تواصل إسرائيل قصفها الهمجي على قطاع غزة للأسبوع الثالث توالياً، فماذا "حققت" من الحملة الأكثر "تدميراً" في العالم خلال القرن الحالي؟
حملة القصف الإسرائيلية على قطاع غزة، المتواصلة منذ يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، أصبحت إحدى أشد حملات القصف الجوي كثافة في القرن الحادي والعشرين، وهو ما أثار جدلاً عالمياً متزايداً بشأن شدة الحملة، والغرض منها، وتكلفتها الباهظة في الضحايا والخسائر، بحسب تقرير لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية.
كانت إسرائيل قد سعت، منذ عملية "طوفان الأقصى"، إلى إضفاء صبغة دينية على حربها غير الإنسانية على قطاع غزة، وصدر رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو وأعوانه روايات مضللة بشأن طبيعة الصراع.
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين في ذلك اليوم، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع بعد أن اخترقت الجدار الحديدي وسحقت فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
أكثر من 7 آلاف صاروخ وقذيفة على غزة
قال جيش الاحتلال الإسرائيلي إنه ضرب أكثر من 7 آلاف هدف داخل قطاع غزة، وأشارت شركة Airwars البريطانية المعنية برصد النزاعات العسكرية، إلى أن هذا القصف تتجاوز شدته أي قصف جوي تعرضت له أي مدينة أو منطقة خلال القرن الحادي والعشرين.
لكن حملة القصف الإسرائيلية على قطاع غزة هي حملة انتقامية وعشوائية، فقد أسفرت الغارات عن استشهاد الآلاف من سكان القطاع من مختلف الأطياف والأعمار، وتدمير المئات من المباني السكنية المدنية. وقالت وزارة الصحة في غزة إن أكثر من 7 آلاف شخص قد استشهدوا حتى مساء الخميس 26 أكتوبر/تشرين الأول، وهو ما يعني أن عدد الشهداء الفلسطينيين قد تجاوز خلال 3 أسابيع فقط رقماً غير مسبوق منذ العدوان الإسرائيلي على لبنان في عام 1982.
الإسرائيليون، من جانبهم، يزعمون أن هذه الضربات ضرورية ولها أغراض محددة، ولا ترمي إلى الانتقام بل "الدفاع"، ويزعم المسؤولون الإسرائيليون أن الحملة تركز على البنية التحتية العسكرية في قطاع غزة، ويزعمون أن معظم منشآت هذه البنية يقع بالقرب من المنازل والمؤسسات المدنية. ويستندون في مزاعمهم إلى تحذيرات من مسؤولين ومحللين قالوا إن الاجتياح البري لغزة ربما يكون ضحاياه أكبر عدداً من القصف الجوي. ومن ثم يدعي الإسرائيليون أن الضربات الممهدة للاجتياح البري ستساعد في تقليل الخسائر في الأرواح بين المدنيين الفلسطينيين والجنود الإسرائيليين، بحسب تقرير نيويورك تايمز.
زعمت إسرائيل أنها استهدفت منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول عشرات منصات إطلاق الصواريخ الفلسطينية، ومراكز القيادة، ومصانع الذخيرة، واستخدمت قنابل قوية لاختراق سطح الأرض وتدمير شبكة الأنفاق التي حفرتها فصائل المقاومة، والتي يبلغ طولها مئات الكيلومترات من الأنفاق المحفورة تحت أكثر المراكز الحضرية ازدحاماً في غزة، بحسب المزاعم الإسرائيلية.
وعلى الرغم من أن إسرائيل تقول إنها تستخدم أسلحة دقيقة التوجيه، فقد استعانت بتعريفٍ فضفاض لما تعدُّه أهدافاً عسكرية، فدمرت المقاتلات الإسرائيلية الجامعةَ الإسلامية في غزة بدعوى أن الحرم الجامعي كان يستخدم لتدريب عملاء استخبارات المقاومة، واستهدفت المساجد بدعوى أنها مستودعات أسلحة ومراكز عمليات، وقصفت منازل قادة حماس على من فيها من المدنيين.
وتزعم إسرائيل أن الضربات نجحت في كبح قدرات فصائل المقاومة على إطلاق الصواريخ. ولم يعلن جيش الاحتلال عن عدد الصواريخ التي أطلقت في الأيام الماضية، إلا أن معدل إطلاق صفارات الإنذار في المدن الإسرائيلية لا يزال مستمراً، وإن بوتيرة أقل من الأيام الأولى للحرب.
ماذا "تحقِّق" إسرائيل؟
لكن النجاح الإسرائيلي المزعوم في استهداف المقاومة لم يخفف من حدة القصف على القطاع، إذ قالت وزارة الصحة في غزة، يوم الثلاثاء 24 أكتوبر/تشرين الأول، إن الغارات الإسرائيلية تسببت في استشهاد 704 أشخاص خلال 24 ساعة، وهو ما يعني أن ذلك اليوم شهد أكبر عدد من الضحايا في غزة منذ بداية هذا العدوان. ويرى الفلسطينيون أن هذا الارتفاع في عدد القتلى بالقصف الإسرائيلي دليلٌ على أن إسرائيل تسعى إلى العقاب الجماعي لسكان غزة، وليس لحركة حماس كما تزعم.
كانت قوات الاحتلال قد استعانت بجنود يتحدثون العربية للاتصال بكبار القوم في شمال غزة لإنذارهم بأن عليهم أن يحثوا الناس على مغادرة هذه المنطقة. ويتولى جنود الاحتلال القابعون في غرفة تحكم جنوبي إسرائيل جمع بيانات الهواتف لرصدِ عدد الأشخاص الذين يغادرون أحياءً معينة، ويقولون إن جيش الاحتلال يستخدم هذه البيانات لتحديد أماكن الضربات وتوقيتها.
لكن الرد على أكاذيب جيش الاحتلال جاء من شبكة CNN الأمريكية، التي نشرت تحقيقاً استقصائياً قامت به، عنوانه "صدقوا أوامر الإخلاء، ضربة جوية إسرائيلية قتلتهم في اليوم التالي"، رصد كيف أن بعض الفلسطينيين في شمال غزة، الذين صدقوا أوامر الإخلاء التي صدرت عن الجيش الإسرائيلي، ظنوا أنهم سيكونون آمنين.
"بعض الإسرائيليين الذين نفذوا أوامر الإخلاء وهربوا من بيوتهم في شمال غزة، باحثين عن الأمن والسلامة، تعرّضوا للمصير ذاته الذي هربوا منه: قتلتهم ضربات جوية إسرائيلية في منطقة الإخلاء"، هذا ما خلصت إليه الشبكة الأمريكية، التي تعمل شأنها شأن باقي المؤسسات الإعلامية الغربية على الترويج للرواية الإسرائيلية طوال الوقت، والواضح هنا أن وجود شهود كثر على الكذب المفضوح أجبر الجميع هذه المرة على الإقرار بالحقيقة.
الدكتور يوسف العقاد، مدير مستشفى غزة الأوروبي الذي يقع في جنوب غزة، قال لنيويورك تايمز إن الضربات الإسرائيلية "محاولة لإشباع غريزة الثأر وشهوة الانتقام داخل المجتمع الإسرائيلي بزيادة أعداد الشهداء إلى درجات غير مسبوقة".
أما جيش الاحتلال فيصر على مزاعمه بأنه ضرب العشرات من منصات إطلاق الصواريخ، إلا أنه لا يزال هناك الكثير من الأهداف العسكرية، منها قادة حماس والمخابئ تحت الأرض. وزعمت إسرائيل يوم الأربعاء 25 أكتوبر/تشرين الأول أن قواتها اغتالت أحد القادة البارزين في الجناح العسكري لحركة حماس جنوبي غزة، وقضت على خلية تابعة لها شمالي القطاع.
وزعم المتحدث باسم جيش الاحتلال، نير دينار، أن القصف الجوي "جزء من الحملة التمهيدية للغزو"، والغاية منه تدمير الأنفاق وقتل أكبر عدد ممكن من أفراد حماس من الجو.
لكن الحقائق تؤكد أن الغارات الإسرائيلية دمرت أحياءً سكنية بأكملها، وتشير البيانات الصادرة عن سلطات غزة إلى أن القنابل الإسرائيلية قتلت صحفيين، وعاملين في المجال الطبي، ومعلمين، وموظفين بالأمم المتحدة، فضلاً عن 2700 طفل.
وقالت قناة "الجزيرة"، يوم الأربعاء 25 أكتوبر/تشرين الأول، إن ثلاثة من أفراد عائلة مدير مكتبها في غزة وائل الدحدوح، قُتلوا في غارة جوية إسرائيلية. وقال الدحدوح إن القصف الإسرائيلي قتل زوجته، وابنه البالغ من العمر 15 عاماً، وابنته البالغة من العمر 6 سنوات.
إسرائيل والغزو البري
يستمر القصف الجوي الهمجي وسط مخاوف متزايدة في داخل إسرائيل من أن قواتها، وإن كانت متفوقة على الجناح المسلح لحركة حماس من حيث العدد والعتاد والمعدات، فإن ذلك لن يحميها من التورط في حرب مدن طويلة وعظيمة الخسائر بعد اجتياح القطاع.
وينتظر عشرات الآلاف من مقاتلي حماس وصول جنود الاحتلال، وينتشر معظمهم في شبكات الأنفاق الممتدة التي أنشأتها الحركة. ويتوقع خبراء أن تحاول حماس اعتراض التوغل الإسرائيلي بعدة وسائل، منها تفجير بعض الأنفاق عند انتشار جنود الاحتلال في محيطها؛ وتلغيم الطرق التي تسلكها قوات الاحتلال؛ تفخيخ المباني والخروج من مداخل الأنفاق المخفية؛ ونصب الكمائن للإسرائيليين من الخلف.
وصرح جيش الاحتلال أكثر من مرة بأنه مستعد للغزو، إلا أن خبراء وقادة إسرائيليين سابقين يقولون إن إسرائيل ليست مضطرة إلى التعجيل بالغزو، ويرون أن عليها أن توسع حملتها الجوية لتسهيل عمل قوات الاحتلال قدر الإمكان حين تبدأ التوغل البري في القطاع.
وقال ريليك شافير، وهو جنرال متقاعد في سلاح الجو الإسرائيلي، إن القوات الجوية الإسرائيلية لا تسعى بهذا القصف إلى تدمير شبكة الأنفاق فحسب، بل ربما تريد كذلك أن تُدك المباني التي يمكن لقناصة حماس أن يستعملوها في نصب الكمائن واستهداف القوات الإسرائيلية المتوغلة.
وقال شافير: "على سبيل المثال، جندي المشاة الذي يسعى للوصول إلى موقع استراتيجي لا يريد أن يكون محاطاً ببنايات تُتيح استهدافه من مسافة قريبة، سواء بنيران الأسلحة الصغيرة أم الصواريخ قصيرة المدى. ولذا يحتاج إلى ممرات تمكِّنه من رؤية المكان الذي يتوجه إليه"، و"من أجل ذلك، فإن على القوات الجوية أن تهدم المباني الممتدة على الطريق، وأن تسويها بالأرض حتى لا تستخدم في حرب العصابات".
بناءً على ذلك، أشارت بيانات شركة Airwars إلى أن عدد الضربات الجوية التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول أكبر من عدد الضربات التي نفذتها قوات التحالف الدولي على مدينة الموصل العراقية في مارس/آذار 2017، وقد شهد هذا الشهر حينها أشد الضربات الجوية كثافة في الحملة على تنظيم الدولة الإسلامية بالمدينة، إذ أطلق التحالف ما يقرب من 5 آلاف قذيفة، أي أقل بألفي قذيفة على الأقل مما أطلقته إسرائيل على قطاع غزة في أقل من ثلاثة أسابيع.
وقالت إميلي تريب، مديرة شركة Airways، إن شدة الغارات الإسرائيلية "تتجاوز بلا شك شدة الغارات في أي صراع عسكري شاركنا في رصده منذ تأسيس الشركة في عام 2014".
لكن مصادر أمنية قالت لرويترز إن ما ينتظر القوات البرية الإسرائيلية في غزة هو شبكة أنفاق حماس الممتدة لمئات الكيلومترات ويصل عمقها إلى 80 متراً، ووصفتها رهينة أُفرج عنها بأنها "شبكة عنكبوت"، ووصفها خبير بأنها "أكبر بعشرة أمثال من أنفاق فيت كونج"، أو الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام.