لا تزال مصر متمسكة بموقفها الرافض فتح معبر رفح لخروج الرعايا الأجانب من غزة دون اتفاق يقضي بإدخال المساعدات إلى القطاع الذي يتعرض لقصف إسرائيلي غير مسبوق وغير إنساني، فهل يمكن إقناع القاهرة بتغيير هذا الموقف من خلال الضغوط الاقتصادية؟
ويواصل جيش الاحتلال القصف المجنون وغير الإنساني لقطاع غزة لليوم العاشر، بغطاء أمريكي وغربي، بهدف إيقاع نكبة جديدة للفلسطينيين تكون أسوأ من نكبة 1948، وهو ما رصده تقرير لمجلة فورين بوليسي الأمريكية عنوانه "فرض الحصار على غزة ليس حلاً"، يفضح ما يقوم به جيش الاحتلال الإسرائيلي من قصف غير مسبوق لقطاع غزة منذ عملية "طوفان الأقصى" التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته "حماس" على العملية العسكرية الشاملة، ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصر؛ حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
في الوقت نفسه، يواصل وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن مساعيه لإقناع الجانب المصري بالموافقة على فتح معبر رفح أمام خروج الرعايا الأجانب من القطاع دون أن يبدو أن هناك اتفاقا في هذا الشأن، في ظل تعنت الموقف الإسرائيلي الرافض إدخال أي مساعدات للقطاع، استكمالا للعقاب الجماعي لسكانه البالغ عددهم 2.3 مليونا، علما بأنها "جريمة حرب" بنصوص القانون الدولي.
هل هناك ضغوط على مصر بشأن سكان غزة؟
صحيفة The Economist البريطانية نشرت تقريرا عنوانه "هل يمكن إقناع مصر بقبول اللاجئين من غزة؟"، يرصد الموقف الإنساني الصعب لدرجة تعجز الكلمات عن وصفه، بسبب القصف العشوائي المجنون والمستمر على القطاع المحاصر، وكيف أن بوابة معبر رفح ذات الألواح الخرسانية المترَّبة والحوائط التي نال منها الزمن آخرَ أمل لكثيرٍ من سكان قطاع غزة للفرار من كابوس الهجوم البري الإسرائيلي المتوقع، وانقطاع الكهرباء وإمدادات الغذاء والمياه.
القصف الإسرائيلي تسبب حتى الآن في استشهاد أكثر من 2800 شخصا وإصابة أكثر من 10 الاف آخرين، 60% منهم من الأطفال والنساء، كما تسبب في نزوح ما يقرب من نصف سكان القطاع. وازدحمت الطرق المؤدية إلى الجنوب بالأهالي الباحثين عن ملجأ لهم من ضربات إسرائيل وتحذيراتها التي تحاول إجبارهم على إخلاء شمال غزة.
وتقع بوابة رفح على الجدار الذي يفصل جنوب غزة عن مصر -ويبلغ طوله 12 كيلومتراً- وهي المنفذ الوحيد غير الإسرائيلي للخروج من القطاع، لكن مصر اضطرت إلى إغلاق المعبر منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بعد أن قصفت إسرائيل الجانب الفلسطيني منه في أعقاب هجوم المقاومة الذي حطم الجدار الحديدي لجيش الاحتلال في غلاف غزة.
ومنذ بداية القصف الإسرائيلي على القطاع المحاصر، وجه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تهديدا مباشرا إلى الفلسطينيين بمغادرته رغم الحصار المطبق والقصف المتواصل، وأصبح الحديث عن إحداث نكبة فلسطينية جديدة أسوأ من نكبة 1948 هو الشعار الذي يرفعه مسؤولي دولة الاحتلال، فإلى أين سيخرج أهل غزة؟ إلى مصر بطبيعة الحال، رغم رفض الغزاوين أنفسهم للتهديدات الإسرائيلية.
من جهته، أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أي حركة نزوح "جماعية" من غزة نحو شمال سيناء، في إطار الحديث عن مساعي أمريكية لإخراج مواطنيها في غزة عبر معبر رفح، لكن يبدو أن كثيرين يأملون "أن يغير السيسي رأيه، للسماح للاجئين بالفرار من غزة، وتجنُّب كارثة إنسانية في القطاع"، بحسب تقرير الصحيفة البريطانية، في مؤشر على أن هناك أحاديث بالفعل تدور خلف الكواليس بشأن هكذا سيناريو.
كان وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، قد زار مصر الأحد 15 أكتوبر/تشرين الأول، بعد جولة في عدة دول بالمنطقة، فهل يمكن للدبلوماسيين الأجانب أن يقنعوا مصر بقبول اللاجئين من غزة مقابل صفقة محتملة لإنقاذ الاقتصاد المصري الذي يعاني من أزمة متفاقمة؟ تتساءل صحيفة الإيكونوميست.
ما معوقات قبول مصر للاجئين من غزة؟
تشير الصحيفة البريطانية إلى أن مصر كانت قد صفقة مشابهة من قبل. فبعد ثلاثة أشهر من حرب الخليج عام 1991، أعلنت الولايات المتحدة ودول غربية إنقاذ مصر من أزمة الديون التي اشتدت عليها، وذلك بإعفائها من 10 مليارات دولار، كانت تمثل ربع ديونها الخارجية في ذلك الوقت. وكان هذا الاتفاق في مقابل خدمة جيوسياسية أيضاً، ففي الوقت الذي كانت فيه الدول العربية لا تزال تحشد قواتها وتراقب الوضع من السعودية، كان الرئيس المصري حسني مبارك من أوائل الزعماء الذين أرسلوا قواتهم المسلحة للانضمام إلى حرب أمريكا على العراق.
والآن يواجه الاقتصاد المصري شبح الانهيار مرة أخرى، إذ يبلغ معدل التضخم السنوي 38 %، وهو أعلى مستوى بلغه على الإطلاق؛ والجنيه المصري تتراجع قيمته، لأن البنك المركزي لا يتوقف عن طباعة النقود لتغطية النفقات المفرطة من الحكومة لدعم الخبز ومساندة الشركات المملوكة للدولة.
وبعد أن وافق صندوق النقد الدولي على خطة إنقاذ اقتصادية للبلاد بقيمة 3 مليارات دولار في ديسمبر/كانون الأول الماضي، رفض تسليم الدفعة الثانية والثالثة من القرض، لأنه لا يثق بأن الحكومة قادرة على سداد الديون في موعدها؛ وزاد على ذلك أن السيولة النقدية عاجزة عن الوفاء بواردات البلاد. ومن ثم فإن هناك حوافز كثيرة يمكن للدول الأجنبية أن تقدمها لمصر.
لكن على الرغم من هذه الظروف الاقتصادية الخانقة، إلا أن نجاح الدبلوماسيين الأجانب في هذا المسعى يقتضي التغلب على ثلاثة عوائق:
الأول هو أن السيسي ربما لم ييأس من قدرته على تحسين الأوضاع بعد، فالاقتصاد المصري يعاني، لكن الحكومة لا يُحدق بها خطر التخلف عن السداد، كما كان الحال في عام 1991. ولم يتبق لها إلا بضع دفعات كبيرة يتعين عليها سدادها حتى عام 2024؛ والاحتياطي النقدي الأجنبي (نحو 30 مليار دولار) يكفي لتغطية أربعة أشهر من الواردات التي تحتاج إليها البلاد.
ومن المصاعب الأخرى في هذا السياق، أن مصر لا تكاد تدين للولايات المتحدة الآن بشيء، فأغلب ديون البلاد من بنوك خاصة وسندات بالعملة المحلية، وهذا يعني أن أمريكا لا تملك تقليص الديون، ومع ذلك فإن بعض الدبلوماسيين يعقدون الآمال على أن بلينكن يستطيع مساعدة مصر في تسريع وتيرة الحصول على القروض من صندوق النقد الدولي، أو حتى اقتطاع جزء من الديون التي تدين بها القاهرة لبنوك ومصارف متعددة الأطراف، وهي ديون تبلغ قيمتها نحو 16 مليار دولار. إلا أن الصندوق لا يقدم سوى تسهيلات يسيرة الشأن، وهو ما يقلل من جاذبية هذا المسار. ومن ثم، فليس أمام الولايات المتحدة إلا وسيلة واحدة: هي ضخ المزيد من الأموال إلى مصر. غير أن هذا الأمر سيواجه معارضة في واشنطن.
أما العائق الثاني، فهو الدول التي تدين لها مصر بالمال. فأكثر من نصف الديون الخارجية للبلاد، وجميع احتياطياتها الأجنبية تقريباً، تأتي من الإمارات وقطر والسعودية. ولكل دولة منهم مليارات الدولارات من الودائع في البنك المركزي المصري؛ وبلغت الحزمة الأخيرة من السعودية 5 مليارات دولار، وأودعت قطر 3 مليارات دولار في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي. وهذه الودائع يمكن سحبها خلال مهلة قصيرة، وهو أمر كافٍ لاستنزاف احتياطي العملة الأجنبية في مصر. ومن ثم فإن الخليج لديه نفوذ أكبر على القاهرة في هذا السياق. ولذلك فإن أي صفقة يتعيَّن أن تشارك فيها دول المنطقة.
أما ثالث العوائق، فهو أن مصر تحتاج إلى تطمينات بأنها لن تُترك بمفردها في التعامل مع أزمة اللاجئين من غزة، لا سيما في ظل المخاوف من أن انتقال مئات الآلاف عبر الحدود، وتوفير خدمات التعليم والرعاية الصحية والإسكان، ربما يدفعهم إلى الرغبة في البقاء هناك، فضلاً عن أنه لا أحد يعرف متى ستسمح إسرائيل لسكان غزة بالعودة، وما الذي سيتبقى لهم حين يعودون.
ومن الجدير بالذكر هنا، أن الأردن ولبنان، اللذين استقبلا مئات الآلاف من لاجئي فلسطين في الأربعينيات، ومن سوريا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، قد واجها صعوبات سياسية جمة بسبب قضية اللاجئين. ومن ثم، يتعين على بلينكن ودول الخليج أن يقنعوا المسؤولين المصريين بأن الدول الأخرى مستعدة لدفع التكاليف التي سيحتاج إليها بعض اللاجئين القادمين من غزة، وربما إيواء بعضهم الآخر. وإلا فإن الاقتصاد المصري سيتعذر عليه التعامل مع تلك الأوضاع، وهو أمر يدركه السيسي جيداً، تقول الإيكونوميست.