على عتبة باب البنك وقف رجل أسود لضبط عقارب ساعته السوداء الموجودة على جناح يده اليُسرى؛ بينما قام بإعداد توقيت العملية بأصابع يده اليُمنى. ثم أعطى الإشارة لرفاقه بتحريك رأسه؛ لكي يستعدوا لبدأ العملية. عضلاتُ جسمه الضخمة ونظرات عينيه والمدفع المُعلق بخصره وخطوات أقدامه على الأرض، جميع هذه المؤشرات تعبّر عن غضبه الشديد، بينما تُفسّر الرصاصتان اللتان أطلقهما من فوهة مسدسه باتجاه السقف قضية نضاله. وقد أخبر الرهائن في تلك اللحظة بأن هدفه من العملية ليس السطو على البنك، لذا يجب عليهم الهدوء والطاعة وتنفيذ أوامره.
بعد إطلاق الرصاص في الهواء سقط الرهائن على الأرض، ومن بينهم رئيس المصرف والمشرفة وطاقم العمل وعملاء المصرف. يُجسد هذا المشهد بشاعة نظام الفصل العنصري الذي مارسته حكومة الحزب الوطني في جنوب أفريقيا لنصف قرن من الزمن، ومن خلال قانون تصنيف السكان وصف الفيلم بدقة آلية تصنيف السكان بناءً على 4 أعراق: البوير والسود والهنود والملونين.
هذا المشهد الدرامي مأخوذ من فيلم SILVERTON SIDEGE الذي يجسد أحداثاً حقيقية في ظل حكومة الفصل العنصري بجنوب أفريقيا، التي سنّت قانون تصنيف السكان، وقانون توزيع الأرض، وقانون الإسكان، ونتيجة لهذه القوانين غير العادلة تولّدت حركة المقاومة، والفيلم يسلط الضوء على هذه القضية، ضمن إطار درامي مشوق، من خلال الشخصيات الرئيسية في الفيلم، لذا كانت أهداف المقاومة هي التركيز على المنشآت الحيوية في الدولة وتدميرها، كنوع من العنف والضغط على الحكومة، وبعد فشل عملية تدمير منشأة نفطية انتهى بهم المطاف بالهجوم على المصرف نتيجة محاصرتهم من أجهزة الدولة، وعلى هذا النسق تدور أحداث الفيلم، وبعد ذلك تتحول العملية للمطالبة بإصدار عفو رئاسي وبشكل فوري عن نيلسون مانديلا، والإفراج عنه ضمن سلسلة مفاوضات على الرهائن أُجْرِيَتْ بين قائد العملية ونقيب الشرطة. وضمن تلك المفاوضات يتجسّد نظام الفصل العنصري بجنوب أفريقيا.
الاستعمار الهولندي والبريطاني
ونظام الأبارتايد سبقته قرون مُظلمة من الاستعمار الأوروبي لجنوب أفريقيا. وهذا النظام ليس إلا شكلاً من أشكال الهيمنة الإمبريالية التي مارستها الجيوش الأوروبية على الإنسان، لذا استعمرت هولندا جنوب أفريقيا، وأسست مستعمرتها في خمسينيات القرن السابع عشر الميلادي 1652، لتبدأ فصول الاستعمار الهولندي بهذا التاريخ.
ونتيجة للتنافس القائم بين الإمبراطوريات الأوروبية على هذه المستعمرة سيطر الجيش البريطاني على هذه المستعمرة في عام 1795، ثم فرضت سلطتها على البوير، وهم في الأساس مجموعة من الفلاحين الهولنديين؛ لذا ظهرت الأنجليكانية كدين رسمي للدولة بعام 1828، وهذا ما يفسر المعتقد البروتستانتي المشترك لكل القوى الإمبريالية الأوروبية التي استعمرت جنوب أفريقيا، وعلى رأسهم بريطانيا وهولندا وفرنسا وألمانيا، جميعهم ينطلقون من معتقد بروتستانتي مشترك.
ولهذا السبب حل القانون البريطاني محل الهولندي، وبعد ذلك ألقت بريطانيا العبودية في 1833، وهذا ما دفع البوير إلى النزوح داخل مستعمرة جنوب أفريقيا حفاظاً على هويتهم؛ وبحثاً عن مصالحهم الاقتصادية، ضمن رحلة التوسع بالأرض الجديدة.
تطرق الفيلم أيضاً لقصة الصراع بين البوير والزولو، وهذا ما يفسر الصراع المحتدم بين البوير والزولو في عام 1838 بعدما اجتاح البوير أرض إمبراطورية الزولو لكي يحتدم بينهما الصراع. كان الزولو يتفوقون عدداً على البوير، بينما البوير كانوا يتفوقون عليهم بالسلاح وهذا ما يفسر عدد القتلى في صفوف الزولو المقدرة بـ3 آلاف شاب قُتلوا في هذه المعركة وسالت دماؤهم في النهر الذي أخذ اسم نهر الدم.
يمكن الربط بين هذه المعركة، التي انتصر فيها البوير على شباب إمبراطورية الزولو بالحدث التاريخي المتعلق بخروج اليهود في العهد القديم؛ انطلاقاً من الدافع الديني أيضاً البوير كانوا يعتقدون أنهم شعب مختار من الآلهة، وهذا ما يفسر قوة انتصارهم على الزولو، وبهذا الاعتقاد يؤكدون على انتصارهم بقوة إلهية خارقة.
ضمن السياق الدرامي والتاريخي للفيلم، تتضح العوامل التاريخية لنشوء دولة جنوب أفريقيا. التي خرجت من رحم الإمبريالية الأوروبية، وهذا ما يؤكده وجود جيش المستعمر الهولندي والبريطاني، لذا فإن جنوب أفريقيا تمتلكها أقليات استعمارية مقسمة بين البوير والبريطانيين، وفي عام 1910 ظهرت كدولة ذات سيادة مطلقة.
نظام الأبارتايد
لهذا النظام جذور استعمارية تاريخية. كما أن نشأة هذا النظام بدأت رسميا في عام 1948 وانتهت لاحقا بعام 1994 وقد ساعد نظام الفصل العنصري خضوع أغلبية سوداء لأقلية بيضاء، لذا استطاعت الأقلية البيضاء الهيمنة على بقية الأعراق في جنوب أفريقيا لمدة زمنية استمرت 4 عقود من الهيمنة واللامساواة والوحشية.
وقد ساعد فوز الحزب الوطني المتطرف بالسلطة في عام 1948 تمرير برنامجه السياسي بسهولة، لذا شرّع الحزب قانون "سجل السكان" الذي أقر به في عام 1950، وقد ساعد القانون على تقسيم السكان بشكل رسمي ضمن 4 مجموعات عرقية: البوير، والسود، والهنود، والمُلونين، وبهذا التقسيم ظهرت مجتمعات مختلفة كلياً.
كما سمح القانون بتوزيع الأرض على السكان بطريقة غير عادلة، حيث قسمت الأرض وفقاً للعرق، ونال البوير نسبة أعلى من الأرض، بينما أخذت باقي الأعراق نسبة أقل، كما أن السود حصلوا على نسبة لا تتجاوز 13% من مساحة جنوب أفريقيا، ونظراً للتوزيع السيئ ارتفعت فيهم نسبة البطالة والاكتظاظ السكاني وسوء الأحوال الاقتصادية، وجميع هذه المساوئ كانت مترتبة على قانون سجل السكان.
والفيلم يعرض مجالات الحياة العامة التي انعكس عليها نظام الفصل العنصري. وهذا يتضح في المشهد الأول داخل البنك؛ حيث تم تصنيف العملاء بناءً على عرقهم، فهناك قسم خاص للأوروبيين، بينما يقف السود بخط انتظار خاص بهم، والهنود كذلك والملونين أيضاً.
وهذه السياسة ليست جديدة ولا تقتصر على جانب معين من جوانب الحياة، فمنذ الاستعمار الهولندي كانت توجد مدارس خاصة بالعرق الأبيض، كما أن المستعمر الهولندي كان يستهدف لغة السكان الأصليين وحاولوا طمس هويتهم ومعتقدهم ونشر معتقدهم المسيحي لذا كانت مدارسهم تعمل بهذه السياسة الاستعمارية منذ القرن السابع عشر ومن خلال هذه المدرسة تم نشر التعاليم الدينية للكنيسة الهولندية للإصلاح بعام 1658 بكيب تاون كمدرسة أولى.
وفي المقابل نشاهد سياسة تعليمية مختلفة انتهجها المستعمر البريطاني في مستعمرة الكيب، حيث اجتهدوا في نشر لغتهم الإنجليزية والتقاليد البريطانية، وبهذا أصبحت اللغة الإنجليزية لغة رسمية في جميع مؤسسات الدولة في عام 1827، كما تم الاعتماد على اللغة الإنجليزية داخل الكنائس والمدارس، وهذا يؤكد استراتيجية المستعمر تجاه هوية الآخر، التي طمست بشكل كامل واستُبدلت بهوية المستعمر. ومن هذا المنطلق يمكن قراءة الاستعمار من وجوه عدة استعمار عسكري واقتصادي وثقافي واجتماعي، كما أن سياسة المستعمر تقوم بتدجين الشعوب وفصلهم عن حضارتهم وتاريخهم وجذورهم، وذلك لا يتحقق إلا من خلال طمس اللغة وإحلال لغة المستعمر.
وانطلاقاً من هذه الأحداث التاريخية للاستعمار طبقت حكومة الأبارتايد بجنوب أفريقيا سياسة مشابهة، حيث تم إقصاء أبناء الأقليات عن المدارس المختلطة كما أن المنهج الدراسي ليس متشابها مع مناهج أبناء البوير وذات السياسة تم اعتمادها في التعليم الجامعي حيث أقصي السود والهنود والآسيويين من التخصصات الطبية، بينما سمح لهم بالالتحاق بالكليات الإنسانية في الجامعة، وبهذا الشكل كرست حكومة الحزب الوطني المتطرف نظام الفصل العنصري الذي من خلاله هيمنت أقلية البوير على باقي الطبقات الاجتماعية بجنوب أفريقيا نظراً لقوتها السياسية وقتئذ واستمر الظلم.
مانديلا ودريدا
كان صوت المطالبة بالحرية والعدالة حاضراً في مشاهد هذا الفيلم. كما استطاعت شخصيات الفيلم التعبير ببلاغة عن الغضب النفسي وعن قضيتهم التي يناضلون من أجلها، ويمكن للمشاهد أن يلتمس هذا الشعور بشكل واضح عند التأمل بملامح الشخصيات وقراءة لغة جسدهم، والتوقف قليلا عند ألفاظ اللغة المستخدمة في حواراتهم، إنه صوت الضمير الإنساني الذي يستدعي المشاهدين لإحياء العدالة والحق والمساواة والانتصار للمظلومين ومساندتهم شعوريا بمعاقبة الظالمين ومحاسبتهم وهذا لايتحقق إلا عندما ينطلق الإنسان من قيم الفضيلة والأخلاق والعدالة بإزاء الضمير.
لقد طالبوا بالإفراج عن نيلسون مانديلا، الذي اعتقلته حكومة الفصل العنصري بتهمة قيادة الجناح العسكري المسلح لحزب المؤتمر الأفريقي المناهض لحكومة الفصل العنصري وتم سجنه بعام 1962، وبهذا كانت أولى الحملات المطالبة بالإفراج عن نيلسون مانديلا، ويتمثل ذلك الصوت في إحراق النقود أمام البنك والتأكيد على خروج الرهائن مقابل الإفراج عن مانديلا بشكل فوري. وهنا قوة النضال وقوة التمثيل الدرامي المدهش؛ عندما يجسد الفن الساحر المعاني الإنسانية المتمثلة بالموت مقابل الحرية والنضال واتخاذ موقف من الظلم بغض النظر عن شكل أدوات النضال.
كان مانديلا غائباً بجسده عن هذا الفيلم بينما كان صوت نضاله موجوداً وفلسفته حاضرة وألفاظه حية. يمكن وصف مشروع مانديلا كله بأن خاطب الغرب خطابا يفهمه الغرب بلغته لذا استخدم المفاهيم الغربية في كتاباته النضالية، فعندما كان يبرر أسباب نضاله لحكومة نظام الفصل العنصري كان ينطلق من عقلية المحامي الذي يدافع عن قضية إنسانية ولكن يفسرها بمفاهيم استعمارية غربية تارة باسم حقوق الإنسان وتارة باسم العدالة والمساواة ولكن بطريقة غربية وهذا ما ساعده على بلوغ صوته ونضاله للغرب لذا تفاعلت المؤسسات الغربية مع قضيته وجلب الأنظار. لذا أصبح مانديلا هو صوت النضال الأفريقي ولكن بمفاهيم وعقلية غربية وبدعاية سياسية قوية تمت صناعتها في قلب المؤسسات السياسية الدولية الغربية، لذا وجدت هذا الصدى العالمي الكبير والتفاعل أيضاً.
وهذا ما يفسر الإفراج عنه لاحقاً هو ورفاقه في عام 1990 لكي تتشكل بعد ذلك سلسلة المفاوضات التي أدت للانتخابات التعددية في عام 1994، التي انتهت بفوز زعيم حزب المؤتمر الوطني الأفريقي نيلسون مانديلا ويعتبر فوزه سقوطا لنظام الأبارتايد بجنوب أفريقيا بعد عقود طويلة من اللامساواة، كما تم إعطاءه قبل ذلك جائزة نوبل للسلام هو ودوكليرك بعام 1993 يمكن فهم هذا كله بأنه كان جزءا من المنظومة الغربية ويتحدث بعقليتهم وينطلق من ذات المفاهيم التي ينطلقون منها، وهذا يتوافق مع السياسة التي انتهجها بعد توليه الرئاسة حيث شكل لجنة الحقيقة والمصالحة وفتح باب السماح مع رموز الأبارتايد التي مارست الظلم على الأغلبية العرقية واستحوذت على الثروات الطبيعية بواسطة سن القوانين ولا تزال هذه القوانين عالقة لهذا اليوم، كما أن رموز الأبارتايد لم يحاسبوا على جرائم القتل الممنهج والمؤسسي في حق الأغلبية وتم فتح باب المسامحة من خلال هذه اللجنة. ألا تعتبر المطالبة بمسامحة القتلة والمجرمين بدلا من محاسبتهم شكل من الفساد الأخلاقي؟ وهل يصبح للنضال الذي اتخذه مانديلا لسنوات طويلة أي معنى بعد تشكيل لجنة الحقيقة والمصالحة؟ هذا السؤال يجيب عنه التاريخ السياسي الطويل الذي أحرقه مانديلا بعد أن أصبح رئيساً، وحصل على جائزة نوبل للسلام، وذاع صيته في المسرح الدولي والمؤسسات الغربية، لذا لم يكن لمانديلا الخروج عن الخط والسياسة التي رسمها له المستعمر الغربي أبداً.
مانديلا لمع نجمه في السياسة وتجاوز حدود السياسة، حتى أصبح موضوع الدراسات الأكاديمية ومحطّ أنظار رموز الثقافة والفكر الغربي، ويتوافق هذا الرأي مع إعجاب دريدا لنيلسون الذي كتب عنه جاك دريدا مقالاً مطولاً عبّر فيه دريدا عن إعجابه الشديد بشخص مانديلا. والنص الذي كتبه دريدا يتوافق مع صحة الرأي الذي نذهب إليه باعتبار مانديلا نجماً سياسياً احتفى به الغرب، ولم يقدم أي شيء لشعبه سوى المشاركة في السياسة دون حل أصل النزاع الذي كرسه نظام الفصل العنصري بدولة جنوب أفريقيا، وذلك يتوافق مع التفاعل الغربي والإعجاب بمانديلا..
النص الذي كتبه دريدا عن نيلسون مانديلا يشرح بدقة شخص مانديلا ونضالاته ومحاكماته من المنظور الغربي، وبمعنى أصح نص دريدا مرآة خارجية تعكس صورة مانديلا التي يراها الغرب. فهو معجب بالديمقراطية وفصل السلطات، كما أن عمله السياسي ونضالاته السياسية كلها كرسها مانديلا لتحقيق هذا النظام الذي هو يعتبر نفسه من أشد المعجبين بهذا النظام. وهنا يؤكد دريدا أن موقف مانديلا من نظام الفصل العنصري مشابه لموقف برتناند راسل داخل البرلمان البريطاني فيما يتعلق بامتلاك بريطانيا للسلاح النووي، كما أن انضمام مانديلا لحزب المؤتمر الأفريقي هو بحد ذاته يتشابه بالالتحاق بالكونغرس الأمريكي ومجلس اللوردات.
ويستمر دريدا في إظهار إعجابه بمانديلا داخل هذا النص، ويستدل دريدا بأن نضالات مانديلا تتطابق تماماً مع مواقف جان جاك روسو فيما يتعلق بالدولة المدنية وحقوق الأفراد، ويستمر دريدا بالتعبير عن إعجابه الشديد بشخص مانديلا مع إظهار انعكاس مانديلا ومقارنته برموز الفكر الغربي الأوروبي بعالم السياسة والفكر والفلسفة، وهنا نلاحظ أن مانديلا لو لم تتشابه مواقفه مع مواقف هؤلاء الرموز، لما كان إعجاب دريدا به مثل نفس هذا الإعجاب الذي عبّر عنه بهذا النص.
*ملاحظة: في الجزء القادم من هذا المقال سأناقش التناقض السياسي بين الموقف الغربي من نظام الفصل العنصري بجنوب أفريقيا، مقارنة مع الفصل العنصري بدولة فلسطين، وبهذا أسلط الضوء على التناقضات السياسية للدول الغربية والمواقف المزدوجة من المفكرين الغربيين عندما ترتبط القضايا السياسية بجوهر النزاع معهم، هناك تتم المماطلة وفتح باب التفاوض عندما يرتبط الأمر بفلسطين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.