يظن كثير من البشر أن الاتصالات والصور ومقاطع الفيديو تمر من فوق رؤوسنا، نظراً لأن الهوائيات (من الجيل الثالث والرابع والخامس) هي أول شيء سيخطر في البال عند التفكير في نشاطنا الرقمي، لكن الواقع يقول إن 99% من حركة البيانات العالمية لا تمر عبر الهواء، بل تمر عبر الكابلات المنتشرة تحت الأرض وفي قاع البحر.
كيف تحوّلت الكابلات البحرية إلى أقوى سلاح في العالم؟
تُصنع الكابلات البحرية من معادن نقية مغطاة بالبولي إيثيلين (البلاستيك)، وتحيط في النهاية بزوجٍ من الألياف البصرية (أو خيوط الألياف الزجاجية) التي تمر عبرها المعلومات المشفرة في شكل نبضات ضوئية، وبسرعة تصل إلى 200,000 كلم/ثانية تقريباً.
تقول صحيفة The Telegraph البريطانية إن صناعة الألياف البصرية شهدت تحقيق تقدم استثنائي منذ تركيب أول كابل ألياف بصرية في المحيط الأطلسي، TAT-8، ليربط بين الولايات المتحدة وأوروبا عام 1988. وسمح ذلك الكابل بإجراء 40 ألف مكالمة هاتفية في آنٍ واحد، بينما سنجد اليوم أن كابل الإنترنت الثاني العابر للقارات من شركة جوجل، Dunant، يستطيع استيعاب خمسة مليارات مكالمة هاتفية في الثانية. ويتكلّف مدّ هذه الكابلات مئات الملايين من الدولارات، لكنها تظل أرخص من حفر الخنادق الأرضية بعشرة أضعاف تقريباً.
خارطة الكابلات البحرية تتوسع والسرية "أفضل وسيلة لحمايتها"
اليوم يرسم لنا أطلس طرق المعلومات السريعة شبكةً غير مستوية، تتراوح من المراكز جيدة الخدمات، مثل جيبوتي في شرق إفريقيا وقناة السويس ومضيق ملقا الرابط بين بحر أندامان وبحر الصين الجنوبي، وصولاً إلى المناطق المهجورة مثل القطب الشمالي والمياه المقابلة لسواحل كوريا الشمالية.
وسنجد أن بعض الكابلات قصيرة للغاية، ومنها كابل أمريكو فسبوتشي، الذي يمتد لنحو 85 كلم بين جزيرتين قبالة سواحل فنزويلا. بينما توجد كابلات طويلة للغاية مثل كابل SEA-ME-WE-3، الذي يمتد لمسافة 39,000 كلم ليربط شمال أوروبا بأستراليا. وتنمو شبكة الكابلات العالمية هذه بسرعة، إذ من المتوقع أن يصل عدد الكابلات العاملة إلى 1000 كابل بحلول 2030.
وتقول الصحيفة البريطانية إن هذه الصناعة مزدهرة اليوم، فالشركات العاملة في هذا المجال تواصل البناء على مدار الساعة. وينمو حجم المبيعات الإجمالي بنسبة 11% سنوياً، كما من المتوقع أن يبلغ 22 مليار دولار بحلول 2025، لكننا لا نعرف سوى القليل عن هذه الصناعة نسبياً، لأنها تفضل البقاء بعيدةً عن الأنظار في الواقع، حيث قال أحد المهندسين المتخصصين لصحيفة تليغراف: "إن عدم الحديث عن الكابلات البحرية هو أفضل الطرق لحمايتها".
شركات تمتلك كابلاتها البحرية الخاصة
فيما يتمحور هذا القطاع حول ملاك تلك الكابلات من شركات اتصالات (مثل Deutsche Telekom وAT&T وTelecom Italia وVodafone وOrange)، وشركات مصنعة (مثل Alcatel Submarine Networks وSubCom وNEC)، وشركات السفن التي تمَدُّ وتصلح البنية التحتية (مثل Global Marine Systems Ltd). لكن شركات التقنية الأمريكية الخمس الكبرى المعروفة باسم فانغ (فيسبوك وأمازون وآبل ونتفليكس وجوجل) صارت لديها كابلاتها البحرية الخاصة الآن، ما يمثل تعطيلاً حقيقياً لتجارة شركات الاتصالات.
إذ تمتلك فيسبوك على سبيل المثال فريقاً خاصاً مكلفاً بوضع أساساتها البحرية. وهناك سبب وجيه لذلك، وترجع جذوره إلى عام 2013. ففي غضون بضع ساعات من إطلاق الشبكة الاجتماعية لخاصية تشغيل الفيديو التلقائي، "استهلكت الخاصية قدراً كبيراً من النطاق الترددي، لدرجة أن البنية التحتية لتقنية المعلومات في الشركة أوشكت على الانهيار"، بحسب ما ذكره أخصائي في الاتصالات البحرية.
ومنذ ذلك الحين، اضطر صناع الكابلات لاستيعاب عدد متزايد من عمالقة الإنترنت الراغبين في السيطرة على وسائل نقل محتواهم. ويقول أحد الخبراء: "كانت مجموعة شركات فانغ تمتلك حصةً سوقية تقدر بـ5% قبل ثلاث سنوات. واليوم صارت تلك الشركات تستحوذ على 50%، ومن المتوقع أن تزيد النسبة إلى 90% خلال السنوات الثلاث المقبلة".
لكن القوة الحقيقية ليست في يد ملاك ومصنعي تلك الكابلات، بل في يد الدول التي تمر الكابلات عبر أراضيها، إذ تجني تلك الدول أموالاً هائلة بالفعل، علاوة على لعب دور حيوي في تحديد وتغيير موازين القوى العالمية.
قناة السويس أكبر موقع استراتيجي للكابلات البحرية
ولطالما كانت مصر تتمتع بموقع استراتيجي محوري على خريطة توجيه الكابلات، حيث توفر قناة السويس أقصر مسار لنقل البيانات بين أوروبا وآسيا. بينما تُحصِّل مصر ملايين الدولارات كرسوم من شركات الاتصالات منذ عقود. وقال أحد خبراء صناعة الكابلات البحرية مستاءً: "إن تكلفة المرور لمسافة 200 كلم داخل مصر تساوي تكلفة مد كابل ألياف بصرية من سنغافورة إلى فرنسا" (لكنه كان يبالغ في الأرقام على الأرجح) كما تقول صحيفة تليغراف.
وتوصلت جوجل إلى حل بديل من ناحيتها، إذ تخطط في عام 2024 لتمرير كابل Blue-Raman (الواصل بين الهند وإيطاليا) عبر طرق بديلة، حيث سيمتد أحد أجزائه من الهند إلى الأردن مروراً بالسعودية، بينما سيلتقط الجزء الثاني الإشارة ليمر من "إسرائيل" إلى إيطاليا. وعلاوةً على خفض تكلفة النقل بمقدار النصف، سيؤدي هذا الكابل إلى تنويع مسارات الطرق السريعة للمعلومات، ولن تعود بيانات طرق المعلومات السريعة "تحت رحمة مصر" فقط حينها.
الكابلات البحرية العالمية تكشف واقعاً جيوسياسياً جديداً
ومن المنطلق نفسه، سيمر كابل Epeg الخاص بشركة Vodafone عبر دولة إيران، ولهذا فإن إعادة ترسيم خريطة الكابلات البحرية العالمية تكشف عن واقع جيوسياسي جديد. حيث سيسمح ذلك الواقع للعديد من الدول والمناطق بالاستفادة من مواقعها المميزة، وهذا يشمل قناة السويس وبريطانيا ومضيق ملقا وجيبوتي وولاية واشنطن الأمريكية، لكن هذه النقاط الساخنة في كوكبنا معرضة لخسارة حصتها أيضاً بالتزامن مع سعي دول أخرى لتوسيع نطاق شبكة الويب، ومنها دول أستراليا وفرنسا والبرازيل التي اتصلت بالبرتغال مؤخراً دون المرور بالولايات المتحدة، كما هو متعارف عليه.
ولاحظ المراقبون أن استمرار تنويع الشبكة يأتي مصحوباً بتراجع نسبي في هيمنة الولايات المتحدة على معمارية الإنترنت. وقد تكرر الأمر ذاته مع المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي على نطاق أوسع، بالتزامن مع مواجهتهما لمنافسة متزايدة من الكابلات الآسيوية التي تنقل البيانات الإفريقية.
ومن مصلحة كل الدول ألا تجلس على مقاعد البدلاء، بل أن تصبح مركزاً لإنترنت الألياف البصرية الذي ينمو دون توقف، وذلك من أجل خدمة نفوذها ونموها الاقتصادي.
وهناك الكثير من الكابلات الممتدة في منطقة الشرق الأقصى وأوراسيا. ولا شك أن الدولة التي لا يمكن اتهامها بالجلوس على مقاعد البدلاء هنا هي الصين. إذ تستخدم الصين طرقها السريعة البحرية لإحداث تحول تدريجي في موازين القوى من الدول والشركات الغربية إلى "الجنوب العالمي".
حيث يُعتقد أن بكين شغّلت- أو تعمل حالياً على تشغيل- شبكات ألياف بصرية في 76 دولة، بدايةً بأقرب جيرانها ووصولاً إلى أمريكا اللاتينية. ويُعد كابل PEACE خير شاهدٍ على ذلك بعد أن ربط في عام 2022 بين مدينتي كراتشي في باكستان ومارسيليا في فرنسا.
الطموح الصيني
وتريد الصين تحقيق ثلاث نتائج أولها تمديد مصالحها الاقتصادية، إذ إن مضاعفة حجم شبكات الألياف البصرية سيُتيح للصين تقديم الخدمات الرقمية من مجموعة شركات باتكس (بايدو وعلي بابا وتينسنت وشاومي) إلى العالم بأسره. يُذكر أن مجموعة شركات باتكس تصل قيمتها التجارية الإجمالية إلى 1,885 مليار دولار.
أما النتيجة الثانية فهي توسيع نطاق نموذجها الاقتصادي، إذ يسمح طريق الحرير الرقمي لبكين بأن تسوق تقنياتها الخاصة بالمراقبة حول العالم. وثالث النتائج التي تريد الصين تحقيقها هو ضمان حماية مصالحها الأمنية، حيث إن امتلاك الصين لبنية اتصالاتها التحتية سيساعدها في التصدي لما تراه هيمنة "غير مقبولة" من الغرب على معمارية الإنترنت المركزية.
وذكر أحد الباحثين أن الخبراء الاستراتيجيين في الحزب الشيوعي الصيني لديهم قناعة بأن "النضال من أجل الهيمنة على المعلومات سيؤثر بشكلٍ كبير على نتائج الحروب المستقبلية".
ويُعد دور كابلات الألياف البصرية في توسيع القوة الناعمة الصينية ضرورياً، وربما يكون حاسماً أيضاً، بالنظر إلى حجم البنية التحتية التي شُيِّدت بطول طرق الحرير الجديد. إذ قال جين دافوس، المدير السابق لشركة Alcatel Submarcom، إن "نقل المواد الخام مهم، لكن نقل البيانات صار أكثر أهمية".
وتتطور الأحداث سريعاً على هذا الصعيد، إذ يتعين على الصين الآن تأمين البنية التحتية لكابلاتها الخاصة بطريق الحرير الرقمي، والتي ستكون هدفاً مثالياً في حال اندلاع صراع. بينما أدرك الغرب هذا التحدي بالتزامن مع انشغاله بتأمين طرقه السريعة الخاصة بالمعلومات.
إذ لفت ريشي سوناك الأنظار إلى هذا الخطر في تقرير نُشِرَ عام 2017، قبل وقتٍ طويل من توليه رئاسة الوزراء، حيث كتب الأدميرال جيمس ستافريديس في مقدمة التقرير إن "الخطر الذي تواجهه… الاتصالات التي تحمل كل شيء، بدايةً من الاستخبارات العسكرية ووصولاً إلى البيانات المالية العالمية، هو خطر حقيقي وينمو كل يوم". وأردف الأدميرال أن أبسط هجوم على تلك الكابلات سيكون "كارثياً على الأرجح".
وأشار التقرير كذلك إلى أن روسيا لن تتورع عن قطع كابلات الاتصالات، كما فعلت عندما غزت شبه جزيرة القرم، من أجل السيطرة على تدفق المعلومات في زمن الحرب. وتستطيع موسكو أيضاً استخدام غواصاتها للتجسس على الكابلات التي تنقل المعلومات.
وتتعرض مصالح الصين المادية الجديدة لهجمات منتظمة بالفعل، ويتجلى هذا بطول الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، الذي يتألف من شبكة ربط تمتد لـ3000 كلم، ويضم بنيةً تحتية للطرق والسكك الحديد والكهرباء، حيث يربط الممر بين ولاية كاشغار في سنجان وميناء جوادر في باكستان.
ويسير هذا الممر بطول امتداد كابل PEACE، لكن الممر -والكابل- يمران بمناطق غير مستقرة بدايةً بمنطقة بلوشستان في باكستان، وتتعرض مصالح الصين هناك لهجمات متكررة من تنظيم الانفصاليين البلوش.
هدف سهل للتخريب
وبعيداً عن مسألة التخريب المتعمد، سنجد أن الكابلات البحرية معرضة للأضرار العرضية أيضاً، سواء بسبب البيئة أو السفن أو الحياة البحرية، إذ يجري الإبلاغ عن قرابة الـ150 حالة تلف في الكابلات سنوياً، وتُشكل مراسي القوارب وسفن الشحن التهديد الأول على البنية التحتية للإنترنت، وهو تهديد أكبر من مزارع الرياح البحرية وأنشطة الحفر في المياه العميقة. وتتمثل المشكلة في أن قبطان السفينة (أو شركة التأمين) يتعين عليه تحمل تكلفة الإصلاح، التي قد تصل إلى مليون دولار أمريكي، ما يعني أن تعايش الصيادين مع تلك الكابلات ليس هادئاً طوال الوقت.
علاوةً على أن زيادة الأعاصير تزيد سوء التحولات التي تحدث في قاع البحر، وتُقوض قطاعات بعينها من شبكة الويب. وبعدها تأتي الأضرار الناجمة عن الحياة البحرية، مثل القروش التي تستطيع عضاتها اختراق عزل الكابلات. وذكر أحد الخبراء أنهم "عثروا ذات مرةٍ على سن سمكة قرش مغروساً في أحد الكابلات".
ويمثل "مخربو البحر" مصدر خطرٍ آخر أيضاً، ففي عام 2007 مثلاً، اشتهرت مجموعة "قراصنة" بسبب استخراجهم جزءاً طوله 11 كلم من نظام كابلات T-V-H (الرابط بين تايلاند وفيتنام وهونغ كونغ) قبالة ساحل فيتنام، وذلك بهدف بيع المعادن المستخرجة منه كخردة.
ونتيجةً لكل ذلك، سنجد أن "فرق طوارئ المحيطات" تواصل ترقيع الكابلات باستمرار، وإرسال الغواصات التي يمكنها تحديد القطاعات المتضررة من أجل استبدالها. بينما حذر خبير كابلات بحرية قائلاً: "إذا لم تقضِ السفن وقتها في إصلاح الكابلات، فسوف تنهار شبكة الإنترنت العالمية في غضون شهور".
ما الذي يحمله المستقبل للكابلات البحرية؟
لا خلاف على أن الصين ستمضي في طريقها لإكمال مشروع طريق الحرير الرقمي، لكن صعود صناعة الكابلات على المدى القصير لا يستوجب اعتماد الغرب على البنية التحتية "المصنوعة في الصين" بالضرورة.
ويُمكن القول إن مصدر القلق الأهم في الغرب يتمثل في استقرار الصناعة، التي تُعد مخصخصةً بشكلٍ شبه كامل، وذلك بالنظر إلى مدى صغر حجمها في الوقت الحالي، وهل سيظل النموذج الاقتصادي لصناعة الكابلات مستداماً من الأساس؟ أما على المستوى العالمي، فسنجد أن الصناعة تعتمد على نحو 30 سفينة عابرة للمحيطات من أجل مد الكابلات، وهي مقسمة بشكلٍ أساسي بين ثلاثة أطراف رئيسية: شركة Alcatel Submarine Networks الفرنسية، وشركة SubCom الأمريكية، وشركة NEC اليابانية. ويقول برتراند سليسكا، مستشار الاتصالات البصرية: "تعتمد البنية التحتية العالمية على شركات توريد ليست مستدامة في الواقع".
وفي حال مرت تلك الشركات بأوقات عصيبة، فربما تقرر مجموعة شركات فانغ تعطيل حرب أسعارها حتى تتجنب "إغراق" شركائها الاستراتيجيين. ويفضل سليسكا الاعتقاد بأن شركات فانغ "ربما درست فكرة شراء إحدى شركات مد الكابلات في أسوأ السيناريوهات". لكن الخطر الناجم عن ذلك قد يكمن في أن الدول ستجد نفسها تابعةً لتكتلات الشركات الخاصة القوية، والتي لن تتقاطع احتياجاتها المالية مع اعتبارات الأمن القومي بالضرورة.
فإلى أي مدى ستصل سيطرتهم على إطار عمل شبكة الإنترنت؟ وما نوع المواقف التي سيجد الغربيون أنفسهم فيها نتيجة ذلك الاعتماد على الشركات النافذة؟ لا تزال إجابات هذه الأسئلة غير واضحة.
وكما قال أحد خبراء الاتصالات: "نحن نشهد حالياً مرحلة خصخصة جزء من الإنترنت بواسطة مجموعة من الشركات، ولا يبدو أن الأمر يثير قلق أحد". أما بالنسبة لكل مقاطع فيديو القطط ومنشورات الصور المتحركة وميمات الإنترنت السخيفة؛ فيجب على مستخدمي الإنترنت إدراك أن هذا المرح والألعاب يخفيان خلفهما صراعاً على النفوذ بين الشركات الكبرى والدول، وأن هذا الصراع يتسارع بوتيرة مذهلة.