يُعدّ تعيين السفير السعودي فوق العادة في الأراضي الفلسطينية وقنصلاً غير مقيم في القدس، خطوة نادرة من نوعها، لا سيما من حيث توقيتها الذي جاء متزامناً مع تسارع الخطى لإبرام اتفاق تطبيع مع إسرائيل، بالإضافة إلى أنها الأولى منذ عام 1994، ما يثير تساؤلات عن دلالات هذه الخطوة بالنسبة للفلسطينيين والإسرائيليين.
نايف بن بندر السديري يعدّ أول سفير للرياض ومبعوث لها في الأراضي الفلسطينية منذ عقود، وجرت المراسم بمقرّ السفارة الفلسطينية بالعاصمة الأردنية، ونشر حساب السفارة السعودية في عمان صوراً لتسليم السفير السديري أوراق اعتماده.
خطوة غير مسبوقة
أتت هذه الخطوة السعودية بعد أيام فقط من تصريحات ولي العهد محمد بن سلمان، أشار فيها بوضوح لاهتمامه البالغ بالقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، وأخرى لوزير الخارجية فيصل بن فرحان بخصوص أهمية القضية الفلسطينية، ودعم حلّ الدولتين، بما يفضي لإقامة دولة فلسطين.
تعد الخطوة السعودية هي الأولى من نوعها منذ تأسيس السلطة الفلسطينية قبل قرابة 30 عاماً في 1994، مع أن القنصلية السعودية العامة في حي الشيخ جراح بالقدس واصلت تقديم خدماتها للفلسطينيين منذ 1948 وحتى احتلالها في 1967، لكنها أغلقت إثر احتلالها، وحوّل الاحتلال مقرّها مكتباً لجهاز الأمن العام- الشاباك.
يوجد حالياً لدى السلطة الفلسطينية سفارات عربية عدة تمتلك مستويات مختلفة من العلاقات مع إسرائيل، مثل الأردن ومصر وسلطنة عمان والمغرب وتونس والإمارات، واليوم تضاف السعودية.
ولا يستطيع أي سفير ودبلوماسي عربي أو أجنبي دخول الأراضي الفلسطينية إلا عبر طريقين: جوّاً عبر مطار اللد الدولي "بن غوريون"، أو براً عبر المعبر البري بين الأردن والضفة الغربية، وفي الحالتين لا بدّ من التوقيع الإسرائيلي على جواز سفره، وهذا الأمر لطالما يثير حفيظة الفلسطينيين الذين يعتبرونه يحمل اعترافاً ضمنياً أو صريحاً بالوجود الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
دلالات تعيين السفير السعودي بالنسبة للفلسطينيين
تأتي الخطوة السعودية، في حين تواجه السلطة أقسى أزمة مالية عرفتها منذ سنوات طويلة، بالإضافة إلى تدني شعبيتها داخلياً، فيما لا تتوانى الحكومة الإسرائيلية الحالية عن اتخاذ مزيد من الخطوات لإسقاطها، والتسبب في انهيارها، وفق اتهامات مسؤولين فلسطينيين.
وشهدت الفترة الماضية قبيل تعيين السفير السعودي السديري اجتماعات مكثفة بين عباس ومساعديه البارزين للتشاور حول التعامل مع التطبيع السعودي الإسرائيلي، لاستخلاص تجربتهم السابقة في معارضة تطبيع الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب، وسط قناعة فلسطينية مفادها أن اتفاقاً إسرائيلياً سعودياً سيحدث، سواء وافقت السلطة الفلسطينية عليه أم لا، وأنه يبقى السؤال عن كيفية الاستفادة منه لتحقيق أكبر قدر ممكن من الربح، وفق ما أكدته مصادر لـ"عربي بوست".
وقالت إن عباس أرسل كبار مسؤوليه للرياض لعرض وجهة نظره، والطلب منها تعزيز السلطة، ومنع انهيارها الاقتصادي.
دلالات عدة تحملها هذه الخطوة السعودية، أهمها العودة من جديد لمسرح القضية الفلسطينية، والانخراط المتجدد في تفاصيلها، بعد غياب لسنوات عدة، تطبيقاً للسياسة الجديدة التي ينتهجها ولي العهد محمد بن سلمان، واستثمار الثقل السياسي والديني الذي تحوزه المملكة.
يدل كذلك على أن الجهود السعودية لن تقتصر الآن على الدور المالي والاقتصادي.
كذلك فإن الخطوة السعودية أيضاً، تعد كذلك كسراً لاحتكار بعض العواصم العربية للملف الفلسطيني، والدخول على تفاصيله الدقيقة، وهو ما حصل في استضافة الرياض لوفدين من قيادتي حماس وفتح في أبريل/نيسان 2023.
أتت المواقف الفلسطينية مرحّبة بالخطوة السعودية، فقد وصفها مجدي الخالدي مستشار عباس بـ"المهمة، لأنها ستسهم في تعزيز العلاقات الأخوية القوية والمتينة التي تربط البلدين والشعبين"، ونقل شكر عباس لمواقف المملكة الثابتة تجاه القضية الفلسطينية، ومساندتها الدائمة لها في المحافل الدولية كافة.
أما السفير الفلسطيني لدى السعودية باسم الآغا، فاعتبر أن "القرار يشكل تحولاً كبيراً في مسيرة القضية، وتحقيقاً لمواقف السعودية الثابتة والراسخة نحو فلسطين والقدس، معلناً أنه قبل 1948 كان هناك قنصل أو قائم بالأعمال للسعودية هو عبد العزيز الكحيمي، ومقرّها في حي الشيخ جراح بالقدس المحتلة".
السديري ذاته، أعلن أن تعيينه "يحمل دلالات كبيرة بتعزيز العلاقة مع فلسطين، وإعطائها دفعة ذات طابع رسمي في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لتكون كما كانت وأفضل".
سبق خطوة تعيين السفير السعودي،زيارة وفد فلسطيني رفيع المستوى للرياض، مكون من رئيس جهاز المخابرات العامة ماجد فرج، وأمين سرّ اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير حسين الشيخ، والمستشار السياسي لعباس مجدي الخالدي، فضلاً عن ابنه ياسر عباس، والتقوا وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان.
تبدو الإدارة الأمريكية في صورة المباحثات الفلسطينية السعودية لتحصيل مزيد من الإنجازات قبيل إبرام اتفاق التطبيع مع إسرائيل، حيث التقى الوفد الفلسطيني المشار إليه بمستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط بريت ماكغورك، ومساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط باربارا ليف، كل مسؤول على حدة، فيما بدا لافتاً إشادة الولايات المتحدة، عبر المتحدث باسم وزارة خارجيتها ماثيو ميلر، بجهود التواصل بين السعودية وفلسطين بعد ساعات من وصول أول سفير للرياض إلى الضفة الغربية، معلناً الترحيب بزيادة التواصل بين السعودية والسلطة الفلسطينية، باعتباره خطوة مفيدة.
تشكيك إسرائيلي
تمثلت المواقف الإسرائيلية في البداية باستبعاد وجود مقر دبلوماسي في القدس للسفير السعودي الجديد لدى فلسطين، وأعلن وزير الخارجية إيلي كوهين أن "السديري قد يكون موفداً سيلتقي بممثلين في السلطة الفلسطينية، ونحن لن نسمح بفتح أي نوع من البعثات الدبلوماسية في القدس".
واعتبر الخطوة السعودية رسالة للفلسطينيين بأنهم لم ينسوهم على خلفية التقدم في مفاوضات التطبيع بين الرياض وتل أبيب"، لكن السديري ردّ عليه بنشر صورة تاريخية لافتتاح قنصلية السعودية بالقدس عام 1947 ويظهر فيها عدد من الدبلوماسيين السعوديين، وعلى مدخل المبنى لافتة كتب عليها: "القنصلية العامة" باللغتين العربية والإنجليزية، مع شعار المملكة.
يأتي ذلك بالتزامن مع ظهور قراءة إسرائيلية تشكّك في الخطوة السعودية بزعم أنها قد تشكّل تهديداً لما وصفته "الفضاء الأردني" في الأراضي الفلسطينية، واصفة هذا الإعلان بالدراماتيكي، لأنه قد يعتبر بوابة لمزيد من النفوذ السعودي في المسجد الأقصى.
وزعم حسن عصفور المفاوض الفلسطيني السابق، وأحد أكثر المقربين من عباس قبل أن يفترقا، ويقيم في القاهرة بصفة دائمة، أن خطوة تعيين السفير السعودي السديري ليست خبراً صحفياً، بل حدث سياسي يؤكد أن التطبيع السعودي الإسرائيلي لن يستهدف حلّ القضية الفلسطينية، استناداً لما قاله أحد المسؤولين الخليجيين، لم يذكر اسمه، بأن "التطبيع لم يصمّم لحلّ القضية الفلسطينية".
على الصعيد الفلسطيني، ما زال الفلسطينيون يترقبون مآلات الخطوة السعودية، ابتداءً بتعيين سفيرها، وانتهاءً بالتطبيع مع إسرائيل، لكنهم يعتقدون أن قضيتهم أمام مفترق طرق حقيقي، يطوي صفحة العداء بين إسرائيل وأكبر دولة عربية إسلامية، ما سينجم عنه العديد من النتائج والتبعات، وعلى مختلف الأصعدة.
أهم هذه التبعات، الخشية من التحاق المزيد من الدول العربية والإسلامية بقطار التطبيع مع إسرائيل، وعدم التوقف ملياً عند إيجاد حلّ حقيقي للقضية الفلسطينية، مع استمرار التصريحات الإعلامية السياسية، دون ترجمة على الأرض.
بعد خطوة إعلان تعيين السفير السعودي السديري سفيراً فوق العادة في الأراضي الفلسطينية، تقبّل عباس أوراق اعتماده خلال استقباله بمقر الرئاسة بمدينة رام الله، فور وصوله قادماً من عمان عبر معبر الكرامة البرّي، واعتبر الخطوة إسهاماً بتعزيز العلاقات الأخوية المتينة، ونقل السفير إليه تحيات الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، مؤكداً تمسك المملكة بمبادرة السلام العربية كأساس لحل القضية الفلسطينية، كونها النقطة الأساسية في أي اتفاق قادم، كاشفاً اعتزام فتح قنصلية في القدس الشرقية، ناشراً صوراً من زيارته، معلّقا عليها: "من دولة فلسطين الحبيبة، أرض كنعان، أجمل التحيات".
رياض المالكي وزير الخارجية الفلسطيني أبلغ الصحفيين عقب لقائه بالسديري، أن الفلسطينيين سعداء جداً بوجوده في بلده الثاني فلسطين، معتقداً أن الخطوة تقرّبنا كثيراً كبلدين وشعبين وقيادتين، وتعكس عمق علاقاتهما التاريخية، وأكد المستشار السياسي للوزير أحمد الديك، أن اللقاءات السعودية الفلسطينية لم تنقطع، معرباً عن ثقته في الدور السعودي لتحقيق السلام في الشرق الأوسط، كما رحّب أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير حسين الشيخ بالزيارة.
لم يضيّع السديري وقتاً فور بدء مزاولة عمله، فوضع إكليلاً من الزهور على ضريح الرئيس ياسر عرفات، واجتمع بوفد من الاتحاد الأوروبي في رام الله، وأعلن "التطلع للعمل معاً من أجل الفلسطينيين، والبناء على جهود السلام"، لكن صحيفة "هآرتس" كشفت أن السديري ألغى زيارته المقررة للمسجد الأقصى لإحياء المولد النبوي، وسط خشية من حدوث استفزازات خلال الزيارة.
تجديد الدعم المالي السعودي للسلطة
كان واضحاً منذ البداية أن تعيين السفير السعودي السديري يحمل دلالات تفوق الأبعاد الرمزية، لأنه من المتوقع أن يطرح الفلسطينيون مطالبهم من التطبيع المزمع مع إسرائيل على الطاولة.
لذلك أجرى عباس خلال الفترة الماضية اتصالات بمسؤولين سعوديين، ونقل إليهم رسالة مفادها أن الفلسطينيين يعتزمون الانضمام لأي موقف يتخذونه مع إسرائيل، ولن يعارض تطبيعهما، طالما أنه يوفر للفلسطينيين الحلول المطلوبة، وفق مصادر لصحيفة "وول ستريت جورنال".
زعمت أوساط فلسطينية وسعودية في حديثها للصحيفة الأمريكية، أن المملكة تعرض تجديد الدعم المالي للسلطة الفلسطينية، ما يشكّل علامة على أنها تبذل جهوداً كبيرة للتغلب على العقبات أمام إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، الأمر الذي من شأنه أن يعطي المزيد من الشرعية لأي اتفاق معها.
تكشف إحصائية المساعدات السعودية المقدمة للفلسطينيين، أنها داعم سخيّ وقويّ لهم منذ 1948، بأكثر من 5 مليارات دولار، بما فيه الدعم المباشر للسلطة الفلسطينية، لكنها تراجعت منذ 2016 وسط مزاعم بعدم كفاءة السلطة وفسادها، وانخفضت من 174 مليون دولار سنوياً في 2019 إلى الصفر في 2021.
تتوافق التقديرات الفلسطينية والإسرائيلية على أن القضية الفلسطينية ستحتلّ مكانة أكثر مركزية بمحادثات التطبيع بين السعودية وإسرائيل، كما جاء في كلمة محمد بن سلمان أمام اجتماع الجامعة العربية في مايو/أيار 2023 في الرياض، بتأكيده أن "القضية الفلسطينية على رأس جدول أعمال المملكة".
بحسب الصحيفة أيضاً، فلعل عباس فهم أنه سيكسب أكثر مما يخسر إذا انضم لهذه الخطوة، سواء باتجاه استئناف الدعم السعودي للفلسطينيين، كما حصل مؤخرا بإعادة تحويل الميزانية للمستشفيات المقدسية.
مطالب الفلسطينيين
يمكن رصد جملة أسباب تراها السلطة الفلسطينية مبرراً للاندماج في مسار التطبيع السعودي الإسرائيلي والترحيب بتعيين السفير السعودي، أولها أن معارضتها السابقة لتطبيع الإمارات والبحرين والمغرب لم يجدِ نفعاً، وثانيها المكانة الرفيعة للسعودية في المنطقة، وثالثها أن المضيّ بمسار التطبيع دون وجود مكون فلسطيني كبير سيزيد من إضعاف موقفهم ويدفع بالقضية الفلسطينية لهامش الترتيبات الإقليمية.
كذلك فإن الوجود الفلسطيني في هذا المسار من شأنه كبح جماح التحركات الإسرائيلية الهادفة لإلغاء خيار الدولتين، وأن المشاركة في هذه العملية الإقليمية واسعة النطاق ستوضح أهمية السلطة الفلسطينية التي بدأت تفقد شرعيتها، مقارنة بالشرعية المتنامية بين الفلسطينيين لمفهوم "المقاومة".
عند الحديث عن حماس، يبدو لافتاً أنها بعد أن هاجمت كل الخطوات التطبيعية بين الدول العربية وإسرائيل، لكنها ما زالت تحتفظ بالصمت إزاء الحراك بين السعودية وإسرائيل، ربما لأن الحديث يدور عن المملكة، وهي ليست كأي دولة عربية، فإن الحركة تسعى لاستئناف علاقتها بالسعودية من خلال زيارة قيادتها السياسية العليا في أبريل/نيسان 2023 بعد قطيعة استمرت لسنوات طويلة، ما يجعلها على قناعة تامة بأن أي اعتراض "خشن" على مسيرة التطبيع السعودية الإسرائيلية سيجعلها تدفع ثمناً باهظاً هي في غنى عنه، لا سيما أنه ليس لديها فائض في علاقاتها الخارجية، ما قد يدفعها لاتخاذ موقف فضفاض عام ضد رفض التطبيع، دون استهداف المملكة بعينها، وفق بعض التقديرات الفلسطينية.
سبب آخر تأمل السلطة الفلسطينية من السعودية تبنّيه، كشفت عنه المحافل الإسرائيلية، وطرحه حسين الشيخ أمين سرّ اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير أمام مستشار الأمن الوطني السعودي مساعد العيبان قبل 3 أشهر، كجزء من أي صفقة تطبيع محتملة مع إسرائيل، ويتلخص في تجميد توسيع المستوطنات، وإخلاء البؤر الاستيطانية غير القانونية، وتجنب دخول جيش الاحتلال للمنطقة (أ)، وتعزيز السلطة، وتوسيع نطاق عملها؛ والحفاظ على الوضع الراهن في المسجد الأقصى، وحظر الاقتحامات اليهودية فيه.
في المقابل، سيكون مطلوباً من إدارة بايدن إعادة فتح مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وعودة القنصلية الأمريكية للشؤون الفلسطينية في شرقي القدس، فيما تقدم السعودية مساعدات مالية كبيرة تنقذ السلطة من الإفلاس، وتقدم مشاريع لتحسين الاقتصاد وإمدادات الطاقة والمياه، وتوفير فرص العمل للفلسطينيين.
تقديرات أخرى بأن السلطة الفلسطينية قررت تغيير تكتيكاتها، واختارت المشاركة في أي صفقة محتملة بين إسرائيل والسعودية، في محاولة لجني أكبر قدر ممكن من الثمار بموجب أي اتفاق محتمل، بدلاً من مقاطعتها، كما فعلت في التطبيع الإسرائيلي السابق مع الإمارات والبحرين.