ساعة بعد ساعة، تتكشف أهداف تل أبيب من العدوان الذي تشنه قواتها على قطاع غزة، لا سيما التحضير للعملية البرية الواسعة، والتي كان آخرها صدور تصريحات إسرائيلية علنية مفادها أن التوجه يقضي بإقامة منطقة عازلة أمنية بعمق ألف متر على طول الحدود الشرقية لقطاع غزة البالغة مساحته 362 كم2.
صحيح أن الأهداف العسكرية للعدوان الإسرائيلي القائم على غزة تتمثل في تدمير قدرات المقاومة بشكل تام، لكن ذلك يشمل تحقيق أهداف فرعية من بينها سعي الاحتلال لإقامة منطقة عازلة بعمق 2-3 كيلومترات، لتأمين مستوطنات الجنوب من أي محاولة أخرى للاقتحام براً، بما قد يتضمن تدمير وإزالة أية مبانٍ فلسطينية في النطاق المحدد.
يأتي هذا وسط مزاعم للاحتلال الإسرائيلي تتحدث عن هدف أمني لهذه المنطقة العازلة بفتح مزيد من مجال الرؤية، وحمايته من أي هجوم، رغم اختلاف المساحة وتغيرها وفقاً للمنطقة.
منع الصواريخ
هذه ليست المرة الأولى التي يهدد فيها الاحتلال بإقامة مثل هذه المنطقة الأمنية في قطاع غزة بذريعة "الرد السريع" على مطلقي الصواريخ تجاه المستوطنات، لكنه هذه المرة يخطط، إضافة لسياسة الاغتيالات والقصف غير المنقطع على غزة، لإقامة "منطقة أمنية" داخل القطاع، وقد يتبعها بإجراءات عسكرية غير مسبوقة.
وفقاً لما تسرّب من أوساط عسكرية داخل جيش الاحتلال ومقربة منه، فإن خطته تقضي بإقامة مساحات على حدود قطاع غزة تمنع فيها الحركة كلياً من قبل الفلسطينيين، على أن تكون هذه المناطق تحت رقابة قوات الاحتلال، وكل من يقترب منها، حتى لو كان عن طريق الخطأ، سيعتبره الجيش أنه قادم لإطلاق الصواريخ، وسيقوم فوراً بإطلاق النار تجاهه، ولذلك فقد ألقت طائراته بمنشورات خلال الأيام الماضية تطالب الفلسطينيين بعدم الاقتراب مسافة ألف متر من الحدود الشرقية لقطاع غزة.
التقدير الإسرائيلي أن الجيش ربما يعمد من مشروعه لإقامة هذه المنطقة الأمنية العازلة لإقامة قواعد عسكرية جنوبي القطاع وشماله لاستكمال توفير الشروط اللازمة لإصابة أي هدف "معادٍ" فيه، بزعم أن قوى المقاومة في مرحلة ما بعد الحرب الحالية قد تستأنف القصف على المستوطنات الإسرائيلية والقواعد العسكرية في غلاف غزة.
وربما تشمل هذه المنطقة الأمنية العازلة إقامة أسيجة إلكترونية على طول قطاع غزة لمنع تسلل فلسطينيين إلى الأراضي المحتلة عام 1948، حيث ستتم مراقبة هذه الأسيجة والمناطق العازلة عبر شبكة كاميرات وآليات موجهة عن بعد، تشبه ما هو قائم حالياً من جدار مادي محكم استطاع المقاومون اختراقه صباح السبت الماضي، وتنفيذ عملية طوفان الأقصى من خلاله.
المقاومة تتوعد
يقضي التوجه الإسرائيلي المزمع بأن يحظر الاحتلال على الفلسطينيين التحرك في هذه المنطقة وبالقرب منها بزعم عدم استخدامها لإطلاق الصواريخ، من خلال استخدام المدفعية والطائرات لقصف كل حركة للفلسطينيين فيها.
حتى الآن لم يصدر من قبل قوى المقاومة ردّ رسمي على هذه التهديدات الإسرائيلية، لأنها قد تكون غير متفرّغة للرد عليها، فيما هي منخرطة في ردّ العدوان الواسع القائم حالياً. لكن مصدراً سياسياً مطلعاً قال لـ"عربي بوست" إن "هذه الخطوة الإسرائيلية لن تغير من الواقع شيئاً، لأن خلايا المقاومة تمتلك صواريخ ذات مدى أبعد، وقادرة على تجاوز هذه المنطقة الآمنة، وإجراءاتها الأمنية المصاحبة لها، وسوف تستخدمها في الوقت المناسب لردع الاعتداءات على باقي مناطق القطاع".
وأوضح أن الاحتلال لن ينعم بالأمن، حتى لو أقام شريطه الأمني على طول قطاع غزة وعرضه، لأنها طورت صواريخها، "بل إن هذا الشريط سيشكل هاجساً مرعباً للاحتلال، وسيفشل كما فشل جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية، لأن الصواريخ المتطورة ستلاحقهم في كل مكان"، على حد قوله.
وأضاف أن إقدام الاحتلال على إقامة المنطقة الأمنية العازلة يعني استمرار عمل المقاومة صباح مساء بكافة الوسائل، وأنّها ستحوّل المنطقة لنموذج جديد من مزارع شبعا اللبنانية، وسيكون رصاصها جاهزاً لقنص جنود الاحتلال في تلك المنطقة، وتحوّلها إلى بؤرة رعب، مع أن الاحتلال قد يقدم على تنفيذ الشريط الأمني لأنه يشعر بالحرج أمام جمهوره المصاب بانتكاسة تاريخية بعد هجوم طوفان الأقصى.
في الوقت ذاته، فإن التصريحات الإسرائيلية بشأن إقامة المنطقة الأمنية العازلة أثارت العديد من التساؤلات حول الأهداف الإسرائيلية من إقامتها، وهل حقاً دوافعها أمنية كما يقول قادة الجيش، أم أن الهدف منها رغبة إسرائيلية في الاحتفاظ بمنطقةٍ من قطاع غزة، ما يعني إعادة احتلال بعض مناطقه بعد ثمانية عشر عاماً على الانسحاب منه، رغم وجود قناعات إسرائيلية بأن المنطقة الأمنية المشار إليها قد تخلق صعوباتٍ للفلسطينيين، لكن الأولوية لأمن الاحتلال الذي تم اختراقه بصورة مهينة من قبل المقاومين.
العمق الاستراتيجي
بالتزامن مع الهجوم البري الوشيك على غزة، توقعت محافل أمنية وعسكرية إسرائيلية أن يشرع الاحتلال بالتزامن مع بدء العملية البرية بإقامة تلك المنطقة الآمنة، غير المعروف طبيعتها وعمقها الجغرافي بشكل نهائي حتى الآن، وقد تكون قرب المنطقة الحدودية التي استخدمتها القوات الدولية للفصل بين أراضي غزة وإسرائيل قبل اندلاع حرب 1967، ويتوقع قيام آليات الاحتلال بتجريف الأراضي المستهدفة فيما يبدو تمهيداً لإقامة هذه المنطقة الأمنية العازلة.
من الواضح أن الاحتلال الإسرائيلي يستعد لإقامة المنطقة الأمنية بأحدث ما توصّلت إليه التكنولوجيا العسكرية المتقدمة، بحيث سيتمّ وضع أنظمة دفاعية عديدة لم تستخدم قبل الآن، على أمل أن يكون للجيش فور انتهاء الأشغال منطقة دفاعيّة تمتد بمحاذاة الحدود مع قطاع غزة، تشمل أسلاكاً حديدية شائكة، وسياجاً أمنياً مزوداً بأنظمة مراقبة حديثة، وأحدث أساليب التكنولوجيا المتطوّرة، مما يؤكد أن الاتجاه العسكري يذهب لإدخال التقنيات الحديثة جداً في الأنظمة الدفاعية، وإقامة حاجزٍ ماديّ على الأرض، دون توفر ضمانة أمنية بحماية الاحتلال من الجيش والمستوطنين.
مع العلم أنّ المنطقة الأمنيّة التي سيتم بناؤها تتطابق مع المفهوم الجديد لـ"حدود يتم التحكم بها عن بعد"، والاستناد في إقامتها على أنّ المستوطنات الإسرائيلية المجاورة للحدود ستكون معرّضة لهجماتٍ مباشرة، طالما أن الجيش لم يعدْ يملك "عمقاً استراتيجياً" في هذه المنطقة، خاصة بعد عملية "طوفان الأقصى"، بحيث ستتمّ مواجهة هذا الوضع بوضع تجهيزات متطوّرة للتحكم ولإطلاق النار عن بعد، مما يخفض إلى الحدّ الأدنى الوقت اللازم للتدخّل انطلاقاً من مراكز القيادة والتحكم المنتشرة على طول حدود القطاع.
في المقابل، فإن هناك تقديرات إسرائيلية وازنة ترى أن الجيش قد لا يكون قادراً على إقامة منطقة أمنية عازلة، أو شريط أمني في قطاع غزة، لأن تأثيرها سيكون منخفضاً جداً، لأن التجربة الإسرائيلية في إقامة هذه المناطق العازلة المقامة بين الحين والآخر على أكثر من حدود عربية عملت بالفعل كمعوّق كبير، بحيث دفعت المقاومة للتفكير بسلوك طرق صعبة وأساليب معقدة لتنفيذ عملياتهم ضد الجيش والمستوطنين، مع وجود اختلافات بين كل منطقة أمنية أو شريط أمني مع الدول العربية المجاورة بسبب العامل الطبوغرافي من جهة، ومن جهة أخرى طبيعة عمل قوى المقاومة المنتشرة في المنطقة عموماً.
المراحل البرية
مع العلم أن الجيش سيحاول إقامة هذه المنطقة الأمنية العازلة على مشارف غزة، لخشيته من منظومة الصواريخ المضادة للدبابات التي تمتلكها حماس، مما يشير إلى أن العملية البرية الجاري التحضير لها سوف تنقسم إلى ثلاث مراحل.
أولاً: غارات جوية على أهداف في العمق الغزّي، وثانيها عمل القوات البرية على تدمير أهداف للمقاومة، وثالثها محاولة السيطرة على بعض المواقع الجغرافية في قلب غزة، لأن الحديث عن حملة عسكرية بحجم قوات مختلف، بمشاركة قوات برية ومدرعة، وأسلحة الهندسة والجو والبحرية، وتوغل القوات في عمق غزة بهدف السيطرة على بعض محاورها، واستهداف المقاتلين، والبحث عن الأنفاق، وفي فترة لاحقة يتم الشروع بالمنطقة الأمنية العازلة المشار إليها، بعد الانتهاء من العدوان في قلب غزة.
هذا يؤكد أنه سيكون من الصعب على الاحتلال إقامة هذه المنطقة العازلة قبيل استكمال تطهير المستوطنات الإسرائيلية في محيط غزة، والتأكد من عدم وجود مقاومين داخلها، وإجلاء المستوطنين إلى مدن أبعد، وبالتزامن مع ذلك استمرار القصف الجوي العنيف الجاري حالياً بوتيرة متصاعدة على القطاع لمدة تتراوح بين 3 إلى 7 أيام، لمواصلة الضغط العنيف على قيادات حماس، ومنعهم من امتلاك زمام المبادرة مرة أخرى، وفي الوقت نفسه، استكمال عمليات الحشد والاستعداد وتهيئة مسرح العمليات على الأرض.
بعد هذه المراحل العدوانية من المتوقع أن ينتقل القتال إلى تدمير الاحتلال للبنية التحتية الحيوية والقدرات الصاروخية ومخازن الأسلحة والذخائر التابعة لحماس، وتدمير شبكة الأنفاق، وفي نهاية هذه المرحلة سيتم البدء بفرض المنطقة العازلة، مع إمكانية فرض إجراءات أمنية تمنع عودة النازحين للقطاع مرة أخرى.
مع العلم أن القرار الإسرائيلي بإقامة هذه المنطقة العازلة ستكون له آثار سلبية على أمن الاحتلال والمستوطنين، رغم مزاعمه بأن المراد من إقامتها هو الحفاظ على هذا الأمن، ولذلك فإن هذه المنطقة سوف تمتد على المشارف الشرقية والشمالية والجنوبية لقطاع غزة، وقد تكون من أقوى التدابير العسكرية التي يتبناها الاحتلال منذ الانسحاب من القطاع في 2005، مما سيعتبره الفلسطينيون "إعادة احتلال لأراضيهم، وطالما أن الاحتلال خرج من القطاع، فيجب ألا يعود مرة أخرى، ولا يحقّ له أن يتذرع بأي ذريعة"، مما سيعطي مشروعية لهم لاستهداف هذه المنطقة باعتبارها احتلالاً جديداً يجب مقاومته.
الأبعاد السياسية
صحيح أن خطة المنطقة العازلة على حدود قطاع غزة تبدو أمنية بحتة، لكنها لا تخلو من الأبعاد السياسية الحزبية الداخلية، فالائتلاف الحاكم اليوم في إسرائيل سنّ جملة قوانين فور وصوله للسلطة أوائل 2023 من أهمها قانون الانفصال الذي يطالب بالتراجع عن خطة الانسحاب من غزة التي تمت في 2005.
فضلاً عن رئيس الوزراء ذاته الذي عارض رئيسه السابق أريئيل شارون في هذه الخطة، وإن كان ذلك سيثير خلافات داخل حكومة الحرب المشكّلة حديثاً، ويرفض وزراؤه فكرة العودة الى غزة، لا سيما بيني غانتس وغادي آيزنكوت، اللذين يطالبان بالانفصال الكلي عن الفلسطينيين.
على الصعيد الفلسطيني، من المتوقع أن "تقضم" المنطقة العازِلة على طول الحدود الشرقية والشمالية للقطاع ما يزيد عن 30% من الأراضي الزراعية الخصبة، بجانب مواصلة تجريفها، ورش المبيدات الكيماوية، وإغراقها بفتح السدود خلال فصل الشتاء، مما سيلحق خسائر كبيرة بالمزارعين.
وقد أثبتت السنوات الماضية أن الاحتلال يحرص على تجريف الأراضي الزراعية الواقعة على طول الحدود الشرقية لقطاع غزة، بين الفينة والأخرى، لضمان عدم نموّ الأشجار، وتتعمد الآليات والجرافات العسكرية، التي تتوغل وسط إطلاق نار، إتلاف مئات الدونمات الزراعية، المزروعة بمحاصيل متنوعة، رغم أن الحديث يدور عن أن هذه الأراضي تعتبر السلّة الغذائية لأهالي غزة، مما سيترك تبعاته على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية ومختلف النواحي الحياتية.