يقول العالم التونسي والمفكر "الطاهر بن عاشور" في وصف لأصناف الحكام وعلاقتهم بتقييد الحريات: "منهم من يفعل ذلك إبقاءً على منصبه، واستحفاظاً على وجاهته؛ لأنّه يخالُ أنّ كلّ مخالفةٍ له في الرّأي تنذرُ بثَلِّ عرشه، وزلزال أركانِه، والمريضُ كثير الأوهام". فالحرية عنده مقصد من مقاصد الشرع لأنها فطرة انسانية لا تقيد إلا لمصلحة الانسان ودفع الضرر عنه.
وهذا يتفق مع ما يشير إليه الفيلسوف الألماني "هيغل" عن الحرية في سياق جدلية العبد والسيد وسيادة الدولة وقوة فكرة الحرية؛ إذ يرى بأن الحرية هي ممارسة وليست تنظيراً، فالحياة والحرية والضرورة عنده شيء واحد، وإلا صارت حرية الخواء. كما أنه يرى أن القوانين والسلطة التي تستخدم لتقييد الحرية لخدمة السلطة لا تخدم الخير العام؛ إذ يجب على سيادة القانون والدولة هي أن تخدم حرية ومصالح الفرد والجماعة وتحميها وليس عكس ذلك.
ورغم اختلاف المدارس الفلسفية الإنسانية، فإنها تربط جميعها الحرية بأسلوب ونظام الحكم؛ مما يحيل دائماً إلى التفكير في العلاقة بين الحرية والديمقراطية، فلكل منهما تأثير على الآخر، فالأولى هي أهم مقومات الثانية؛ حيث تمثل الديمقراطية الفضاء العام الذي تسبح فيه الحرية، وبذلك كل اختلال في العلاقة التبادلية بينهما حتماً ينعكس بالسلب بدرجة على المجتمع والدولة، مما يبرز مظاهر التسلط والاستبداد.
إن شكل الدولة المعاصر لا يمكن تصوّره إلا في إطار ديمقراطي، له خصائص ووظائف معينة، تحمي الأفراد وترعى حريتهم وتعزيزها، وإتاحة مناخ مناسب للتمتع بها؛ مما يساهم في بناء رقابة شعبية منبثقة من الوعي الجمعي للحرية، وهذا ما يتجسّد فعله من خلال بناء المؤسسات الدستورية للدولة ونشأة المجتمع المدني، وتأثيره على سلوك السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية.
وهذا ما أشار إليه الفيلسوف الألماني "يورغن هابرماس" من خلال التأصيل لفكرة "الديمقراطية التداولية" التي يرى فيها أنها لا تقف عند الديمقراطية التمثيلية؛ حيث تمنح هذه الديمقراطية إمكانية بناء مجتمعات حداثية مؤسسة على مشاركة الفاعلين المعنيين دون إقصاء، لأن هذا النموذج لا يتوقف عند حدود الفضاء العمومي القوي (البرلمان)، بل يُجاوزه إلى الفضاء العمومي الضعيف الذي يتشكل من شبكات المجتمع المدني، وهو ما يقدمه كنموذج حقيقي للديمقراطية. ورغم أن هذا تصور مثالي إلى حد ما، إلا أنه الطرح الأمثل، فالمجال العام هو تلك الساحة؛ حيث يفسح المجال للمواطنين بأن يعبروا عن آرائهم بكل حرية وبدون تقييد؛ مما يؤدي إلى خلق فرص لتواصل عقلاني يساعد في بناء مجتمعات ودول أكثر تماسكاً وعدالة.
وتجدر الإشارة هنا إلى ما ذهب إليه الشيخ راشد الغنوشي، السياسي والمفكر الإسلامي تونسي، إذ يرى بأن: "الحرية مبدأ أساسي في الإسلام، ومن لا حرية له لا دين له"، وأضاف أنه: "لو فقه الناس مطالب كل من الديمقراطية والإسلام، لو فعلوا ذلك لوقفوا على حقيقة المساحة الواسعة للاشتراك والتداخل بينهما، وكم يصلحان أساساً متيناً لتبادل المنافع والتعايش، كما أن التباين معها والاستدراك عليها واردان، تلك هي حصيلة تأملاتنا لسنوات طويلة، خرجنا من المعتقلات لننخرط في ساحات النضال اليومي ضد الديكتاتورية متسلحين بهذين السلاحين: الإسلام والديمقراطية".
تختلف المدارس والأطروحات والنتيجة واحدة؛ الحرية أساس الحكم، فبالنظر للحركة الإنسانية يتضح دائماً أن الانتصار يكون في النهاية للحرية على الاستبداد، وأن الاستئثار بالسلطة على حساب الحرية عمره قصير ولا يبني مجتمعات أو دولاً بل يسرع بنهايتها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.