في الوقت الذي يشهر فيه الإسرائيليون سيوف انتقاداتهم نحو جيش الاحتلال بسبب إخفاقه العسكري أمام مقاتلي حماس الذين اقتحموا مستوطنات غلاف غزة، فإن ذات الانتقادات توجهت نحو أجهزة الاستخبارات الاسرائيلية.
وظهرت الاستخبارات الإسرائيلية مكشوفة أمام قدرات حماس الأمنية الاستخباراتية حيث نجحت أجهزتها بتضليل الاحتلال، والتعتيم عليه، والدخول بسهولة لمواقعه العسكرية المحيطة بتقنيات أمنية واستخبارية فائقة.
هذا الانقلاب في الموازين، دفع مجندة إسرائيلية خدمت في الاستخبارات خلال حرب 2014 أكدت أن حدود غزة لا يمرّ بها طائر دون أن تعلم المنظومة الأمنية، فكيف باقتحام المئات.
فكيف استطاعت حركة المقاومة الإسلامية أن تتفوق على أقوى منظومة أمنية استخباراتية في المنطقة لدى إسرائيل؟ وهل استعانت الحركة بمنظومات أجنبية للتغلب على الوحدة 8200 للنخبة الأمنية الإسرائيلية.
كيف حمت حماس اتصالاتها؟
وقد أظهرت الساعات الأخيرة اتهامات قاسية لأجهزة أمن الاحتلال بالإخفاق في عدم التقاط أي مكالمة لكوادر حماس تفيد بتحضيراتهم العسكرية لهذه العملية، أو الوصول لأي معلومة تكشف عن أي من استعدادات ذات علاقة.
الأمر دفع مسؤولين أمريكيين للاعتراف أمام شبكة CNN أن "قدرة حماس على تنسيق هجماتها على المستوطنات دون اكتشافها، أثارت مخاوف بشأن النقاط التكنولوجية العمياء بالنسبة لمسؤولي المخابرات الإسرائيلية التي لم ترصد أي تحضير لهجوم وشيك في الأيام القليلة الماضية".
بل إن إدوارد سنودن العميل التقني لسابق لدى وكالة المخابرات المركزية، أكد أن "إسرائيل صنعت بمليارات الدولارات أدوات التجسس باعتها للأنظمة الاستبدادية التي تستخدمها لاختراق أجهزة الآيفون الخاصة بالمعارضين السياسيين، في إشارة لبرمجية التجسس الشهير بيغاسوس، ولكن اتضح أنها ليست مفيدة جداً للتجسس على حماس".
الأكثر غرابة أن شبكات التواصل الاجتماعي شهدت انتشار تغريدات بين الإسرائيليين تعزو ما حصل لنظرية المؤامرة، واتهام مسؤولي جيش الاحتلال بأنهم يتعاونون مع حماس، وتمت مشاركة هذه النظرية على نطاق واسع بين آلاف وعشرات آلاف النشطاء الإسرائيليين.
حتى إن مقدمة البرامج في إذاعة الجيش الإسرائيلي "غاليه تساهل" يائيل تسين قالت إنه "يجب أن يكون هناك جواسيس من الداخل متورطون، وإلا فلن تكون هناك فرصة"، ثم حذفتها لاحقاً، كما كتب مغردون إسرائيليون آخرون أن "هناك خونة بيننا، هذا واضح وضوح الشمس".
مع العلم أن العادة جرت بأن يعكف المتحدثون الإسرائيليون باسم الحكومة والجيش على امتداح الدور الكبير والحاسم الذي تقوم به الأجهزة الاستخبارية في حروبها على المقاومة في غزة، لا سيما جهاز الأمن العام- الشاباك، وجهاز الاستخبارات العسكرية- أمان، لأنه لولا المعلومات الاستخبارية التي توفرها لما استطاع الاحتلال أن يحارب حماس.
استغلال الأخطاء الاستخبارية
ورغم تعدد هذه الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، فقد كشفت المعركة الحالية أنها واجهت العديد من المشاكل أدت لفشلها الاستخباراتي أمام حركة المقاومة الإسلامية حماس.
ومن أهم هذه الإخفاقات الترهل الإداري الذي لعب دوراً مهماً في عملية الإخفاق الأمني والاستخباري، وكشف بصورة صارخة عن فداحة الأخطاء الاستخبارية الإسرائيلية.
أيضاً هناك الثغرات الأمنية التي وقعت فيها مختلف الأجهزة الأمنية الإسرائيلية أمام نجاح حماس، وهي تخوض حرب عصابات، في "خطف دولة بأكملها" بعد سنوات عديدة من التسلح والتخفي، واستفاق الإسرائيليون ليجدوها أكثر تنظيماً، وأكفأ قتالية وتدريباً مما كانت في جولات القتال السابقة، وأسفر عن تغير الوضع مع مقاتليها في ساحة المعركة.
ولقد أسهمت سلسلة الإخفاقات الأمنية والاستخبارية في المواجهة الحالية في تعبير محافل سياسية ووزراء في الحكومة، في محادثات مغلقة، عن قصور الاستخبارات في جمع المعلومات عن تعاظم حماس، والاستعدادات المكثفة التي أعدّتها للمواجهة مع الجيش الإسرائيلي.
ولقد أشارت وقائع المواجهة الدائرة اليوم على حدود غزة، وفي قلب المستوطنات، إلى أن أحداً ما غفا في "الحراسة"، وهي أجهزة الأمن الإسرائيلية، رغم تحذيراتها بأن حماس تستعد للمواجهة، لكنها فشلت في قدرتها على التسلل داخل الحركة.
وربما رأى رجال الاستخبارات "الغابة"، لكنهم بالتأكيد لم يلاحظوا "الأشجار"، لأن الحركة أعطت الإحساس للاحتلال بأنها منشغلة بتحسين الظروف المعيشية لقطاع غزة، لكنها في حقيقة الأمر كانت تتحضر لتنفيذ هجومها غير المسبوق.
خدعة حماس
كما أثارت الأجهزة الأمنية والاستخبارية الإسرائيلية تساؤلات مقلقة بسبب سلسلة الإخفاقات، وذلك في ضوء عدم تزود الجيش بمعلومات عن خطط حماس وتحضيراتها لهذه العملية.
وظهرت العديد من الشواهد التي أشارت إلى أن العقبات التي واجهها الجيش في المعركة الدائرة أمام حماس، لم تكن فقط لوجستية، بل استخبارية في عدم فهم حماس ونواياها الحقيقة بسبب التقارير الأمنية المغلوطة.
لقد أكدت وقائع الأيام الأخيرة أن حماس خاضت جملة من تكتيكات الحرب الاستخبارية، وجاء الفشل الاستخباري الإسرائيلي بعجزه عن جمع المعلومات عن تحركات مقاتليها، وطبيعة قدراتها القتالية.
فيما أثبتت كتائب القسام قدرات استخبارية لافتة بجمع المعلومات عن المواقع الإسرائيلية في محيط غزة، والمستوطنات الجنوبية الواقعة في داخل غلاف غزة.
وبلغت القدرات الاستخبارية لدى المقاومة حدّ جمع المعلومات عن مواقع ومنشآت استراتيجية مثل مبنى فرقة غزة في معبر إيريز، وتوفير معلومات دقيقة حول فعاليات شهدتها المستوطنات الجنوبية يتجمع فيها مئات المستوطنون.
كل هذه المعطيات منحت الحركة فرصة للتفوق الميداني، وحوّلت أراضي مستوطنات غلاف غزة ساحة للمناورات الحية لمقاتليها طوال ساعات كاملة، دون أن يحرك الجيش ساكناً.
ولم يعد مقاتلو حركة حماس يحتاجون للتخفي من مناطق المواجهة، أو يخرجون خلف خطوط القوات ليهاجموهم، بل واجهوهم وجهاً لوجه، على غير العادة ولأول مرة.
شبكة اتصالات حماس
روجت أوساط أمنية إسرائيلية قبل هذه المواجهة أن حماس تسلّمت شبكة اتصالات صينية متقدّمة جداً، للقيادة والسيطرة يطلق عليها اسم (سيلغ) من طراز شبكة C2 مغلقة جداً من الناحية التكنولوجية.
وتُمكّن هذه الشبكة المقاتلين من إجراء اتصالات دون مشاكل، ولا يمكن اختراق المحادثات من خلالها، وقد مثّل استخدام حماس للاتصالات الخاصة سابقة في تاريخ الصراع، لأنها حرمت مخابرات الاحتلال من التنصت على مكالمات المقاومين.
مع العلم أن شبكة الاتصالات الفلسطينية ترتبط بنظيرتها الإسرائيلية، مما يسهّل اختراقها، وشكلت واحدة من أبرز الأدوات الاستخبارية والأمنية في المواجهات بين المقاومة والاحتلال.
كما أن الاتصالات اللاسلكية كانت، ولا تزال، تخضع لرقابة الاستخبارات الإسرائيلية، مما جعل التفكير بإقامة شبكة اتصالات خاصة بالمقاومة ليس أقلّ قيمة من تصنيع الصواريخ، والإعداد للمعركة التي تدور حالياً على حدود غزة.
وأكدت عملية "طوفان الأقصى" أن المقاومة اعتمدت بدائل من الاتصالات المتعلقة بما يعرف بـ"السيناو" و"الماخشير" اللتين استخدمتهما سابقاً باعتبارهما الوسيلة الوحيدة للاتصال.
واستطاع المحتل اختراقهما بتقنياته المتطورة، مما اضطر مهندسي الاتصالات لتعقّب المقاسم يومياً، للتأكد من سلامتها، ومنع اختراقها، وأثبتت الشبكة إخفاق الاحتلال بالتنصت على المقاومة.
ولقد كشفت الأحداث الجارية داخل مستوطنات غلاف غزة عن إخفاق استخباري باكتشاف حماس لمنظومة القيادة والتحكم لدى الاحتلال من جهة، ومن جهة أخرى عدم عثوره على أي دليل يفيد بالتخطيط لهذه العملية غير المسبوقة.
فمقاتلو كتائب القسّام وصلوا التوغل في قلب مستوطنات غلاف غزة، وفي غياب المعطيات الاستخبارية توقف الجيش عن استخدام النيران الكثيفة ضدهم لأنهم يأسرون عشرات الإسرائيليين.
ومنذ الساعات الأولى لبدء عملية طوفان الأقصى، وانكشاف ظهور الإسرائيليين أمام المقاومين في وضح النهار، وفي شوارع مستوطناتهم، بدأوا يطرحون أسئلة خطيرة أمام قادة الجيش لتفسير الإخفاق الاستخباري والعسكري أمام حماس.
ولم توجه هذه الأسئلة فقط على الجنرالات وكبار الضباط، بل وصلت ذروتها للحلبة السياسية، والدعوات المتتالية لعدم الثقة بما تقوله النخب السياسيّة والعسكريّة بشأن تقدير قوة حماس.
واعتبروا أنهم ضلّلوا الرأي العام الإسرائيلي بالانطلاق من افتراضات مضلّلة بشأن قدراتها، وحاولوا إقناعه بأنها ضعيفة، وغير معنية، وغير قادرة على فتح مواجهة عسكرية، فجاءت المفاجأة الصاعقة!
لقد أكدت المواجهات الضارية التي شهدتها المستوطنات الإسرائيلية بين مقاتلي حماس وجنود الاحتلال أن تقديراته للحركة غير دقيقة، وغير واقعية البتة، واتضح أن فشله الاستخباري تمثل بعدم تمكنه من الحصول على معلومات أمنية تكشف مخططات الحركة بصورة مسبقة.
خلل وظيفي
وأكد مسار المواجهة الدائرة في غزة أن المنطق الذي تتبعه حماس أثبت نجاحه، حين صدمت قيادة الجيش بمفاجآتها العسكرية، ولم يبد الجنرالات قادرين على تتبّعها.
وأظهرت المعارك الدائرة في الشوارع الإسرائيلية فشل تل أبيب في قراءة التطورات الميدانية الخاصة بالحركة، مما أبدى ضعفاً مثيراً للقلق باكتشاف وتشخيص المشهد العام بالمقاومة في غزة.
هذا الأمر جعل الإسرائيليين في عمومهم يشعرون أنهم أمام خلل وظيفي متعلق بجمع المعلومات الاستخباراتية الخاصة بحماس على مدار السنوات التي سبقت المعركة الحالية.
ولقد أشارت مراجعة لوقائع القتال في المستوطنات، وقبلها اقتحام السياج الحدودي، إلى فروق واضحة المعالم بين قدرات الجيش في مجال الدفاع والمعلومات الاستخبارية التي اهتزت وضعفت كثيراً، مقابل نضج حماس وقدرتها على تكبيده خسائر كبيرة.
في المقابل باتت حماس أكثر جاهزية في البحث عن أهداف عسكرية لضربها، عن طريق عمليات الاقتحام كي تصل العمق الإسرائيلي، رغم اعتماد الاحتلال على العديد من المصادر الأساسية في جمع المعلومات الاستخبارية اللازمة لحربها ضد المقاومة.
وتعتمد إسرائيل على المصادر البشرية عبر تجنيد العملاء من داخل غزة، بالإضافة إلى مصادر الإلكترونية القائمة على الاستعانة بأحدث ما توصلت إليه التقنيات التكنولوجية.
الغريب أن كل هذا الإخفاق حصل رغم حيازة المخابرات الإسرائيلية لطواقم بشرية ناشطة في قطاع غزة، تتعامل مع الفلسطينيين، بجوار الوسائل التقنية لكن أحداث الأيام الأخيرة كشف تراجعاً للأداء الاستخباراتي الإسرائيلي.
وضعف القدرة على التنبؤ بالتغييرات في توجهات حماس قبيل نشوب هذه المواجهة وأثناءها، ولذلك جاءت التقديرات المتفائلة عن القدرة على سحق حماس مبالغ فيها، وبات صعباً على الجيش التأليف بين فجوة استخبارية وصعوبة عملياتية، كما يحصل في هذه اللحظات داخل مستوطنات غلاف غزة.