منذ اندلاع الثورة السورية قبل نحو عقد، والتنافس على سوريا محصور في عدد من الدول مثل روسيا وإيران وتركيا، إلا أن الغريب هو الدور الهادئ للنفوذ الباكستاني، الذي زاد منذ ذلك التاريخ.
كانت إسلام أباد تنظر إلى دمشق على أنها بوابتها للعالم العربي قبل الثورة بشدة، إلا أن الأمر لم يتغير بعد الثورة، بل على العكس فقد عكفت باكستان على صعود نفوذها في سوريا، ولكن بهدوء، بحسب تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
النفوذ السياسي الباكستاني في السنوات الأخيرة تطوّر بشكل كبير بسبب سعيد محمد خان، مبعوث باكستان النشط إلى دمشق، الذي غادر دمشق وسط ضجة غير عادية قدمت لمحةً عن دور بلاده المتنامي، وأهميتها في سوريا، وهو الدور الذي ظلّ تحت المجهر إلى حد كبير.
قبل عام، وأثناء انتهاء بعثته الدبلوماسية، مُنِحَ خان وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة من قِبَلِ نائب وزير الخارجية آنذاك بشار الجعفري. وكان هذا التكريم هو أعلى تكريم يُمنَح لمواطن غير سوري.
ركائز النفوذ الباكستاني في سوريا
بالنسبة لباكستان كانت سوريا لفترة طويلة بمثابة بوابة مهمة إلى العالم العربي، الأمر الذي لم يتغير في أعقاب اندلاع الحرب في عام 2011.
وقد استخدمت إسلام أباد القطاعات المهملة في البنية التحتية الممزقة في سوريا، مثل التعليم والتجارة، لتعزيز العلاقات القوية، في حين تتطلع إلى عقود إعادة الإعمار والاتفاقيات التجارية، وتشهد انفتاحاً بعد العزلة الدولية للبلاد.
قال خان لموقع Middle East Eye البريطاني إن العلاقات بين البلدين تحسنت بشكل كبير في السنوات الأخيرة، وتعززت بشكل خاص، على حد قوله، من خلال التعاون في مجال التعليم.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2015، وفي ذروة عزلة سوريا دولياً، رفضت باكستان دعم الجهود والدعوات الرامية إلى إزاحة حكومة الأسد، وواصلت عملها على تشييد المدرسة الباكستانية الدولية بدمشق، التي تعد اليوم المدرسة الرائدة في البلاد.
وأشار خان إلى أنه منذ عام 1967، كانت العلاقة السورية الباكستانية ذات طبيعة عسكرية في الغالب. وأضاف: "كانت سوريا قريبة جداً منا خلال حربي 1967 و1973. وقد اختار الطيارون الباكستانيون القتال نيابة عن سوريا، وأسقطوا طائرات إسرائيلية وهم على متن طائرات سورية".
وفي أعقاب اندلاع الحرب السورية، راهنت باكستان على أنه إذا انتصرت حكومة بشار الأسد فإن نهج القوة الناعمة الذي تتبناه إسلام أباد سوف يؤتي ثماره.
ومع عدم اهتمام الداعمين التقليديين لسوريا بالتعليم، استخدمت باكستان هذا القطاع بشكل خاص لزيادة نفوذها دون إزعاج.
قال خان: "كانت وجهة النظر هي أنه بما أننا لم نكن ضد دمشق، فمن الطبيعي أن تكون هناك قطاعات يمكننا أن نتطلع حقاً إلى مساعدة السوريين فيها، خاصةً في وقت لم يكن فيه أحد على استعداد لتقديم يد العون. وفي المستقبل سيتذكر السوريون ذلك".
توسيع العلاقات في الأوقات المضطربة
كانت روسيا وإيران أبرز الدول العاملة في سوريا منذ الحرب، حيث تدعمان دمشق عسكرياً واقتصادياً، وكان للصين أيضاً دورٌ متزايد، ولكنها اتخذت مقعداً خلفياً ولم تتدخل عسكرياً.
وفي الوقت نفسه، لم تلعب باكستان أي دور رسمي حقيقي في الصراع، رغم أن مجموعات مثل لواء زينبيون، وهو لواء ذو أغلبية شيعية باكستانية من المقاتلين الأجانب الذين قاتلوا إلى جانب الحكومة السورية كقوة شبه عسكرية، قد عكَّروا الأمور إلى حد ما.
وقد سعت الحكومة الباكستانية، وخاصةً جهاز الاستخبارات الباكستاني، إلى الحصول على معلومات والتوصل إلى اتفاق ضمني مع دمشق، لكبح جماح هؤلاء المقاتلين، وحتى إنهاء وجودهم في سوريا، وهو الهدف الرئيسي لإسلام أباد وراء الكواليس.
ومقارنةً بحلفاء سوريا الآخرين، كانت استراتيجية إسلام آباد على مدى العقد الماضي أكثر غموضاً، لقد لعبت باكستان لعبة صبورة، تشهد الآن سنوات من الوجود الهادئ في سوريا وتُترجَم إلى عقود واتفاقيات.
في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، وقَّعت إسلام أباد ودمشق مذكرة تفاهم بشأن تشكيل مجموعة عمل للشؤون التجارية والاقتصادية. وتهدف الاتفاقية التي تمتد لخمس سنوات بشكل خاص إلى تنفيذ المشاريع الاستثمارية والصفقات التجارية، وتنظيم المعارض والمنتديات، واستكشاف فرص ومجالات التعاون.
يُشار إلى أن حجم التبادل التجاري بين البلدين قد تضاعف خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2021، مقارنةً بنفس الفترة من عام 2020.
وسارعت باكستان إلى استغلال الفرص التي خلقتها الكوارث الطبيعية، وأهدت المكاتب المدرسية والكراسي والملابس والأغذية إلى أهالي محافظة اللاذقية، بعد أن أدت حرائق الغابات إلى نزوح آلاف الأشخاص. وأشرف خان شخصياً على هذه الحملة.
من الدفاع إلى التعليم
كمال علم هو زميلٌ كبير غير مقيم في المجلس الأطلسي من باكستان، قال: "على الصعيد التعليمي تضم المدرسة الباكستانية الدولية نخبةً من الطبقة السياسية والعسكرية السورية الذين يدرسون في دمشق. وقدمت خلال الحرب إمدادات طبية وإنسانية منتظمة".
تقوم المدرسة الباكستانية الدولية بدمشق بدورٍ رئيسي في أوساط الطبقات العليا من المجتمع السوري. إنها مؤسسة آمنة ذات طابع غربي ومحترمة، ويمكن للسوريين الأثرياء إرسال أطفالهم إليها، في وقتٍ أصبحت فيه الغالبية العظمى من نظام التعليم في سوريا في حالةٍ يُرثَى لها.
كانت المدرسة أيضاً بمثابة طريقٍ لفتح قطاع التعليم في سوريا، وأصبحت باكستان طليقة اليد في هذا القطاع.
في يوليو/تموز 2021، وقَّع وزير التربية السوري دارم طباع بروتوكولاً يسمح للطلاب السوريين في المدرسة الباكستانية الدولية في دمشق بالحصول على مؤهلات من جامعة كامبريدج.
ومنذ ذلك الحين، تم التوصل إلى اتفاقية مشتركة "لتبادل المعلومات والخبرات في مجالات التعاون المحددة"، والاتفاق على الزيارات المتبادلة للفنانين والكتَّاب والمدرسين للمشاركة في المؤتمرات والندوات.
وفي وقتٍ لاحق، تكثَّف النشاط الدبلوماسي، مع الأنشطة الوزارية المنتظمة والوفود بين الدولتين. وبينما تركَّز الكثير من النشاط على التعليم، فقد طُوِّرَت العلاقات الدفاعية والاقتصادية أيضاً، حيث تساعد باكستان مرافق إنتاج السكر والأسمنت والأسمدة والورق في سوريا.
وقام الفريق فايز حميد، رئيس جهاز الاستخبارات الباكستاني آنذاك، بزيارة سوريا في فبراير/شباط 2018، والتقى بكبار المسؤولين لمناقشة زيادة التعاون. وكان تدريب الضباط السوريين وتقييد عودة المقاتلين الباكستانيين في سوريا على رأس جدول الأعمال.
وأتاحت جائحة كوفيد أيضاً فرصة لتنمية العلاقات، إذ كانت باكستان الدولة الثانية بعد الصين التي ترسل معدات طبية إلى سوريا بعد تفشي الجائحة -أُرسِلَت دفعةٌ مكونة من 250 ألف قناع وآلاف من معدات الحماية على الفور.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2021، بدأت شركات الطيران التجارية السورية والباكستانية تسيير رحلات جوية بين البلدين.
ومع منح الولايات المتحدة لباكستان مساعدات بقيمة 200 مليون دولار في عام 2022، وإبقاء سوريا تحت عقوبات شديدة، أثارت علاقات باكستان المتنامية مع دمشق مشكلاتٍ في واشنطن.
ومع ذلك، فإن استجابة الولايات المتحدة كانت صامتة حتى الآن، لم يُمارَس سوى القليل من الضغط على إسلام أباد، حتى فيما يتعلق بالانتهاكات المحتملة للعقوبات. ومع استمرار حلفاء الولايات المتحدة في دول الخليج العربية في إصلاح علاقاتهم مع الأسد، يبدو أن نهج واشنطن تجاه سوريا أصبح أكثر تعقيداً.
سوف تستمر روسيا وإيران في تصدُّر عناوين الأخبار في سوريا. ورغم أن هاتين الدولتين سوف تسعيان إلى مواصلة تعزيز وجودها، فإن باكستان أيضاً بدأت للتو في البدء.