لا يمكن الخوض في موضوع النهوض الحضاري دون العروج لزوماً على ميكانيزمات هذا النهوض والعلوم المحركة له.
ولعل ما قد يتفق عليه الباحثون أنه لا وجود لدولة برزت حضارياً وفرضت وجودها اقتصادياً وسياسياً، دون أن تكون قد أولت اهتماماً بثروتها البشرية، فوظفت ما تملكه من موارد بشرية ومادية خدمة لقطاع التربية والتعليم، باعتباره الأساس لأي نهضة.
السياسة التعليمية للدولة تتدخل في رسمها عدة عوامل، من أبرزها تطورات العلاقات الدولية، والمرجعية التاريخية، والدينية، والانتماء الجغرافي. وهذا ما ينعكس بالضرورة على المناهج الدراسية والدروس المتناولة في المقررات التعليمية، فمن خلال هذه الدروس نبني تصوراً عن الآخر، والأفكار المختلفة، والأديان الأخرى ومعتنقيها، إذن تصبح صورة الآخر في مخيلة التلاميذ، من صناعة مَن سطّر المنهج والأفكار التي يصبو زرعها في تلك الناشئة.
فنجد أن المناهج الدراسية تتأثر بالتاريخ السياسي للمنطقة، فعلى سبيل المثال نجد مناهج تعليمية ترسخ الفكر الطائفي والعدواني تجاه الآخر كمناهج دولة الاحتلال الإسرائيلي، والتي تسعى من خلالها إدارة الاحتلال لزرع المزاعم التوراتية بتفسيراتها الأسطورية في صفوف الناشئة.
وهو ما يجعل المدرسة ومناهجها مصدراً لبث روح الكراهية والروح العسكرية لدى أطفالها، عن طريق إضفاء القداسة على الفكر الصهيوني. وهو ما جعل دولة الاحتلال تشجع الكتابات في المجال، خصوصاً تلك الموجهة للأطفال، لتسعى من خلالها إلى أن ترسم صورة مشوهة عن العرب تذكي فكرة التفوق العرقي وتزيد من كره الآخر.
الأمر نفسه نجده في مناهج التعليم الفرنسية، فبرغم ادعاء الدولة لقيم الإخاء، والمساواة، الإنسانية والحرية، يبدو أنها لم تستطع التخلص من إرثها الاستعماري، فنجد مناهجها تعمل على زرع فكرة رقي العرق الفرنسي، وكونه مخلص دول العالم الثالث من الجهل والتخلف، وربما ذلك ما يفسر العنصرية المتزايدة في فرنسا، فضلاً عن موقفها السلبي من الإسلام، وهذا ما كان قد أقره رأس السلطة الفرنسية، إيمانويل ماكرون، بقوله إن المشكلة الاجتماعية في فرنسا دينية بالمقام الأول، فيرى الإسلام كأصل لظواهر عديدة مرفوضة.
وربما هذا ما يترجم محاولة الدولة المستمرة التضييق على المسلمين، مثل قرارها الأخير منع ارتداء الطالبات المسلمات للعباءة في المدارس، بحجة أنها لباس يتعارض مع مبادئ العلمانية بالدولة، بينما في الوقت ذاته تدافع فيه عن انتشار المثلية، بدعوى دعم الأقليات المضطهدة وحماية حقها في الاختيار.
رغم تطور المناهج الدراسية الفرنسية، ومحاولاتها إظهار انفتاحها وتقبلها للآخر، فإنها ما تظل حبيسة لازدواجيتها ونظرتها الاستعمارية الاستعلائية لدول الجنوب و المسلمين عموماً.
في هذا السياق أخذت الدكتورة مارلين نصر، خلال كتابها "صورة العرب والإسلام في الكتب المدرسية الفرنسية"، في تحليل بموضوعية وعمق، صورة العرب والإسلام كما تبدو في الكتب المدرسية الفرنسية المخصصة للمواد غير العلمية المعتمدة في فرنسا.
ولاحظت هذه السمة الاستعلائية ونبذ الآخر وكم تتشبع بها تلك النصوص بدءاً من الصفوف الابتدائية، ففي القصص المعتمدة بالمقررات الفرنسية نجد التباين الكبير بين العربي والفرنسي، فنجد في كتب التاريخ للمرحلة الابتدائية أن غالبية المؤلفين يستخدمون خطاباً مشبعاً بالروح القومية ويقوم على التمركز على الذات، وذلك في الحلقات التي تعرض للعلاقات بين فرنسا وأوروبا من ناحية والعرب والإسلام من ناحية أخرى.
فنجد خلال المناهج الابتدائية أن العرب يأتون دائماً في شكل سلبي، "العرب متأخرون لصوص نهابون"، بينما في مناهج المرحلة الثانوية فيأتي ذكرهم بكونهم "أعداء" أو "خاضعين". حيث يظهر العرب دائماً في تلك المناهج يتمتعون بسمات الدونية الأخلاقية: (جبن، خوف، تخلف وسذاجة، عمال كسالى، وأُجراء لدى الفرنسيين)، بينما الفرنسيون دائماً (شجعان، قادة، سادة).
ورغم مرور ما يزيد على 20 سنة من تأليف الكتاب، لم يتغير شيء في سياسة التعليم الفرنسية، سوى تعويض بعض النصوص المعبرة عن ذلك، بشكل صريح إلى أخرى ضمنية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.