لمدة تسعة أشهر، كان المقر الرئاسي في القدس المحتلة مسرحاً لتجمعات غاضبة وصاخبة؛ حيث كان الإسرائيليون يحتجون كل ليلة سبت ضد خطط حكومة نتنياهو لتقليص صلاحيات المحكمة العليا. ومع ذلك، بعد الحرب على غزة، احتشد المئات هناك لساعات كل ليلة تقريباً في وقفات احتجاجية للمطالبة بالإسراع في الإفراج عن أكثر من 200 أسير لدى حماس، صابّين كل غضبهم على طريقة تعامل نتنياهو مع هذه الأزمة، فيما حاول الرئيس الإسرائيلي استقبالهم والتهدئة من روعهم.
تعامل نتنياهو مع أزمة المحتجزين لدى حماس يثير غضب الإسرائيليين
تقول مجلة The Economist البريطانية: على السطح، كان هذا عرضاً غير سياسي للتضامن. لكن الوقفات الاحتجاجية هذه كانت لها أيضاً أصداء للاحتجاجات السابقة والخلاف السياسي الذي كان يقسم إسرائيل في الأشهر التي سبقت الحرب. والعديد من أولئك الذين عارضوا الإصلاحات القضائية للحكومة أصبحوا الآن يدعمون قضية الأسرى. ومع بدء اجتماعهم، قام البعض بمهاجمة صحفي بارز معروف بدعمه الشديد لبنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي المأزوم.
وأصبحت قضية الأسرى تحتل صدارة اهتمامات الإسرائيليين، حيث إنها في المقام الأول قضية إنسانية، كما تقول "الإيكونومست". ولا تزال تنظم وقفات احتجاجية مماثلة في مناطق عدة. وتُجرَى مقابلات منتظمة مع أقارب المحتجزين على شاشات التلفزيون وفي الإذاعة.
ولكن القضية هي أيضاً سياسية بعمق؛ حيث إن العديد من سكان المستوطنات التي تعرضت للهجوم هم علمانيون ويساريون. هؤلاء هم أولئك الإسرائيليون الذين كان من المرجح أن ينشطوا في الاحتجاجات ضد حكومة نتنياهو، التي يشعرون أنها تخلَّت عنهم في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ولا تزال تخذلهم.
الضغط يجبر الحكومة على تغيير خططها
بحسب المجلة البريطانية، أجبر الضغط الذي مارسته العائلات الحكومة بالفعل على تغيير خططها. ورغم أنها كانت تميل في الأصل إلى الاندفاع في الهجوم على غزة دون أي اعتبار لسلامة المحتجزين، فقد أعلنت الحكومة منذ ذلك الحين أن إنقاذهم يمثل "أولوية قصوى"؛ حيث إن الأمل في التوصل إلى اتفاق مع حماس بشأن إطلاق سراح بعض المحتجزين على الأقل هو أحد الأسباب التي أدت إلى تأخير الغزو الإسرائيلي لغزة.
ومع ذلك، بالنسبة للعديد من العائلات، لا تقوم الحكومة بما يكفي لإعادة أبنائهم. وفي برج بوسط تل أبيب، على مقربة من وزارة الدفاع ومقر قيادة قوات الدفاع الإسرائيلية، أقامت العائلات مقرها الخاص الذي يضم مئات المتطوعين. أُنشِئت منظمة خاصة كبيرة لسد الفجوة التي خلفتها الحكومة. تقوم هذه المنظمة بتمرير المعلومات التي تلقتها العائلات عن المحتجزين إلى السلطات، وتقوم بدورها بإطلاعهم عليها أولاً بأول.
وهناك فريقٌ لكل أسرة للتأكد من حصولهم على الدعم الذي يحتاجون إليه. يقوم المستشارون الإعلاميون بإجراء مقابلات مع الصحافة الإسرائيلية والدولية. هذا لأن الأمر متروك للعائلات لضمان عدم نسيان المحتجزين، كما تقول ليا، شقيقة موران ستيلا ياناي، التي شوهدت وهي تبكي في أحد الحقول مع وجود مسلح يقف أمامها في مقطع فيديو نُشر على وسائل التواصل الاجتماعي.
تضم المنظمة الجديدة أيضاً فرقاً من الدبلوماسيين السابقين الذين يتواصلون مع الحكومات الأجنبية. ويعمل رؤساء الاستخبارات الإسرائيلية السابقون الذين يتمتعون باتصالات واسعة النطاق في جميع أنحاء العالم العربي كمفاوضين. وانضمت شركات التكنولوجيا الإسرائيلية معاً لفحص مقاطع فيديو تمتد لآلاف الساعات على مواقع التواصل الاجتماعي بحثاً عن أي إشارة للمحتجزين ولتتبع الإشارات من هواتفهم المحمولة.
"لا أحد بحكومة نتنياهو يعمل لصالحنا"
وهذه ليست المرة الأولى التي تقوم فيها عائلات الأسرى الإسرائيليين بإطلاق حملات خاصة بهم والضغط على الحكومة للتحرك. ولكن هذا يحدث بسرعة أكبر بكثير -وعلى نطاق أوسع كثيراً- من أي وقت مضى.
أُنشِئ مقر للعائلات من قِبَلِ ديفيد زالمونوفيتش، المحامي الذي اختُطِفَ ابنه البالغ من العمر 21 عاماً، من مهرجان موسيقي. تم التعرف على ابنه، وهو طالب، من خلال وشم على جسده ظهر في مقطع فيديو يُظهِر شاحنةً تحمل محتجزين في غزة. ويبذل زالمونوفيتش قصارى جهده ليقول: "نحن لا نستبدل الحكومة.. نحن نكلِّمهم". لكن العديد من الأقارب الآخرين أقل دبلوماسية، حيث انتظر بعضهم لأكثر من أسبوع لأي اتصال مع الحكومة أو أي إخطار رسمي منها. تقول شيرا ألباج، التي شوهدت ابنتها ليري البالغة من العمر 18 عاماً، في مقطع فيديو وهي تُسحَب من سيارة جيب في غزة: "لقد فهمنا منذ اليوم الأول أنه لا أحد في الحكومة يعمل لصالحنا.. بدلاً من ذلك، الجمهور الإسرائيلي هو الذي يفعل ذلك".
وهذا رأي يشاركه فيه بعض الخبراء المعنيين. يقول دبلوماسي إسرائيلي سابق كان ينسق الاجتماعات بين الأقارب والسفراء الأجانب: "نحن نقوم بمهمة الحكومة من أجل العائلات، لأنه لا توجد ثقة في الحكومة".
أحد أسباب عدم الثقة هو أن نتنياهو، الذي كان مشتتاً بمحاكمته بالفساد وجهود حكومته لإضعاف المحاكم، وتردَّد لمدة تسعة أشهر بشأن تعيين منسق وطني لشؤون الرهائن والأسرى، رغم وجود مدنيَّين اثنين محتجزين في غزة خلال تلك الفترة. ولم يعين غال هيرش إلا بعد هجوم حماس، وهو جنرال مثير للجدل أُجبر على الاستقالة في عام 2006 بعد انتقادات لقيادته خلال الحرب في لبنان. وفي السابق، كان هذا الدور يُمنح لمسؤولين كبار في أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية يتمتعون بخبرة واسعة في التعاملات السرية مع المنظمات الفلسطينية المسلحة، وهو ما يفتقر إليه هيرش. ويعتقد الكثيرون أن مؤهله الرئيسي هو الولاء لرئيس الوزراء.
حالة من التخبُّط وعدم اليقين
تقول "الإيكونومست" إن أحد أسوأ عذابات العائلات الإسرائيلية هو النقص شبه الكامل في المعلومات حول صحة المحتجزين وظروف احتجازهم. ولا تزال العديد من العائلات غير متأكدة مما إذا كان أقاربها قد قُتلوا أو اختُطفوا. وهناك حوالي 80 شخصاً في عداد المفقودين بالإضافة إلى 220 محتجزاً معروفاً، وفقاً للقوائم التي جمعتها العائلات والسلطات الإسرائيلية. ولا تزال عشرات الجثث، يصعب التعرف عليها، قيد التحقق من حمضها النووي.
وتُظهِر مقاطع الفيديو المُصورة يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول أنه في بعض الحالات على الأقل، نُقِلَت الجثث إلى غزة وأن بعض المحتجزين الذين تقول المقاومة إنها تحتجزهم قد ماتوا. وما يزيد من حالة عدم اليقين هو التقييم الإسرائيلي بأن منظمات أخرى، مثل حركة الجهاد الإسلامي، هرعت عبر الثغرات الموجودة في السياج الحدودي التي أحدثتها حماس لاختطاف محتجزين لديها. لقد أصبحوا جميعاً الآن أوراقاً للمساومة: فكل مجموعة من الخاطفين سيكون لها الثمن الذي تعرضه.
أطلقت حماس حتى الآن سراح أربع سجينات: مواطنتين أمريكيتين إسرائيليتين وإسرائيليتين مسنتين. وتفاوضت الولايات المتحدة على إطلاق سراحهن من خلال دولة قطر. ويمتزج الارتياح الذي تشعر به عائلاتهم مع القلق على أقاربهم الآخرين الذين ما زالوا محتجزين، وغضبهم من عدم مشاركة الحكومة الإسرائيلية في محاولة تأمين إطلاق سراحهم.