كان الصبر من صفات نبي الله سليمان (عليه السلام)، وقد ابتلاه الله، فصبر، واحتسب، وطلب من الله المغفرة، والمُلْك الذي لا ينبغي لأحد من بعده، فاستجاب الله له، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ(٣٤) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥)، وهنا نجد قيمة الصبر على الابتلاء وأهمية اللجوء إلى الله بالدعاء والانكسار بين يديه وطلب المغفرة منه. وقد طلب سليمان بعد ذلك مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده واستجاب الله له ورفع درجته، فأشدّ الناس ابتلاء الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ولا شكّ أنّ الصبر على الابتلاء والفتن والمحن والمصائب من أشد أنواع الصبر.
1- قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾ [ص: 34].
أ. ﴿فَتَنَّا﴾: معناه: بلونا واختبرنا، وامتحنا، والفتنة في ذاتها ليست مكروهة، وإنما المكروه أن تخفق فيها، وتفشل في خوضها. وقد فتن الله سليمان (عليه السلام) كما فتن من قبله أباه داود (عليهم السلام) في مسألة المحراب.
ب. ﴿وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾: الكرسي هو العرش الذي يجلس عليه الملك. ﴿جَسَدًا﴾: الجسد هو قالب الكائن الحي، ويقال لهذا القالب: (جسد) إذا كان خالياً من الروح.
ج. ﴿ثُمَّ أَنَابَ﴾: يعني رجع إلى ما كان عليه قبل التجربة التي مرّ بها.
وقد تحدث الكثير من العلماء عن شرح هذه الآية الكريمة، وردوا الروايات المكذوبة في حق سليمان (عليه السلام)، بعدل وإنصاف. ومن هذه الدراسات المهمة لمن أراد التوسع:
– الإسرائيليات والموضوعات في قصة سيدنا سليمان (عليه السلام) ، كائنات محمود عدوان.
– تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾، للعلامة عبد الرحمن المعلمي.
– فتنة سليمان (عليه السلام) في القرآن الكريم، همام حسين يوسف سلوم.
2- ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [ص: 35].
أ. ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي﴾:
هذا أدب الأنبياء والصالحين، في طلب المغفرة من الله، هضماً للنفس، وإظهاراً للذلة والخشوع، وطلباً للترقي في المقامات. وفي الحديث: إني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة.
والاستغفار مقدمة بين يدي ما يطلب المستغفر بطلب الأهم في دينه، فيترتب عليه أمر دنياه، كقول نوح في ما حكى الله عنه: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا﴾.
ب. ﴿وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي﴾:
قال الطاهر بن عاشور في تفسير هذه الآية: وإردافه طلب المغفرة باستيهاب ملك لا ينبغي لأحد من بعده، لأنه توقع من غضب الله أمرين:
– العقاب في الآخرة، وسلب النعمة في الدنيا، إذا قصَّر في شكرها، وكان سليمان يومئذ في ملك عظيم، فسؤال موهبة الملك مراد به استدامة ذلك الملك، وصيغة الطلب ترد لطلب الدوام، مثل: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [النساء: 136].
وتنكير ﴿مُلْكًا﴾ للتعظيم. وارتقى سليمان في تدرّج سؤال إلى أن وصف مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده، أي: لا يتأتى لأحد من بعده، أي: لا يعطيه الله أحداً يبتغيه من بعده، فكنى بـ: ﴿لا ينبغي﴾ عن معنى لا يُعطى لأحد أي: لا تعطيه أحداً من بعدي.
وسأل الله جل جلاله ألا يقيم له منازعاً في ملكه، وأن يبقى له ذلك الملك إلى موته، فاستجاب الله له.
– وقد تضمنت دعوته شيئين: هما أن يعطى مُلكاً عظيماً وألا يعطى غيره مثله في عظمته، وقد حكى الله دعاء سليمان (عليه السلام)، وهو سر بينه وبين ربه إشعاراً بأنه ألهمه إيّاه وأنه استجاب له دعوته تعريفاً برضاه عنه، وبأنه جعل استجابته مكرمة توبته. ومعنى ذلك أنه لا يأتي ملك بعده له من السلطان جمع له ما لسليمان، فإن ملك عم التصرف في الجن وتسخير الريح والطير ومجموع ذلك لم يحصل لأحد من بعده.
وفي الصحيح عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: "إن عفريتاً من الجن تفلت البارحة ليقطع عليّ صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته فأردت أن أربطه بسارية من سواري المسجد، حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان: رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي، فرددته خاسئاً.
إن سليمان (عليه السلام) لم يطلب الملك للظلم أو البغي، وإنما طلبه للتقوى به على تنفيذ شريعة الله تعالى في الأرض، وإقامة حدوده، وتعظيم شعائره، وظهور عبادته، ولزوم طاعته جل في علاه. وليكون معجزة له في نبوته ورسالته، ويُسخره في الدعوة إلى الله تعالى، وإشعار الناس بالدخول في دين الله عز وجل، وليتخذه وسيلة لذكر الله وشكره وحسن عبادته، فالملك الخاص الذي يريده ليس غاية مقصودة، ولكنه وسيلة لتحقيق تلك الغايات الإيمانية العظيمة. ولذلك استجاب الله له، ومنحه ما طلب، وخصّه بملك لم يهبه لغيره.
ج. ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾:
ورد اسم الله تعالى (الوهاب) ثلاث مرات في القرآن الكريم، وذلك في قوله عز وجل: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [آل عمران: 8]، وقوله سبحانه: ﴿{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ﴾ [ص: 9]، وقوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [ص: 35].
قال الخطابي رحمه الله: ﴿الوهاب﴾: هو الذي يجود بالعطاء عن ظهر يد من غير استثابة… فكل ما وهب شيئاً من عرض الدنيا لصاحبه فهو واهب، ولا يستحق أن يسمى وهاباً إلا من تصرفت مواهبه في أنواع العطايا، فكثرت نوائله، ودامت، والمخلوقون إنما يملكون أن يهبوا مالاً ونوالاً في حالٍ دون حال، ولا يملكون أن يهبوا شفاء السقيم، ولا ولداً للعقيم، ولا هدى لضال، ولا عافية لذي بلاء، والله الوهاب سبحانه يملك جميع ذلك، وسع الخلق جوده، فدامت مواهبه، وكثرت مننه وعوائده.
إنّ سليمان (عليه السلام) عاش مع الله، وفهم أسماءه الحسنى، وآمن بصفاته العلى ونراه يدعو الله باسمه الوهاب، فقد كان مستغرقاً في هبات الله منذ طفولته، ورأى ذلك في مُلك أبيه، فأحب الله عز وجل، وأخلص العبادة له، وطرق أبوابه، التي لا تعد ولا تحصى بجميع أصنافها، وأنواعها، فهو سبحانه واهب الحياة، وواهب القوة، وواهب الرزق، وقد حافظ سليمان (عليه السلام) على نعم الله وهباته، ولا سيما هبة الهداية إلى الحق، والإيمان وسؤال الله عز وجل والتضرع بين يديه بالثبات على الهداية، وعدم الزيغ عنها. وكان سليمان (عليه السلام) يسأل الله عز وجل، بهذا الاسم الكريم كل ما يحتاجه العبد من خيري الدنيا والآخرة، لأنه لا واهب إلا الله.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.