رغم فداحة الكارثة في درنة بسبب السيول وانهيار السدين، إلا أن الدعم الدولي المقدم إلى ليبيا يظل متواضعاً ولا يرقى إلى حجم المأساة، فما أبرز أسباب تردد بعض الدول في إرسال المساعدات أو المشاركة في مؤتمر لإعادة الإعمار؟
كان إعصار دانيال، الذي ضرب المناطق الشرقية من ليبيا يوم 10 سبتمبر/أيلول الماضي، قد تسبب في فيضانات وسيول، أدت إلى انهيار سدَّي درنة، ومحو نحو 25% من أحياء المدينة، ومقتل ما بين 4 إلى 20 ألف شخص، وفق تقديرات متضاربة.
ورغم هول الفاجعة التي لا تزال تداعياتها مستمرة، إلا أن الاستجابة الدولية للاستغاثة الليبية لم تكن بحجم مأساة درنة، على عكس ما حدث في زلزال تركيا وسوريا المدمر، على سبيل المثال، فما هي الأسباب؟
مساعدات دولية متواضعة مقارنة بمأساة درنة!
ورصد تقرير لوكالة الأناضول حجم المساعدات الدولية المتواضعة المقدمة إلى ليبيا بالمقارنة مع حجم الكارثة الإنسانية والبيئية التي خلفها إعصار "دانيال" الذي ضرب شرقي البلاد، وهو ما يثير عدة تساؤلات حول عدم حماسة المجتمع الدولي لتقديم دعم سخي للمنكوبين في مدينة درنة والمناطق المحيطة بها.
وتوقع رئيس بلدية درنة عبد المنعم الغيثي، قبل إقالته، أن يزيد عدد القتلى في المدينة على 20 ألفاً، استناداً إلى كثافة السكان في المناطق المنكوبة، وهذا الرقم يمثل نحو 10% من عدد سكان درنة البالغ 200 ألف قبل الفيضانات.
وبينما أعلن الهلال الأحمر الليبي أن عدد الضحايا قُدّر بـ11 ألفاً و300 قتيل، حتى مساء 14 سبتمبر، فإن المتحدث باسم قوات الشرق الليبي أحمد المسماري، أعلن عن مقتل 4 آلاف و168 شخصاً كحصيلة رسمية غير نهائية، بناءً على الجثث التي تم انتشالها، رغم تشكيك إعلام دولي في دقة هذا الرقم، في ظل مطالبات شعبية بفتح تحقيق دولي حول الجهات والأطراف المتسببة في ارتفاع حصيلة القتلى إلى هذه الأعداد.
سارعت السلطات الليبية منذ الساعات الأولى لانجلاء حجم كارثة درنة إلى مطالبة المجتمع الدولي والهيئات الإغاثية العالمية لمساعدتها في مواجهة هذه الأزمة البيئية غير المسبوقة في تاريخ البلاد الحديث.
ولم يكن العالم قد استفاق بعد من الزلزال الذي ضرب المغرب في 8 سبتمبر/أيلول، وخلف نحو 3 آلاف قتيل، لكن استغناء الرباط عن معظم المساعدات الدولية، جعل التركيز على مأساة ليبيا أكبر. فسارعت دول مثل تركيا والجزائر ومصر وقطر وإيطاليا وإسبانيا لتقديم المساعدات إلى ليبيا، لكن استجابة بعض الدول لنداء الاستغاثة كانت بطيئة على غرار الولايات المتحدة، أو منعدمة مثل دول أمريكا اللاتينية أو غالبية الدول الآسيوية.
وفي آخر حصيلة للفريق الحكومي للطوارئ والاستجابة السريعة، الذي شكّلته حكومة الوحدة برئاسة عبد الحميد الدبيبة، فإن 25 دولة سيّرت مساعدات إغاثية إلى البلاد، بواقع نحو 80 طائرة إغاثية و8 سفن، إلى غاية 24 سبتمبر.
قد يبدو للوهلة الأولى أن هذا الرقم كبير، خاصة وأنه يشمل ما تم تقديمه خلال أسبوعين فقط منذ وقوع الكارثة، لكن إذا قارناه بزلزال تركيا وسوريا الذي ضرب المنطقة في 6 فبراير/شباط الماضي، فإن نحو 80 دولة أرسلت مساعدات إغاثية أو تعهدت بتقديم مساعدات. ويكفي الإشارة إلى أن الإمارات العربية المتحدة وَحدَها أرسلت 240 طائرة إغاثية على الأقل إلى تركيا وسوريا، وهو ما يعادل ثلاث أضعاف طائرات الإغاثة التي أرسلت إلى ليبيا من 25 دولة. أما الولايات المتحدة فلم تقدم لليبيا سوى مساعدات بـ11 مليون دولار، مقابل 185 مليون دولار مساعدات لتركيا وسوريا.
ورغم أن عدد ضحايا زلزال تركيا وسوريا كان كبيراً جداً، ولا يمكن مقارنته بفيضانات درنة، سواء من حيث عدد القتلى أو الجرحى أو المنكوبين، أو حجم الدمار الذي لحق بعدة مدن ومحافظات في البلدين، إلا أن ليبيا لا تملك القدرات الفنية ولا المادية ولا حتى الخبرة الكافية لمواجهة مثل هذه الكارثة منفردة، لذلك فهي بحاجة لدعم أكبر مما هو مقدم حالياً من المجتمع الدولي لدعم جهود الإغاثة.
وبعد مرور أكثر من ثلاثة أسابيع، ما زال آلاف الليبيين في عداد المفقودين، وبعض الجثث قذف بها البحر لعشرات الكيلومترات بعيداً عن درنة. وتحتاج ليبيا في المرحلة المقبلة لتسريع عمليات إعادة إعمار المناطق المنكوبة لاستعادة الحياة بها، خاصة مع بدء موسم الدراسة بالبلديات المنكوبة في الأول من أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
ولكي تعود الحياة إلى المدينة هناك حاجة إلى بناء جسور مؤقتة لربط ضفتي المدينة، وإصلاح الطرق المقطوعة، وتوفير المياه الصالحة للشرب، وإصلاح شبكات الصرف الصحي، وحماية المدينة من الأوبئة عبر تعقيم مصادر المياه وتجفيف المياه الراكدة، ناهيك عن توفير المؤن والأغذية، والبيوت الجاهزة لعودة نحو 40 ألف نازح إلى مناطقهم.
المؤكد أن تسريع عمليات إعادة الإعمار قبل دخول الشتاء، يتطلب دعماً دولياً مكثفاً لإعادة إعمار المناطق المنكوبة، لكن التردد الدولي في مساعدة ليبيا بالحجم والسرعة المطلوبتين مردّه إلى عدة أسباب متعلقة بالليبيين أنفسهم أكثر منها بالمجتمع الدولي.
الفساد والانقسام في ليبيا
يقدر المهندس محمد بويصير، المقيم في الولايات المتحدة، تكلفة إعادة إعمار درنة بنحو 30 مليار دولار، مستنداً في تقديراته إلى تكلفة إعادة إعمار سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك بنحو 22 مليار دولار، وبيروت بنحو 35 مليار دولار.
ويحتاج توفير مبلغ ضخم بهذا الحجم وفي مدة زمنية قصيرة إلى دعم دولي سواء كمنح أو قروض وأيضاً إلى خبرة دولية في مشاريع إعادة الإعمار، سواء دراسات تقنية أو شركات مقاولات عالمية لتنفيذ المشاريع.
غير أن انقسام البلاد بين حكومتين تتنازعان الشرعية وجيشين وبرلمانين.. يعيق تقديم مساعدات دولية بالكثافة المطلوبة، خاصة وأن الحكومة المعترف بها دولياً متواجدة في العاصمة طرابلس بالمنطقة الغربية، بينما المناطق المنكوبة في الشرق تحت سيطرة الحكومة المكلفة من البرلمان.
وتمثل دعوة الحكومة المكلفة من البرلمان المجتمع الدولي للمشاركة في مؤتمر دولي لإعادة إعمار درنة، كان مقرراً انعقاده في 10 أكتوبر/تشرين الأول الجاري قبل الإعلان عن تأجيله لأسباب لوجستية، تحدياً لها، فالأمم المتحدة وأغلب الدول لا تعترف بها، وبالتالي فعلى الأغلب لن تشارك في هذا المؤتمر حتى لا تحسب مشاركتها بمثابة اعتراف بهذه الحكومة.
فقد أعلنت السلطات في شرق ليبيا تأجيل موعد انعقاد "المؤتمر الدولي لإعادة إعمار درنة" حتى مطلع تشرين الثاني/نوفمبر، وذكرت اللجنة التحضيرية في بيان، الأحد 1 أكتوبر/تشرين الأول، أن المؤتمر الذي كان من المقرر عقده في 10 تشرين الأول/أكتوبر، تم تأجيله لأسباب لوجستية ومن أجل منح الشركات "الوقت اللازم لتقديم الدراسات والمشروعات الناجعة التي ستسهم في عملية إعادة الإعمار". وأوضحت أنه سينعقد الآن في الأول والثاني من تشرين الثاني/نوفمبر في مدينتي درنة وبنغازي، بحسب تقرير لموقع فرانس24 الفرنسي.
وتم التأجيل بناءً على طلب البلديات في المدن والمناطق المتضررة وعدد من الشركات العالمية الراغبة في المشاركة، وفق ما أوضح رئيس اللجنة صقر الجيباني. ورغم عدم الاعتراف بها دولياً، دعت الحكومة المتمركزة في شرق البلاد في البداية "المجتمع الدولي" إلى المشاركة في أعمال المؤتمر. لكن يبدو أنها قلصت آمالها هذا الأسبوع، بالاشارة إلى أن الاجتماع سيكون "مفتوحاً أمام الشركات الدولية" والليبية فقط.
أما حكومة الوحدة فتدرك أنها غير قادة على الإشراف على عملية إعادة إعمار درنة، بالنظر إلى عدم سيطرتها على المنطقة، لذلك طلبت من البنك الدولي أن يشرف بنفسه على العملية.
وجود فاغنر في الشرق الليبي
كما لا يشجع انتشار الفساد في البلاد المجتمع الدولي والمؤسسات المالية العالمية على تمويل مشاريع إعادة إعمار البلاد. فليبيا مصنفة ضمن أكثر 10 دول فساداً في العالم، حسب منظمة الشفافية العالمية (المرتبة 171 من بين 180 بلداً).
وتخصيص مليارات الدولارات لإعادة إعمار درنة، حسب مراقبين، يمكن أن يستغل في تمويل صفقات شراء أسلحة أو حتى تمويل حرب جديدة وتجنيد مزيد من المرتزقة سواء من إفريقيا جنوب الصحراء أو من أوروبا الشرقية أو من سوريا عبر شركة فاغنر الروسية.
ويتواجد مرتزقة فاغنر في ليبيا، منذ أكتوبر/تشرين الأول 2018، بحسب تقرير أممي نشرته وسائل إعلام غربية في مايو/أيار 2020، ذكر أن عددهم يتراوح ما بين 800 و1000 عنصر، لكن خالد المشري، رئيس المجلس الأعلى للدولة (نيابي استشاري) السابق قدّر عددهم، في ديسمبر/كانون الأول 2021، بنحو 7 آلاف عنصر، يمتلكون 30 طائرة نفاثة.
وتعاظم دور فاغنر بعد مشاركتهم في العدوان الذي قادته قوات حفتر على العاصمة طرابلس، في أبريل/نيسان 2019، وبانسحابهم من جبهات القتال نهاية مايو/أيار 2020، انهارت قوات شرق ليبيا التي يقودها خليفة حفتر، وتراجعت إلى جبهة سرت الجفرة.
وينشط مرتزقة فاغنر، حالياً، ما بين محافظتي سرت (450 كلم شرق طرابلس) والجفرة (600 كلم جنوب شرق طرابلس)، ويتمركزون بقاعدة القرضابية الجوية بسرت ومينائها البحري، بالإضافة إلى قاعدة الجفرة الجوية، وتمددوا إلى الجنوب الغربي حيث تمركزوا في قاعدة براك الشاطئ الجوية (700 كلم جنوب طرابلس).
ولعدة مرات رصد الجيش الليبي تحركات لمرتزقة "فاغنر"، في قاعدتي سرت والجفرة الجويتين، كما أعلن مراراً رصد وصول رحلات جوية لطائرات تحمل مرتزقة من جنسيات مختلفة.
ورغم اتفاق الفرقاء الليبيين في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2020، على إخراج المرتزقة الأجانب وعلى رأسهم فاغنر من بلادهم خلال ثلاثة أشهر من ذلك التاريخ، إلا أن ذلك لم يتحقق على أرض الواقع.
ويفسّر كل ذلك مطالب سكان درنة وحكومة الوحدة بأن تتولى جهة دولية الإشراف على عملية إعادة الإعمار حتى لا تتكرر مأساة المدينة ويقتل شعبها مرتين. كما أن عدم الاستقرار الأمني في البلاد، لا يشجع كثيراً الشركات العالمية التي لها خبرة في إعادة الإعمار بالقدوم إلى ليبيا، رغم الإغراءات المالية، لمشاريع محتملة سعى مجلس النواب لتخصيص ميزانية مستعجل لها بأكثر من ملياري دولار، وقد تصل إلى 30 مليار دولار، وفق بويصير.
المؤكد أن الانقسام السياسي والفساد والأمن الهش، ناهيك عن أسباب أخرى كضعف النشاط الدبلوماسي ومحدودية التأثير الإقليمي والدولي، وراء تردد دول كثيرة ومؤسسات دولية في تقديم الدعم الإغاثي والمادي لليبيا، بينما منكوبو درنة في أمسّ الحاجة لاستعادة الحياة في مدينتهم المتوسطية.. فهل يُزهر الياسمين ثانية في أرض الجبل والبحر؟