عرفت الفترة الأخيرة زيارة عدد من المسؤولين الأتراك للعاصمة العراقية بغداد، وكانت الزيارة الأهم التي قام بها وزير الخارجية التركي هاكان فيدان لبغداد أغسطس/آب 2023، والتي استغرقت ثلاثة أيام، وهي الزيارة الدبلوماسية التركية الأكثر شمولاً للعراق منذ عقود.
ومن أبرز ما يميز هذه الزيارة هي لقاءات هاكان فيدان، وزير الخارجية التركي بعدد كبير من الجهات الفاعلة من مختلف الطيف السياسي في العراق، فما الذي دار في هذه اللقاءات؟ وهل نشهد مساراً جديداً لتحسين العلاقات بين الجارتين؟
تفاصيل زيارة هاكان للعراق
كشفت مصادر عراقية لـ"عربي بوست" أن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان اجتمع خلال زيارته مع كبار قادة الحشد الشعبي العراقي خاصة الموالين لايران، بالإضافة إلى هادي العامري رئيس تحالف فتح المدعوم من إيران أيضاً.
وحسب المصادر نفسها، فإن وزير الخارجية التركي التقى أيضاً رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي (2006:2014)، بالإضافة إلى اجتماعاته مع رئيس الوزراء العراقي الحالي محمد شياع السوداني، ووزير الخارجية العراقي وعدد من المسؤولين الحكوميين.
يقول قيادي بارز في هيئة وحدات الحشد الشعبي ومقرب من هادي العامري، لـ"عربي بوست"، إن "فيدان التقى بقيس الخزعلي وفالح الفياض، وهادي العامري، بالإضافة لعدد من قادة الفصائل، لمناقشة العديد من القضايا، وكان على رأسها قضية حزب العمال الكردستاني".
وأضاف المصدر ذاته، الذي كان حاضراً لاجتماع فيدان مع قادة الحشد الشعبي: "اللقاء كان إيجابياً بشكل كبير، هناك توجه تركي لتحسين العلاقة الثنائية بين البلدين، وهذا ما شجع القادة والمسؤولين العراقيين على المضي قدماً في حل القضايا العالقة بين البلدين بشكل يناسب جميع الأطراف".
كما أشار المصدر السابق إلى أن اجتماعات هاكان فيدان مع قادة الحشد الشعبي تمثل تطوراً جديداً في مسار العلاقة الثنائية بين أنقرة وبغداد قائلاً: "جلوس وزير الخارجية التركي مع قادة الفصائل والسياسين البارزين في بغداد، كان بمثابة بادرة جيدة للغاية، وعبر عن رغبة قوية من قبل أنقرة على حل القضايا الخلافية مع بغداد، وهذا ما قدره القادة العراقيون".
عندما كان هاكان فيدان يتولى منصب رئيس المخابرات التركية قبل توليه وزارة الخارجية في يونيو/حزيران 2023، التقى بالعديد من قادة الفصائل المسلحة الشيعية في العراق، لكن اجتماعاته معهم في منصبه الدبلوماسي الجديد، كما أنها أعطت بعداً جديداً لتطور العلاقة بين أنقرة وبغداد.
يذكر أن العلاقة بين الفصائل العراقية الشيعية المدعومة من إيران وبين أنقرة كانت غير جيدة في كثير من الأحيان، بسبب دعم هذه الجماعات لحزب العمال الكردستاني التي تصنفها تركيا منظمة إرهابية.
مناقشة القضايا الخلافية
على مر السنين كانت العلاقات بين تركيا والعراق غير مستقرة لوجود العديد من الخلافات بين البلدين حول عدد من القضايا الجوهرية، ولا سيما تلك المتعلقة بحزب العمال الكردستاني، الذي تقول أنقرة إن حكومة بغداد لا تتعامل بحزم مع تواجده داخل أراضيها وما نتج عن ذلك من تشكيل تهديد للدولة التركية.
وفي المقابل، يرى القادة العراقيون الهجمات التركية المتكررة لضرب مقاتلي حزب العمال الكردستاني داخل الأراضي العراقية انتهاكاً صريحاً للسيادة العراقية، بالإضافة إلى الصراع السوري وقضايا النفط والمياه.
لكن خلال زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان الأخيرة إلى العراق، تم تناول جزء كبير من هذه القضايا ومناقشتها مع القادة والمسؤولين العراقيين.
يقول قيادي في الحشد الشعبي العراقي ومقرب من قيس الخزعلي زعيم فصيل عصائب أهل الحق لـ"عربي بوست" إن "الأتراك مهتمون للغاية بقضية حزب العمال الكردستاني، خاصة بعد الاتفاقية الأمنية بين طهران وبغداد ونقل الجماعات الكردية الإيرانية المعارضة بعيداً عن الحدود الايرانية".
وأضاف المتحدث في تصريحه أن تركيا، ومن خلال زيارة وزير خارجيتها إلى العراق، تسعى أن تعقد اتفاقية أمنية مشابهة بتلك التي وُقعت بين إيران والعراق، وذلك بغرض إبعاد جماعات حزب العمال الكردي من الحدود.
وبحسب المصدر نفسه، فإن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان طلب من القادة العراقيين صراحة التعامل المباشر مع حزب العمال الكردستاني من أجل تصفية الخلافات بين بغداد وأنقرة، والبدء في التعاون التجاري والاستثماري واسع النطاق كما قال هاكان فيدان.
وأضاف المصدر ذاته قائلاً لـ"عربي بوست": "بصراحة اجتماع فيدان مع قادة الحشد الشعبي، خلق لديهم انطباعاً جيدا، جعلهم يفكرون في الطلب التركي لأول مرة تقريباً، لكن المسألة ليست بهذه السهولة".
وتربط الفصائل الشيعية المسلحة المدعومة من إيران في العراق علاقة جيدة مع حزب العمال الكردستاني، الذي لجأت إليه في كثير من الأحيان لمقاتلة تنظيم الدولة الإسلامية الذي اجتاح العراق في صيف عام 2014، وتوفر له ملاذاً آمناً داخل الأراضي العراقية.
تردد الفصائل الشيعية وموافقة السوداني
من جهة أخرى، تقول مصادر عراقية تحدثت لـ"عربي بوست" إن مسألة التعامل مع حزب العمال الكردستاني التي تطلبها الحكومة التركية، هي قضية معقدة مرتبطة بدول إقليمية أخرى كإيران، لكن في نفس الوقت وصفت المصادر التعامل العراقي مع الطلب التركي بأنه أشبه بـ"الصفقة".
في هذا الصدد قال مصدر سياسي مقرب من قادة الحشد الشعبي العراقي إن "هناك تردداً كبيراً بين قادة الحشد فيما يخص المطلب التركي، فمن ناحية لا يمكنهم إنهاء وجود حزب العمال الكردستاني بالكامل من العراق، فهم يحتاجون إلى مقاتلي الحزب لهم دراية بالجبال والطرق الوعرة".
ومن ناحية أخرى، حسب المصدر الذي تحدث لـ"عربي بوست" يخص التعاون التجاري ورغبة أنقرة بزيادة الاستثمارات التركية في العراق، هذا الأمر سيكون نقطة إيجابية في تاريخ حكومة السوداني التي تدعمها الفصائل الشيعية.
ويضيف المصدر ذاته قائلاً لـ"عربي بوست": "لكن لا يمكن إنكار أن زيارة فيدان وجلوسه مع قادة الفصائل جعلهم يفكرون في الأمر، في السابق كانوا يرفضون المطالب التركية الخاصة بحزب العمال الكردستاني من البداية".
مقابل ذلك، قال مسؤول أمني عراقي رفيع المستوى ومقرب من قادة هيئة الحشد الشعبي: "من الصعب إنهاء تواجد حزب العمال الكردستاني تماماً من العراق، ومن الصعب أيضاً نسخ الاتفاقية الأمنية مع إيران؛ لأن العلاقة بين حزب العمال الكردستاني والفصائل المسلحة الشيعية المدعومة من إيران قوية، وبينهم العديد من الملفات الأمنية التي يتعاونون فيها".
ويضيف المصدر ذاته قائلاً: "لكن من الممكن السيطرة على نشاط حزب العمال الكردستاني ضد الحكومة التركية، لكن هذا الأمر سيكون بشروط من قبل الحشد الشعبي".
وفي تصوره عن هذه الشروط يقول المتحدث لـ"عربي بوست": "من الممكن أن تطلب الفصائل من مقاتلي حزب العمال الكردستاني وقف الهجمات ضد الحكومة التركية مقابل وقف أنقرة لهجماتها لمراكز حزب العمال الكردستاني داخل العراق".
وفي إشارة لنفس المسألة يقول القيادي في هيئة الحشد الشعبي، لـ"عربي بوست" إن "وقف الهجمات التركية مسألة مهمة بالنسبة للقادة والمسؤولين العراقيين، لأنها تمس سيادة بلادنا، القضية ليس بالمستحيل حلها، خاصة مع اتجاه الحكومة العراقية الحالية نحو جذب الاستثمارات، سيكون التعاون الاقتصادي مع تركيا مفيداً، لكن يلزمنا الوقت للتفكير في حل وسط يرضي جميع الأطراف".
وأضاف المصدر ذاته قائلاً: "نعمل الآن على إيجاد حل جزئي لقضية حزب العمال الكردستاني، وليس اتفاقاً شاملاً ولكنه حل يمكننا البدء منه والانطلاق لحل باقي الخلافات، وسنقوم بإبلاغ الأتراك بهذا الحل في المستقبل القريب والتفاوض معهم".
أما بالنسبة لحكومة محمد شياع السوداني، فإنها تدعم بشكل كبير حل أزمة حزب العمال الكردستاني مع تركيا، بحسب مصدر مقرب من رئيس الوزراء العراقي، الذي تحدث لـ"عربي بوست".
وقال المتحدث إن "السوداني يرغب بشدة في توسيع التعاون الاقتصادي مع تركيا، كما أنه يرى أنه آن الأوان لحل قضية حزب العمال الكردستاني واستهدافه للحكومة التركية من الأراضي العراقية، لأنه يهدد الأمن القومي العراقي، لذلك يحاول حالياً سلك كل الطرق لإقناع باقي الأطراف والشركاء السياسيين بإيجاد حل لهذه الأزمة مع الحكومة التركية".
طريق التنمية
تدعم أنقرة طريق التنمية الذي أعلنت عنه الحكومة العراقية في الفترة الأخيرة، لذلك انضم وزير التجارة التركي عمر بولات إلى وزير الخارجية هاكان فيدان في زيارته لبغداد، لتأكيد موقف بلاده الداعم لمشروع طريق التنمية.
بجانب هذا الدعم، تواجه أقرة مشكلة من الجانب العراقي الذي يصر على استبعاد حكومة إقليم كردستان العراق من هذا المشروع.
في هذا الصدد، يقول مسؤول حكومي عراقي مقرب من الإطار التنسيقي الشيعي الحاكم لـ"عربي بوست": "في التخطيط لمشروع طريق التنمية قامت حكومة بغداد بعد الاجتماعات مع قادة الإطار التنسيقي والشركاء السياسيين للحكومة باستبعاد مرور خطوط النقل التابعة لهذا المشروع من الأراضي الكردية في شمال العراق".
ويضيف المصدر ذاته قائلاً: "من المقرر فتح معبر حدودي جديد يربط العراق بتركيا مباشرة مع استبعاد إقليم كردستان، وهذا الأمر يسبب حرجاً للحكومة التركية الداعمة للمشروع بسبب علاقتها الجيدة مع الحزب الديمقراطي الكردستاني".
ويشرح المسؤول الحكومي العراقي الأمر أكثر لـ"عربي بوست"، قائلاً: "الأكراد غاضبون من استبعاد أراضيهم من مشروع طريق التنمية، لأنه سيضر بحجم التجارة بينهم وبين الحكومة التركية، وهذا ما تحاول أنقرة حله مع حكومة بغداد، وقد طرح فيدان هذا الأمر في لقاءاته بالمسؤولين والقادة العراقيين".
وبحسب المصادر المقربة من قادة الحشد الشعبي، التي تحدثت لـ"عربي بوست" فإنه إلى الآن يصر قادة الحشد الشعبي والسياسيون العراقيون من الإطار التنسيقي الشيعي على استبعاد حكومة إقليم كردستان من مشروع طريق التنمية واللجوء إلى الربط البري المباشرة مع تركيا.
في هذا الصدد، يقول مصدر سياسي مقرب من قادة الحشد الشعبي لـ"عربي بوست" إن "القادة العراقيين لا يثقون في نظرائهم الأكراد فيما يخص هذا المشروع، يعلمون وضع تركيا من هذا الأمر بسبب العلاقة الجيدة بينها وبين الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يرغب بشدة في المشاركة في هذا المشروع، لكن القادة في بغداد لديهم الكثير من المخاوف من إشراك الأكراد في هذا المشروع".
ويضيف المصدر ذاته قائلاً: "الأجنحة المسلحة للإطار التنسيقي الشيعي هي من ستقوم بتأمين هذا المشروع بجانب القوات العراقية، وإذا مر هذا الطريق من الأراضي الكردية لن يقبل الأكراد بتواجد الحشد الشعبي في أراضيهم، وهذه نقطة مهمة في هذا الملف".
وترى أغلب المصادر العراقية التي تحدثت لـ"عربي بوست" خلال هذا التقرير أن هناك فرصة جيدة لتحسين العلاقات بين تركيا والعراق، وأن الوقت قد حان لتسوية الخلافات بينهما، خاصة فيما يتعلق بحزب العمال الكردستاني المتواجد داخل الأراضي العراقية.
من جهتها، ترى مصادر أخرى تحدث لـ"عربي بوست" أن زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كانت مثمرة وايجابية، لأن أنقرة قررت التعامل مع جميع الأطراف المؤثرة في السياسية العراقية.
في هذا الصدد، يقول مسؤول حكومي مقرب من رئيس الوزراء العراقي، لـ"عربي بوست": "كل من الحكومة التركية والعراقية تحتاجان إلى تسوية النزاعات في أسرع وقت، من أجل التفرغ للمشاريع التنموية والاقتصادية، لذلك الأمل يزداد في حل الخلافات في وقت أسرع من قبل".