"الحب هو فعل إيماني، ومن لديه القليل من الإيمان، لديه قليل من الحب".
في عالمنا اليوم، لا يمكن لأحد الجزم بأن الحب غير مهم في حياة البشر، إذ لا يمكن لأحد منا أن ينكر قيمته وتأثيره. فنجده يتجلى في أفلامنا المفضلة، ويتردد في ألحان الأغاني التي تلامس أعماقنا، وينعكس في رحلتنا في عالم الواقع. لكن مع كل هذا التفرغ للتجربة، يبقى القليلون منا يسعون إلى فهمه وتعلمه على نحو أعمق. إذا كان الحب مهماً لنا، لماذا لا نسعى جاهدين لفهم أسراره والتعرف على أبعاده؟
يتحدث عالم النفس والفيلسوف الشهير إريك فروم في كتابه "فن الحب" عن كيف نتعلم الحب، فالحب يستطيع الجميع التحدث عنه لكن قليل من يجيده أو يفكر بأن يتعلم شيئاً جديداً عنه.
كتاب فن الحب، الذي كتبه فروم قبل 50 عاماً، لا يزال يحتفظ بقيمته وقوته، بل لن نبالغ بأنه مرتبط بعالم اليوم وإشكاليته أكثرمن أي وقت مضى.
"ليس الحب أساساً علاقة بشخص معيَّن، إن الحب موقف، اتجاه للشخصية يحدد علاقة شخص بالعالَم ككل، لا "نحو موضوع" واحد للحب… والإيمان صفةٌ لا تنفصِل عن الحب، والشخص الذي يمتلك القليل من الإيمان يمتلك القليل من الحب".
عندما ينمو الفرد ويبدأ في التفاعل مع المجتمع، يصبح لديه حاجة مختلفة إلى الوحدة والاندماج تنطلق من الأمور التي تعلمها من خلال حب والدته. هذا الحب والاندماج يصبحان الأسس الرئيسية لاستقامته النفسية واستقراره العاطفي، وعندما لا يجد الفرد شعوراً موازياً لهذا الحب، يعاني، لذلك، في المجتمعات التي تفتقر إلى الحب والعناية يمكن أن تؤثر سلباً على حياة الأفراد، ويمكن أن يؤدي نقص الحب الداخلي إلى تطوير عادات سيئة مثل الإدمان على المخدرات وغيرها من السلوكيات الضارة.
في كتابه "فن الحب"، يتناول فروم نقاشاً حول كلام عالم النفس سيغموند فرويد عن حاجة الطفل إلى الحب في فترة نموه في رحم أمه. هذه الحاجة تنشأ منذ بداية وجود الجنين في رحم أمه، وتبقى غير قابلة للتطوير إلا من خلال حب الأم بعد مرحلة الطفولة. هذا الحب يلعب دوراً مهماً في تلبية احتياجات الطفل للوحدة والاندماج مع والدته.
عندما يصبح الحب سلعة
يقدم فروم نقداً عميقاً في مسألة التحول من الزواج المرتب (التقليدي)، الذي يرى أن الحب يتحقق بعد الزواج، إلى العلاقات التي تبدأ أولاً بالحب ثم تنتهي بالزواج. الحب – الذي أصبح معزولاً اجتماعياً بشكل متزايد والذي تحتاجه البشرية اليوم – تم استبداله بنوع آخر من الحب يسهل تسليعه، بل حتى أصبح مفهوم الحب نفسه سلعة.
فاليوم يتم تلقين الأفراد عن الحب كلمات وجملاً بصياغة "كيف يمكن أن تكون محبوباً؟" وليس "كيف تحب"، إذ يتم استخدام الحب كأداة لتسليع وترويج للذات في المجتمعات الرأسمالية.
"تحتاج الرأسمالية الحديثة إلى الناس الذين يتعاونون بشكل هادئ وبأعداد كبيرة، الناس الذين يريدون أن ينفقوا أكثر وأكثر، والذين تصبح أذواقهم متساوية وفق معيار محدد، والذين يمكن التأثير عليهم وتوجيههم بسهولة. إنها تحتاج إلى أناس يشعرون بأنهم أحرار ومستقلون، وليسوا خاضعين إلى أية سلطة أو أي مبدأ أو أي ضمير – ومع هذا يكونون راغبين في أن يأتمروا ويفعلوا ما هو متوقع منهم وأن يتلاءموا في الآلة الاجتماعية دون اختلاف".
فنرى المجتمع اليوم بكل سهولة وسطحية يضع معايير للنساء والرجال الذي يحق لهم الحب، فيحاول الأفراد داخل المجتمع التوافق مع أنماط معينة تتماشى مع هذه المعايير، حينها يصبح الجميع يشبه الجميع، ويظل الفرد في عمل دائم ليشبه شخصيات وأنماطاً معينة، تمتلك سلعاً معينة ومميزات معينة، ظناً منهم أن الحب يدور حول هذه الأمور.
فعلى سبيل المثال نجد الكثير من العارضين والعارضات اليوم يملئون منصات السوشيال ميديا، يعطون نصائح يومية عن كيفية اختيار اللبس والعطور والمساحيق المحددة، لنظهر بأفضل حلة من وجهة نظرهم أو نظر الشركات التي يروجون لها، في غياب تام للجوهر الإنساني ولذوق الشخصي المعبر عن الذات.
فالفرد الذي أفسدته الرأسمالية يصبح دائماً يبحث عن الأفضل، فمن وجهة نظره إذا حصل على أجمل وأفضل سلعة، سيصبح حينها محبوباً. وهنا يصبح الوضع خطير للغاية.
إذ لا يعاني الفرد فقط، بل يتعرض مفهوم الحب نفسه لتشويه، فيتم اختزاله كرغبة مجنونة في عصر تسيطر عليه ثقافة الاستهلاك، فيتحول من مفهوم وعنصر جوهري في الحياة، وجهد مبذول إلى عنصر للاستعراض يوافق عليه المجتمع، يستهلكه مستهلكون بغير وعي ولفترة زمنية قصيرة.
يرى فروم أنه عندما يحول الإنسان نفسه إلى سلعة، يتحول مفهوم الزواج تدريجياً إلى أن يكون أداة استثمارية يحاول الفرد من خلالها أن يحصل على أعلى ربح، وذلك اعتماداً على موقعه ووضعه الاجتماعي وخلافه في سوق الشخصية.
فلا تصبح العلاقات قائمة على الحب بل على الصفقات المربحة، فالهدف لكل شخص يصبح تحصيل أكبر قدر من النفع من خلال مشاركة الخصال الشخصية المميزة والمهارات والشهرة مع الأخر، فتتحول الحياة إلى حالة لا تحتوي على أي هدف آخر سوى العمل والجهد الدائم.
ورغم أننا كبشر محدودين، إلا أن هذه الحالة تعدم أي شعور بالرضا، فالحب بمفهومه السلعي لن يأتي تأثيره على الفرد إلا عن طريق تغييرات المربحة، فلا يمكن لأي نوع آخر من شعور الرضا أن يتطور سوى بالاستهلاك.
لذلك، يرى فروم في كتابه فن الحب أنه ينبغي للفرد العمل على تطوير وعي نشط لديه القدرة على الحب فعلياً، بدلاً من الاستسلام للنزعة الاستهلاكية السلبية والسلوك السطحي، وهذا أهم أساس لمدينته الفاضلة الاجتماعية من وجهة نظره.
"يجب تنظيم المجتمع بطريقة لا ينبغي فيها فصل طبيعة الإنسان الاجتماعية المُحبة عن كيانه الاجتماعي، بل يجب أن تتكامل وتتحد معه".
الحب من وجهة نظر فروم
في مقدمة كتابه "فن الحب"، يتبنى المؤلف فروم نهجاً فريداً ومختلفاً عن الكتب الأخرى الأكثر مبيعاً المتعلقة بموضوع الحب، والتي تحمل عناوين مثل "تكتيكات الحب" أو "استراتيجيات التواصل" أو "الخطوات التي تحتاج اتباعها للعثور على الحب"، ينظر فروم للحب ك "فن"، ويرى أن هناك ثلاث مراحل أساسية في عملية تعلم هذا الفن: إتقان الناحية النظرية، إتقان الناحية العملية والممارسة، والاعتراف بأنه لا يوجد شيء أكثر أهمية من هذا الفن في العالم.
فلا يمكن للمرء أن يحقق الحب دون الوصول إلى مستوى معين من النضج، بهذا الشرط يبني فروم نظريته عن الحب، ويخبرنا أن كل الجهود المبذولة لتحقيق الحب ستكون عقيمة ما لم يطور الفرد ذاته وشخصيته الحقيقية بالكامل ويجعلها تنضج بشكل إبداعي. فنجد أن مفهوم فروم، عن الحب مربوط بالنضج، الذي يميزه عن حب فرويد الذي اعتبره نوعاً من الأنانية والنرجسية.
فيقول فروم : "الحب الذي نشعر به تجاه الآخرين لا يختلف عن الحب الذي نشعر به تجاه أنفسنا". بمعنى آخر، أن الحب الذي يكنه الفرد لشخص آخر، لا يتنافى ولا يقلل الشعور بالحب لنفسه، بل إن حب الذات يظهر عند الأفراد الذين لديهم القدرة على حب الآخرين. لذلك، يُعرّف فروم النرجسية والأنانية بأنها الشخص الذي لا يعرف كيف يحب نفسه ولا يحب أي شخص آخر؛ لأنه يكره نفسه.
فمن وجه نظر فروم، الحب الناضِج هو الوحدة بشرط الحفاظ على تكامل الإنسان، والحفاظ على تفرديتة. فالحب هو قوة فعَّالَة في الإنسان، قوة تقتحِم الجدران التي تفصِل الإنسان عن رفاقه، والتي توحِّده مع الآخرين. إن الحب يجعله يتغلَّب على الشعور بالانفصال والعزلة. ومع هذا يسمح له أن يكون نفسه، أن يحتفِظ بتكامله. ففي الحب يحدث الافتراق، اثنان يصبحان واحداً ومع هذا يظلان اثنين.
ويرى فروم أيضاً أن معظم علاقات اليوم تحولت إلى علاقات سادية أو ماسوشية، ويأتي أبسط تعريف للسادية، في كون شعور الشخص بالسعادة عندما يلحق الألم بالآخرين. أما الماسوشية فتعني الحصول على المتعة عند تلقي التعذيب الجسدي أو النفسي من الآخرين. وهذا النوع من العلاقات يأتي نتيجة حالة بحث يائس للتخلص من الوحدة، ومع ذلك يصر فروم على أن تكون وحيداً مع نفسك لهو شرط أساسي لحب شخص ما.
"الحب الناضِج هو الوحدة بشرط الحفاظ على تكامل وتفردية الإنسان. فإذا تعلَّقتُ بشخص آخر لأنني لا أستطيع أن أقف على قدمي وحدي، يصبح هذا الشخص منقذاً لحياتي، لكن العلاقَة حينئذ لا تكون علاقَة حب، وعلى نحوٍ متناقِض فإن القدرة على الوحدة هي شرط القدرة على الحب".
في الفصل الرابع والأخير من كتاب فن الحب، الذي جاء تحت عنوان "ممارسة الحب"، يشرح فروم أن تعلم فن الحب يتطلب الانضباط والتركيز والصبر. ففي هذا العصر الذي نعيش فيه، تنسى هذه الفضائل الثلاث (الانضباط والتركيز والصبر)؛ لأن الإنسان الحديث يعتقد أنه يضيع الوقت عندما لا يقوم بأعماله بسرعة. ومع ذلك، فإنه لا يفعل شيئاً سوى إهداره الوقت الذي يكسبه.
ومع ذلك، نحتاج إلى "الإيمان العقلاني" حتى تترسخ هذه الفضائل داخلنا. ويلخص فروم ما يعنيه هنا بشكل لافت: "الإيمان العقلاني هو الإيمان القائم على تجربة الفرد الخاصة في التفكير والشعور. وهذا الإيمان يُمثل نوعية اليقين والصلابة التي تمتلكها معتقداتنا. الإيمان سمة تمتد عبر الشخصية بأكملها. إذ يعتمد الإيمان العقلاني على النشاط الفكري والعاطفي المنتج. وما لم يكن لدينا إيمان بإصرار بنفسنا، فإن شعورنا بالذاتية يتعرض للخطَر، ونُصبِح معتمدين على الآخَرين الذين يصبِح استحسانهم حينئذ هو أساس شعورنا بالذاتية".
في الختام، رغم أن الحب هو نشاط أو مبادرة تكون دائمة محملًه بالأمال والتوقعات عالية، إلا أنه تفشل باستمرار. على عكس الأنشطة الأخرى التي يمكن تركها إذا فشلت، يبقى الحب استثنائياً. لذا، يتعين على الأفراد أن يبحثوا عن أسباب هذا الفشل ويستمروا في سعيهم للبحث عن معنى الحب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.