك بأنه الرادع الوحيد والحقيقي للتخلُّص من ثبات الفلسطينيين ومقاومتهم المستمرة، وأن تلك هي قيم التوارة التي ستجعل الإسرائيليين "النور الذي يشع للأمم التي تعاني الهزيمة بسبب هذه الأخلاقيات (الغربية) المُدمِّرة التي اخترعها الإنسان".
الصهيونية رغم كونها حركة علمانية استغلت التوراة
في كتابه "الجريمة المقدسة"، ذكر الدكتور "عصام سخنيني"، أستاذ التاريخ السابق في جامعة "البترا" الأردنية، أن خطاب الإبادة الصهيوني استخدم التوراة وأسفارها لشرعنة جرائمه وممارسته في فلسطين.
ورغم التعارض الصارخ بين الصهيونية بوصفها حركة علمانية والتوراة بوصفها نصاً دينياً، فقد استغلت الأولى الشريعة اليهودية حتى تتحقَّق لها أطماعها الاستعمارية في فلسطين.
بالنظر إلى النص التوراتي، بوصفه مرجعاً تاريخياً للحركة الصهيونية، سنجد أن سفر التثنية يشرح بوضوح الاستراتيجية الحربية الواجب اتباعها عند دخول البلدان، حيث يقول: "حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها للصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفُتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويُستعبد لك، وإن لم تسالمك، بل عملت معك حرباً، فحاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها، فتغنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب".
انطلاقاً من هذا التأصيل الكتابي، يرى الدكتور "رشاد الشامي"، الباحث المخضرم في الشؤون العبرية، أن هذه القوانين الكتابية "هي التي يتسلمها القادة الإسرائيليون كمصدر وحي، وكشريعة مقدسة لاستئناف البعث الإسرائيلي في فلسطين، على أساس أن كل جريمة تصبح شرعية وقانونية من أجل تحقيق وعد الرب"، حسبما ينقل عنه تقرير الجزيرة نت.
العماليق هم ذروة الشر في العقلية الإسرائيلية
ويرى الدكتور "عصام سخنيني"، أستاذ التاريخ السابق في جامعة "البترا" الأردنية، مؤلف كتابه "الجريمة المقدسة" أنه جانب رمزية أرض كنعان وفلسطين التاريخية، أن ثمة رمزية أخرى أكثر شيوعاً في الفكر الإبادي الصهيوني، وهي أسطورة "عماليق" التي تتردَّد كثيراً على ألسنة الإسرائيليين وأقلامهم، وتُقدِّم نموذجاً لما ينبغي التعامل به مع العرب الفلسطينيين. بيد أن ما يجعل قصة "عماليق" أسطورة هو افتقاد الرواية التوراتية لأي سند تاريخي سواها، حتى إنها تتعارض أحياناً في نسبة هؤلاء العماليق؛ مرة إلى زمن نبي الله "إبراهيم"، ومرة إلى زمن حفيده "عيسو بن إسحاق"، الذي هو أبو المدعو "عماليق" نفسه، حسبما ورد في تقرير الجزيرة.
تذكر القصة أن قوم عماليق سكنوا شبه جزيرة سيناء وجزءاً من أرض كنعان (فلسطين اليوم)، فأكثروا حرب أنبياء بني إسرائيل حتى أمر "يهوه" النبي "موسى" باجتثاث ذكرهم من على الأرض، ومحاربتهم جيلاً بعد جيل، فأتى الأمر بعد ذلك إلى النبي "صموئيل" بإبادة قوم عماليق ودوابهم وكل ما نبض بالحياة في بلادهم. وقد صارت صورة "عماليق" المطلوب إبادتهم "نموذجاً كلاسيكياً للآخر المغاير".
وهو ما يؤكده "جيرالد كرومر"، أستاذ علم الجريمة بجامعة "بار إيلان" الإسرائيلية، حيث يقول إن "عماليق" صاروا تمثيلاً لذروة الشر في التقاليد اليهودية، ولأجل هذا استخدم الحاخامات وغيرهم من العوام مصطلح "عماليق" للتعبير عن الشعوب التي تُهدِّد الوجود اليهودي. وقد وصف بعض الإسرائيليين بالفعل أعداء الكيان الصهيوني بهذا الوصف، مثل مفتي القدس، والرئيس المصري الأسبق "جمال عبد الناصر"، ونظيره العراقي "صدام حسين"، وحتى الرئيس الفلسطيني الراحل "ياسر عرفات". ولذا تأسَّست منظمة صهيونية باسم "مراقبة القاتل" للتحرِّي عن أماكن المقاومين الفلسطينيين وتقديمهم للمحاكمة بهدف إبادتهم، ورفعت المنظمة شعار: "تذكَّر عماليق".
نسبة كبيرة من طلاب المدارس يؤيدون إبادة القرى العربية
لم تقتصر تلك العقيدة الاستئصالية المدعومة بالأساطير الدينية على القرارات السياسية والعسكرية فحسب، بل امتدت عبر عقود الاحتلال إلى صلب المؤسسة التعليمية ذاتها، حتى إن أستاذ علم النفس بجامعة تل أبيب "جورج تمارين" أجرى دراسة استقصائية على نحو ألف طالب وطالبة من المدارس الثانوية في إسرائيل، لرصد تأثير أفعال الإبادة المنسوبة إلى "يشوع" في تفكيرهم، فوجد أن نحو 80% من الطلاب وافقوا على صِحَّة ما هو منسوب إلى "يشوع" في أريحا ومكيدة، بينما رأى 38% منهم أن على الجيش الإسرائيلي تكرار الإبادة نفسها بالقرى العربية التي يدخلها.
ونتنياهو هو نقطة التقاء، بين الصهيونية العلمانية البراغماتية، وبين الصهيونية الدينية المتطرفة، ولذا نراه يتلو على جنوده إحالات تاريخية مجتزئة، لن يفهم معزاها الحقيقي إلا اليهود، وبالتالي فإن جنود الاحتلال المشحونين والذين تشكل روايات التوراة جزءاً من تركيبتهم وأفكارهم يفهمون المغزى، ويبدو أنهم قد بدأوا ينفذون بالفعل أوامر نتنياهو.