"إنه شريك في جريمة ذبح غزة بكل أركانها، بل طرف في هذه الجريمة منذ مئات السنين"، هكذا يمكن وصف موقف الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة وأيضاً الاتحاد الأوروبي من حرب غزة الجارية الآن.
شراكة الغرب في الجريمة قديمة أقدم من القضية الفلسطينية وأقدم من إسرائيل نفسها، إنه شريك بالنموذج الاستعماري الإبادي الإحلالي الذي بدأ في الأندلس بإبادة وطرد المسلمين واليهود أو إجبارهم على اعتناق المسيحية، ثم إبادة الهنود الحمر في الأمريكيتين وإقامة مستعمرات بيضاء فوق أشلائهم، جلب فيها العبيد السود بعد أن قضى على السكان الأصليين.
شراكة الغرب بالجريمة بدأت، أيضاً، يوم اضطهد اليهود وصولاً لإيقاع النازية مذابح الهولوكوست فيهم، الأمر الذي أعطى لفكرة الدولة اليهودية زخماً، بين النشطاء اليهود الذين رأوا في الهولوكوست فرصة لتحقيق حلمهم، والغرب الذي بدل من أن يؤسس دولاً ومجتمعات مدنية متعددة الأديان فضل تصدير المشكلة للعرب.
الولايات المتحدة بإبادتها للهنود الحمر، ونظامها العنصري التي ما زالت آثاره موجودة في الجنوب ونظامها الانتخابي الذي يهمش أصوات السود، هي قدوة لإسرائيل بل هي إسرائيل الكبيرة، وإسرائيل قبل أن تؤسس إسرائيل حيث تصور مؤسسو أمريكا الأوائل أنفسهم بأنهم العبرانيون الوارد ذكرهم في التوراة وهم يغزون أراضي الكنعانيين عند دخولهم فلسطين لأول مرة قبل آلاف السنين.
ولا عجب أن يتعاطف المستعمرون القدامي البروتستانت مع المستعمرين الإسرائيليين الأحدث عهداً.
فرنسا باستعمارها الاستيطاني للجزائر وإنكارها وجود أمة جزائرية حتى اليوم، كما فعل رئيسها إيمانويل ماكرون، سبقت مقولة المستوطنين اليهود، "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، التي روجت لتبرير احتلال فلسطين، ولا عجب أن ماكرون المسكون بالعداء للإسلام، والذي يغلق المساجد في فرنسا، لا يرى تدمير إسرائيل للمساجد في غزة أو انتهاكاتها بحق الأقصى، ويرفض ما يصفه بالخضوع لابتزاز حماس، كما لو أن حماس تطالب بشيء غير جزء يسير من حقوق الشعب الفلسطيني.
بريطانيا التي فكرت بمنتهى البرود والصلف في توطين الهنود بالعراق بعد استعماره في نهاية الحرب العالمية الأولى لاستغلال ثرواته، وأطلقت وعد بلفور لخلق وطن يهودي في فلسطين هي شريك مع سبق الإصرار والترصد في الجريمة، فهي الدولة التي تعاملت مع نقل البشر من موطن لآخر قسراً أو طوعاً، كأنها مقاول أنفار استعماري!.
أمريكا التي منحت إسرائيل أحدث الأسلحة رغم استفادتها من النفط العربي منذ عقود، هي الداعم الأكبر لإسرائيل، وهي شريك طويل الأمد في الجريمة الحالية وما سبقها، عبر إطلاقها عملية سلام بشروطها قبلت فيها منظمة التحرير نزع معظم فلسطين، ورغم ذلك لم تحاول واشنطن قط إجبار إسرائيل على تحقيق تسوية سلمية أو حتى الالتزام، بالعهود المتتالية التي منحتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لفلسطين، بل اعترفت واشنطن بالقدس عاصمة لإسرائيل ولم يتراجع بايدن الليبرالي الحقوقي عن قرار سلفه الجمهوري ترامب في هذا الشأن رغم أنه تراجع عن العديد من قراراته الأقل خطورة.
واليوم يزداد تورط الغرب في هذه الجريمة.
الغرب ترك حكومة إسرائيل المتطرفة تتمادى في جرائمها
رأى الغرب بأم عينيه، أكثر حكومة متطرفة في تاريخ إسرائيل باعترافه ووصفه، وهي تتمادى في الانتهاكات بحق الأقصى والأسرى، والمستوطنون يحرقون مزارع أهل الضفة ويعتدون عليهم.
ولم يحاول الغرب قط استخدام سلاح العقوبات ضد إسرائيل رغم أنه طالما استخدمه ضد العرب وأخيراً ضد روسيا فساهم في تطبيع الجرائم الإسرائيلية وأخطرها محاولة تقسيم الأقصى زمانياً ومكانياً تمهيداً للاستيلاء على ثالث أقدس مقدسات المسلمين.
وأصبحت هذه الجرائم شيئاً عادياً حتى باتت تتذيل نشرات الأخبار، في تمهيد واضح من قبل إسرائيل للاستيلاء على الأقصى وضم الضفة.
لو فرض الغرب مرة واحدة عقوبة من عقوباته التي تشهر ضد الصين وروسيا وإيران وقبلهم العراق وطالبان وكوبا وكوريا الشمالية، لما انتخب الإسرائيليون الذين يعلمون مدى اعتماد بلادهم على الدعم الأمريكي نتنياهو ولا إيتمار بن غفير، بل لاختاروا حكومة تنجز السلام فوراً، خوفاً من قطع الدعم الأمريكي أو وقف انسياب بضائعهم لأوروبا.
وشارك في حصار غزة الذي بدأ بعض انتخابات ديمقراطية وصفها بالجميلة
ولستة عشر عاماً ، ساهم الغرب في حصار إسرائيل لقطاع غزةـ وهو حصار بدأ من قبل الغرب على الشعب الفلسطيني برمته منذ الانتخابات التشريعية التي أجريت في عام 2006، ومارس هذا الشعب فيها حقه الطبيعي (بناء على مطالبات غربية) في اختيار حكومته فانتخب حركة حماس، بعدما شعر أن فتح قد أصبحت حركة عجوز متهمة بسوء الإدارة وأحياناً الفساد، حسب وصف مؤسسات ومسؤولين غربيين عدة.
فرد الغرب على هذه الانتخابات (التي وصفها الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر بالجميلة، وأقر رئيس أمريكا وقت إجرائها جورج بوش الابن بنزاهتها)، بمنع المساعدات عن هذه الحكومة بدعوى أن حماس حركة إرهابية، ولكن لم يعاقب إسرائيل لتولي المتطرف إيتمار بن عمير منصب وزير الأمن الداخلي وهو المنحدر من حركة مائير كاهنا المتطرفة والتي كانت منصفة كحركة عنصرية وإرهابية في الولايات المتحدة نفسها وإسرائيل.
وتجاهل الغرب تحذيرات عدة من انفجار فلسطيني سواء في الضفة أو غزة، وهو ما كان بمثابة مساعدة لإسرائيل على فرض شريعة الغاب وسيادة القوة العسكرية الممولة من أمريكا، وعندما لجأت حماس لنفس أسلوب القوة لاستعادة نزر يسير من حقوق الشعب الفلسطيني أدانها بشدة.
واليوم يعطي الضوء الأخضر لإسرائيل لقتل الشعب الفلسطيني
ولم يكتف الغرب بإدانة الضحية، بل يتعامل مع إسرائيل كأنها هي الضحية، فيتم التضامن معها بشكل يفوق ما يحدث مع أوكرانيا بل الأخطر يعاقب الفلسطينيون جماعياً بما في ذلك السلطة الفلسطينية المنصاعة تماماً لكل شروط الغرب وقواعده الظالمة، فيقرر الاتحاد الأوروبي تعليق كل المساعدات المقدمة لفلسطين وسلطتها، قبل أن يخفف القرار قليلاً بقرار آخر بمراجعة المساعدات لا وقفها.
وجاء ذلك بعد رفضت عدة دول أوروبية في قرار تعليق المساعدات الذي اتخذ على ما يبدو مفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون التوسع وحسن الجوار، أوليفر فارهيلي بدفع من ألمانيا وفرنسا، دون اللجوء للطرق القانونية اللازمة لذلك.
وشككت إيرلندا بشرعية قرار الاتحاد الأوروبي وقف المساعدات التنموية للفلسطينيين. وقال متحدث باسم وزارة الخارجية الإيرلندية "ما فهمناه هو أنه لا أسس قانونية لقرار أحادي من هذا النوع اتخذه مفوض واحد، ونحن لا نؤيد تعليق المساعدات"، كما انتقدت لوكمسبمورغ وإسبانيا القرار.
أما أمريكا فتصر على أن تقيم الدليل القاطع على تورطها في دماء الشعب الفلسطيني فترسل مجموعة حاملة الطائرات جيرالد فورد لسواحل فلسطين وإسرائيل، بل تعلن عن إرسال قوات كوماندوز متخصصة في تحرير الرهائن لإسرائيل.
وقبل ذلك يبدو أن الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي التي باتت تقودها حكومات مشغولة بالعداء للإسلام أكثر من الخوف من روسيا، قد أعطت الضوء الأخضر، لإسرائيل لإبادة المدنيين في غزة وهم يعلمون أن هذا القصف سيكون تأثيره محدود على المقاومة المتحصنة في الأنفاق.
بل يبدو أن الغرب وفي مقدمته إدارة بايدن حاملة لواء الحقوق والإنسانية أعطوا الضوء الأخضر، لعملية تجويع قطاع غزة، رغم إدانة المنظمات الدولية.
لم تقتصر الجريمة التي يشارك فيها الغرب على فلسطين، بل يبدو أنه ولا سيما أمريكا أعطت الضوء الأخضر لإسرائيل لقصف معبر رفح وتهديدها لمصر بقصف أي شاحنات محملة بمساعدات إنسانية في إساءة لأكبر دولة عربية وأعرق دولة في التاريخ.
فلا يمكن لإسرائيل تنفيذ هذه الجرائم دون ضوء أخضر غربي ولا سيما أمريكي، وهو ما أكده رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي استهل حملته العسكرية بالعمل للحصول على أكبر تأييد دولي أو بالأحرى غربي.
بل إن الدعم المعلن لإسرائيل لم يأتِ مشروطاً لو حتى شكلياً، بضرورة الحفاظ على حياة المدنيين.
وتدمير المباني على رؤوس ساكنيها المدنيين من النساء والأطفال والشيوخ، لم يخرج إدانة تذكر من العواصم الغربية البيضاء، بينما أي غارة روسية على كييف عاصمة أوكرانيا أو محطة كهرباء أوكرانية لا يعقبها فقط إدانة بل تجييش للرأي العام الغربي لحشد مزيد من المساعدات من أموال دافعي الضرائب الغربيين، بينما يطلب من الدول العربية زيادة إنتاج النفط والغاز لمنع ارتفاع أسعار المحروقات على دافعي الضرائب هؤلاء.
أحلال لأوكرانيا الدفاع عن أراضيها حرام على الفلسطينيين؟
أحلال للأوكرانيين القتال دفاعاً عن أراضيهم، وتحرير القرم ذي الغالبية الناطقة بالروسية، بينما حرام على الفلسطينيين أن يقاتلوا في مدنهم التي طردوا منها من أجل الوصول لاتفاق لوقف الانتهاكات بحق مقدساتهم وأسراهم.
ولم تخرج من العواصم الغربية إدانة للخطاب التحريضي العنيف العنصري والتطهيري مثل تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت الذي توعد بحرمان غزة من الكهرباء والماء، وقال إننا نحارب حيوانات بشرية، وهو التصريح الذي وصفته منظمة هيومن رايتس ووتش الأمريكية بأنها مقززة ودعوة لارتكاب جرائم حرب.
ولم تخرج إدانة أمريكية ولا أوروبية لتصريح خطير فيه تهديد لأكبر حلفاء واشنطن في المنطقة (مصر)، عندما دعا اللفتنانت كولونيل ريتشارد هيشت، كبير المتحدثين العسكريين، الفلسطينيين الفارين من الضربات على غزة بالتوجه إلى مصر، قبل أن يتراجع المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي باللغة العربية أفيخاي أدرعي، اليوم الثلاثاء، قائلاً إنه لا توجد أي دعوة إسرائيلية رسمية لتوجيه سكان قطاع غزة نحو الأراضي المصرية.
أليس في الغرب رجل رشيد.. هكذا يكرر أخطاءه التي أفضت من قبل لكوارث
يعيد الغرب أخطاءه السابقة أو يأتي بأسوأ منها.
فلقد أدت نكبة 1948، ومحنة تشريد اللاجئين الفلسطينيين، لتفجر المقاومة الفلسطينية في الستينيات والسبعينيات التي نفذت بعض عملياتها في دول غربية وعربية، وكانت النكبة سبباً لنكسة الديمقراطية في العالم العربي والتي أدت بدورها لوصول العسكريين القوميين المعجبين بالاتحاد السوفييتي فمنحوه موطأ قدم مجانياً في الشرق الأوسط على حساب الغرب، ثم توالت الانقلابات بالمنطقة، الأمر الذي أدى لظهور أنظمة عنيفة وطائفية مثل نظام الأسد أو أنظمة متهورة مثل صدام حسين.
لم يتعلم الغرب من درس تداعيات الإهانة التي تلحقها إسرائيل واحتلالها بالعرب، والتي كانت أحد أسباب ظهور تنظيم القاعدة الذي نفذ هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، ولا من درس الغزو غير الشرعي وغير المبرر للعراق عام 2003، الذي وافق عليه جو بايدن عندما كان عضواً بالكونغرس، فكانت النتيجة أن تحولت بلاد الرافدين لساحة مقاومة شرسة ضد الأمريكيين كبدتهم خسائر مادية وبشرية هائلة، وأدت لظهور داعش بوحشيتها ثم انتهى الأمر بتسليم العراق إلى أيدي إيران.
الغرب يصدم ملايين العرب الذين كانوا يرونه أقرب لهم من روسيا والصين باستبدادهما
لم يتعلم الغرب من دروس الماضي مطلقاً.
اليوم بعدما بدأ الكثيرون في العالم العربي، لا سيما الليبراليون والإسلاميون المعتدلون ينظرون بشكل إيجابي للغرب، ويرون قيمه الديمقراطية أقرب لهم من قيم روسيا والصين الاستبدادية، وبعد أن بات حلم كثير من الشباب العربي والمسلم الهجرة من بلاده المنكوبة بالفقر والاستبداد لبلاد الغرب المفعمة بالحرية، وبعد أن رأى الكثيرون منهم أن الديمقراطيين في أمريكا أصبحوا أكثر تفهماً للمأساة الفلسطينية، وبعد أن بات كثير من هؤلاء الشباب العربي المعجبين بالقيم الليبرالية الغربية مؤيدين لأوكرانيا في مواجهة روسيا المستبدة، يعيد الغرب كل هؤلاء لخانة اليأس.
هؤلاء العرب الذين أيدوا حق أوكرانيا في أن تكون دولة حرة وذات سيادة ما موقفهم اليوم وهم يرون ذات الغرب الذي يدعم كييف يتنصل من قيمه، ولا ينكر على الفلسطينيين فقط حقوقهم، بل يؤيد ذبحهم وتدمير قطاع غزة المحاصر الصغير بطريقة وحشية لم تفعلها روسيا على مدار عامين من الحرب مع أوكرانيا.
اليوم يملأ اليأس قلوب هؤلاء، وسوف يولون وجوههم بعيداً عن شطر الغرب.
بعضهم قد يتحول للتطرف، بعد أن أغلق حكامهم أمامهم منافذ التعبير والتغيير السلمي، فهم حتى ممنوعون من أن يخرجوا في مظاهرة للتعبير عن فرحتهم بكفاءة بني جلدتهم في قهر العدو الذي أذلهم على مدار سبعة عقود.
والبعض الآخر، بات يرى في روسيا بموقفها العقلاني الداعي لحل سريع وعادل للقضية الفلسطينية حليفاً طبيعياً، (كما كانت خلال الستينيات والسبعينيات)، وكذلك الصين التي رفضت مثل موسكو إدانة حماس في مجلس الأمن.
خسر الغرب بموقفه في حرب غزة قلوب العرب والمسلمين للأبد، بل خسر قلوب الجنوب العالمي، كله، فلقد تبين أن ازداوجية معاييره انتقلت من تزويد أوكرانيا بالسلاح وتجميد القضية الفلسطينية إلى وحشية جلية لا يستطيع أكبر المولعين بالغرب إخفاءها.
إليك أكبر مستفيد من حرب غزة
اليوم كسبت روسيا والصين موضعاً في القلوب العربية، في المنطقة الأهم في العالم التي تتحكم في المواصلات والطاقة وتشرف على أهم ثلاث مضايق في العالم وهم هرمز وباب المندب وجبل طارق ومعهم قناة السويس، المنطقة التي تجاور أوروبا، وتشاركها في المتوسط، والتي تمثل خاصرة الاتحاد الأوروبي الرخوة.
وقد يكون هذا أمر لا يهم الغرب كثيراً، لأن الشعوب العربية مسيَّرة بحكامها الحلفاء للغرب أو المتعاقدون معه في صفقات لا علاقة لها بفلسطين، ولكن هذا رهان قصير الأمد، فالشعوب المقهورة يمكن أن تنفجر، وبأس السيناريو إذا انفجرت.
كما يمكن أن تتحرر وتقيم ديمقراطيتها المنشودة، وفي هذه الحالة، فإن مذبحة غزة الجارية سوف تظل شاخصة أمام أبصارها ومواقف روسيا والصين شبه المحايدة لن تنسى والدعم الأمريكي الأوروبي الذي قدم بشكل مستفز لإسرائيل لن ينسى أيضاً.
وفي هذا العالم الذي قد لا يكون بعيداً، قد يكون قرار الشعوب العربية حينها التقارب مع روسيا والصين الاستبداديتين لأن استبدادهما لم يضر العرب كثيراً، (سوى الدعم الروسي للأسد)، بينما ديمقراطيات الغرب هي التي ألحقت أكبر أذى بالمنطقة.