يرى المفكر العربي الراحل الكبير د. عبد الوهاب المسيري مؤلف موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، أن مقومات بقاء إسرائيل هي عناصر خارج الكيان وليست بداخله، وهما الدعم الأمريكي بلا حدود، والغياب العربي بلا حدود.
من خلال هذا النموذج الإدراكي الواضح، يمكننا استيعاب كيف ولماذا تمكنت المجموعات الاستيطانية الصهيونية من بناء دولة لهم بعد معارك 1948 إثر خروج الانتداب البريطاني، ولماذا لم نشهد نواة لدولة فلسطينية حقيقية، على الأقل في الأراضي التي تمكن العرب من حمايتها من الاحتلال عقب تلك المعارك.
الطريق إلى النكبة
شهدت فترة نهاية الأربعينيات انسحاب المملكة المتحدة رسمياً من معظم مستعمراتها الرئيسية التي تمركزت فيها القوات البريطانية، حيث كان قد بدأ فعلياً غروب الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس فيما سبق.
وتزامن خروج الانتداب البريطاني من فلسطين مع تصاعد أعمال العنف بين الفلسطينيين وميليشيات المستوطنات اليهودية التي أسستها الحركة الصهيونية بدعم بريطاني وغربي. هذا الدعم المركزي لبقاء إسرائيل والذي تولت رعايته فيما بعدُ الولايات المتحدة الأمريكية.
مع انسحاب القوات البريطانية بشكل كلي عام 1948 وصلت المعارك بين الجيوش العربية والميليشيات الصهيونية إلى ذروتها بمشاركة أهلية ورسمية من مختلف البلدان العربية.
بعيداً عن تحليل أسباب الفشل العسكري للمشاركة الرسمية العربية، مقابل دور الجماعات الأهلية العربية في دفع ما يمكن دفعه من هجوم الاحتلال على الأراضي الفلسطينية، فإن السؤال الذي نطرحه هنا: لماذا لم تشهد نهاية تلك المعارك قيام دولة فلسطينية على الأراضي التي لم تستطع ميليشيات الحركة الصهيونية احتلالها في تلك السنة؟ في حين استطاعت تلك المستوطنات الاستعمارية أن تعلن عن قيام دولة الاحتلال في شهر مايو/أيار من ذلك العام، حيث تم الاعتراف مباشرة بهذه الدولة من قبل معظم الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة التي كانت أولى دول العالم اعترافاً بهذا الكيان الجديد.
عقب انتهاء معارك عام 1948 وتأسيس ما سمي بـ"إسرائيل" على المساحة التي احتلتها ميليشياتها، تلك المساحة التي أصبحت تعرف عربياً بأراضي 48 الواقعة داخل الخط الأخضر، تمكن الفلسطينيون بشيء من الدعم العربي والإسلامي من الحفاظ على الأراضي التي اصطلح على تسميتها بالضفة الغربية وغزة.
وكان الإعلان الرسمي عن قيام إسرائيل، من قبل رئيس الوكالة اليهودية وقتها ديفيد بن غوريون، الذي أصبح أول رئيس وزراء ووزير دفاع لتلك الدولة. وفي مقابل الوكالة اليهودية بفلسطين في سنوات ما قبل 1948، كان لدى الفلسطينيين ما عرف باسم اللجنة العربية العليا برئاسة مفتي القدس الزعيم الشهير الحاج الأمين الحسيني، الرئيس السابق للمجلس الإسلامي الأعلى.
و بالنظر اليوم بأثر رجعي إلى تلك الحقبة، يبرز التساؤل: لماذا لم تقم للفلسطينيين دولة رسمية على تلك الأراضي حينها كما تم لعدوهم، خصوصاً أن القرار الدولي بتقسيم فلسطين الصادر عام 1947 كان يشير إلى قيام دولة فلسطينية عربية إلى جانب تلك المخصصة للمستوطنين اليهود؟
حيث كما ترأس رئيس الوكالة اليهودية بن غوريون دولة الاحتلال الوليدة بعد خروج الإنجليز، كان من الطبيعي أن يترأس رئيس اللجنة العربية العليا المفتي الحاج أمين الحسيني دولة للفلسطينيين، وهي الدولة التي كان يفترض أن تقود عملية استرداد كامل الأراضي الفلسطينية فيما بعد، فهل تكونت هذه الدولة؟
حكومة عموم فلسطين
الجواب عن سؤال: هل قامت تلك الدولة الفلسطينية؟ يعتبر أمراً محيراً، بل ربما يمكن القول إن جواب السؤال هو: نعم ولا في الوقت ذاته. فنظرياً قد تم إنشاء فعلاً ما سميت بـ"حكومة عموم فلسطين" في سبتمبر/أيلول 1948، أي بعد أربعة أشهر من انتهاء الانتداب البريطاني وإعلان دولة الاحتلال. وترأس المفتي الحاج أمين الحسيني فعلاً تلك السلطة، وكان رئيس وزرائه أحد أبرز رفاقه في اللجنة العربية العليا أحمد حلمي باشا عبد الباقي. وقد تشكلت هذه الحكومة بناءً على قرار من الجامعة العربية وبدعم خاص في بداياتها من المملكة المصرية.
ورغم أن هذه الحكومة أعلنت ولايتها السياسية والقضائية على عموم الأراضي الفلسطينية، وأعلنت القدس عاصمة منشودة لها، فإنها لم تتمركز إلا في قطاع غزة حيث الإدارة العسكرية المصرية.
وفي حين يمكن تفهم أن ولايتها الفعلية على أرض الواقع لم تكن متاحة على أراضي 48 المسيطر عليها من الاحتلال الإسرائيلي، فإن أراضي الضفة الغربية هي الأخرى لم تسلم لتلك الحكومة، حيث رفضت المملكة الأردنية إنشاء حكومة عموم فلسطين التي تزعّمها الحسيني، وهددت بالانسحاب من الجامعة العربية.
وبحكم أن الجيش الأردني هو من سيطر على الضفة الغربية بعد معارك 1948، فقد كانت النتيجة أن حكومة عموم فلسطين تحولت منذ يومها الأول إلى حكومة قطاع غزة فقط. بل إن هناك من معارضي الحسيني من حشدوا إلى أخذ بيعات فلسطينية لملك الأردن كملك على أراضي غرب نهر الأردن أيضاً.
أما عن جبهة الاحتلال الإسرائيلي فلم تكن مستقرة ، إذ إن زعامة ديفيد بن غوريون لم تخلُ من معارضة، إضافة أن دولة الاحتلال الناشئة عانت من انهيار اقتصادي في بداية الخمسينيات كاد يودي بذلك الكيان، إلا أن التوافق الغربي في دعم إسرائيل، ساهم في احتواء تلك الخلافات والمصاعب الاقتصادية بحيث لا تتحول إلى صراع يفكك هذا الاحتلال.
في حين أن التناقضات العربية منعت منذ اليوم الأول قيام كيان فلسطيني حقيقي يكون بداية لدولة تبسط سيادتها على عموم فلسطين. حيث لم تحظَ حكومة عموم فلسطين بأي دعم لبناء مؤسسات مدنية أو عسكرية أو أمنية أو خدمية تمكنها من بناء دولة فعلاً، عكس الدعم الغربي المفتوح الذي تحصّل عليه الاحتلال لبناء دولة حديثة على النمط الغربي.
في المقابل زاد وأد مشروع حكومة عموم فلسطين في مهده، فحتى القاهرة التي كانت الراعيَ الأساسي لولادتها، سرعان ما تخلت عنها، رغم سيادتها النظرية على قطاع غزة الذي أعطته المملكة المصرية لحكومة عموم فلسطين، إلا أن الصلاحيات الفعلية التي كانت يفترض أن تكون منوطة بوزاراتها ظلت تحت الإدارة العسكرية المصرية في غزة.
بل وصل الأمر إلى أن اتفاق الهدنة الذي وقعته مصر مع الاحتلال في فبراير/شباط 1949 لترسيم حدود قطاع غزة، لم تشرك حكومة عموم فلسطين فيه ولا حتى في المفاوضات المؤدية إليه، رغم تمركز هذه الحكومة في القطاع. واستدعى رئيس وزراء مصر حينها، محمود فهمي النقراشي باشا آنذاك، رئيس المجلس الأعلى لحكومة عموم فلسطين أمين الحسيني إلى القاهرة، وحينما امتنع أجبره على ذلك بالقوة، مما حوّلها إلى حكومة منفى فعلياً، ولم تمكنها من مزاولة مهامها في غزة وحجبت عنها الأموال والصناعات التي كانت قد وعدتها بها من قبل.
ومع عدم إيفاء الجامعة العربية بتعهداتها المالية في دعم هذه الحكومة، جاءت الضربة القاضية لمشروع هذه الدولة المنشودة بعد تحوّل مصر إلى الحكم الجمهوري في الخمسينيات ثم إنشاء ما عرف بالجمهورية العربية المتحدة لاحقاً، حيث صدر مرسوم الرئيس المصري حينها جمال عبد الناصر بحل حكومة عموم فلسطين عام 1959، لينتقل قيادات حكومة عموم فلسطين في نهاية المطاف إلى لبنان مع حلول بداية الستينيات، ويتبخر حلم حكومة عموم فلسطين.
ومع عجز حكومتي الأردن ومصر عن حماية الضفة الغربية وغزة من توسع الاحتلال عام 1967، تمكنت دولة الاستيطان من السيطرة على كامل فلسطين التاريخية. ورغم ما جاء به مشروع أوسلو من وعود بإرجاع الضفة وغزة إلى الفلسطينيين وإنشاء سلطة فلسطينية عليها تكون بداية جديدة لتأسيس دولة للشعب الفلسطيني، فإنه وكما هو معلوم، استمر المشروع الاستيطاني في التوسع بالضفة إلى يومنا هذا، في حين تأرجح الوضع في غزة من الاستيطان إلى الحصار المتبوع بالقصف الدوري، والذي نعايش هذه الأيام أحد فصوله المأساوية.
وعود على بدء، تكشف هذه المراجعة التاريخية دقة ما طرحه المسيري رحمه الله، فالغياب العربي بلا حدود كما وصفه، كان وما زال أبرز أسباب غياب ظهور دولة فلسطينية تقود مشروع التحرر الكامل. وقد شكل هذا الغياب العربي حالة فراغ جيوسياسي، تأبى طبيعة العلاقات الدولية إلا أن تملأها بتوازنات إقليمية ودولية متعدية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.