اعتمدت سياسة الصِّديق على الله -تعالى- في القضاء على الردَّة ، ثمَّ على ركائز قويَّةٍ من القبائل، والزُّعماء، والأفراد الَّذين انبثُّوا في جميع أنحاء الجزيرة العربيَّة، وثبتوا على إِسلامهم، وقاموا بأدوارٍ مهمَّةٍ ورئيسيَّةٍ في القضاء على فتنة الردَّة، وكانوا سنداً قويّاً للإِسلام ودولته في قمع حركة المرتدِّين.
سار الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ على خطى النبي – صلى الله عليه وسلم-، فقام بمراسلة وإرسال الرُّسل إِلى قبائل المتنبِّئين؛ لتجميع الثَّابتين على الإِسلام، وليشكِّل بهم جماعةً تحارب الردَّة، وحاول أن يحجِّم، ويقضي على ما يمكن القضاء عليه من بؤر المرتدِّين، وقام بالتَّوعية ضدَّها، والتخيل منها، وتنفير النَّاس عنها، واستطاع أن يتَّصل بالثابتين على الإِسلام، وجعل منهم رصيداً للجيوش المنظَّمة، فقد كان يُعدُّ الأمَّة لمواجهةٍ منظَّمةٍ مع المرتدِّين بعد عودة جيش أسامة، فكتب إِلى من كتب إِليهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) باليمن، وغيره.
وحين وصل جيش أسامة بعد شهرين ـ وقيل: 40 يوماً ـ من مسيرهم، واستراحوا، خرج أبو بكر الصِّديق بالصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ إِلى "ذي القَصَّة" وهي على مرحلة من المدينة، وذلك لقتال المرتدِّين والمتمرِّدين، فعرض عليه الصَّحابة أن يبعث غيره على القيادة، وأن يرجع إِلى المدينة ليتولَّى إِدارة أمور الأمَّة، وألحُّوا عليه بذلك.
وممَّا رُوي في هذا الموضوع ما قالته عائشة: خرج أبي شاهراً سيفه، راكباً راحلته إِلى وادي ذي القَصَّة، فجاء عليُّ بن أبي طالبٍ ـ رضي الله عنه ـ فأخذ بزمام راحلته، فقال: إِلى أين يا خليفة رسول الله؟! أقول لك ما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم أحد: شمْ سيفك، ولا تفجعنا بنفسك، فوالله لئن أُصبنا بك؛ لا يكون للإِسلام بعدك نظامٌ أبداً ! فرجع.
وقد قسم أبو بكر الجيش الإِسلاميَّ إِلى أحد عشر لواءً، وجعل على كلِّ لواءٍ أميراً، وأَمَرَ كلَّ أمير جند باستنفار من مرَّ به من المسلمين التَّابعين من أهل القرى؛ الَّتي يمرُّ بها، وهم:
جيش خالد بن الوليد إِلى بني أسد، ثُمَّ إِلى تميم، ثمَّ إِلى اليمامة.
جيش عكرمة بن أبي جهل إِلى مسيلمة في بني حنيفة، ثمَّ إِلى عمان، والمهرة، فحضرموت، فاليمن.
جيش شُرَحْبِيل بن حَسَنة إِلى اليمامة في إِثر عكرمة، ثمَّ حضرموت.
جيش طُرَيْفَةَ بن حَاجِر إِلى بني سليم من هوازن.
جيش عمرو بن العاص إِلى قضاعة.
جيش خالد بن سعيد بن العاص إِلى مشارف الشَّام.
جيش العَلاَء بن الحَضْرمي إِلى البحرين.
جيش حذيفة بن مِحْصَنٍ الغلفاءين إِلى عُمان.
جيش عرفجة بن هرثمة إِلى مهرة.
جيش المهاجر بن أبي أميَّة إِلى اليمن (صنعاء، ثمَّ حضرموت).
جيش سُويد بن مقرِّن إِلى تهامة اليمن.
وهكذا اتُّخذت قرية ذي القَصَّة مركز انطلاقٍ، أو قاعدة تحرُّك للجيوش المنظَّمة الَّتي ستقوم بالتحرُّك إِلى مواطن الردَّة للقضاء عليها، وتنبئ خطَّة الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ عن عبقريةٍ فذَّةٍ، وخبرةٍ جغرافيَّةٍ دقيقةٍ.
ومن خلال تقسيم الألوية، وتحديد المواقع، يتَّضح أنَّ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ كان جغرافياً دقيقاً خبيراً بالتَّضاريس، والتجمُّعات البشريَّة، وخطوط مواصلات جزيرة العرب، فكأنَّ الجزيرة العربية صورت مجسماً واضحاً نصب عينيه في غرفة عمليات مجهَّزةٍ بأحدث وسائل التِّقنيَّة، فمن يتمعَّن تسيير الجيوش ووجهة كلٍّ منها، واجتماعها بعد تفرُّقها، وتفرقها لتجتمع ثانيةً، يرى تغطيةً سليمةً رائعةً صحيحةً مثاليةً لجميع أرجاء الجزيرة مع دقَّةٍ في الاتصال مع هذه الجيوش، فأبو بكر في كلِّ ساعة يعلم أين مواقع الجيوش، ويعلم دقائق أمورها، وتحرُّكاتها، وما حققت، وما عليها في غدٍ من واجبات، والمراسلات دقيقةٌ وسريعةٌ تنقل أخبار الجبهات إِلى مقرِّ القيادة في المدينة حيث الصِّدِّيق، وكان على صلةٍ مستمرَّةٍ مع جيوشه كلِّها، وبرز من المراسلين العسكريين ما بين الجبهات وبين مقرِّ القيادة: أبو خيثمة النجارين الأنصاريُّ، وسلمة بن سلامة، وأبو برزة الأسلميُّ، وسلمة بن وقش.
وكانت الجيوش الَّتي بعثها الصِّدِّيق متماسكةً، وهي أحد إِنجازات الدَّولة الهامَّة؛ إِذ جمعت تلك الجيوش بين مهارة القيادة، وبراعة التَّنظيم، فضلاً عن الخبرة في القتال، صهرتها الأعمال العسكريَّة في حركة السَّرايا، والغزوات الَّتي تعدَّى بعضها شبه الجزيرة في زمن النَّبيِّ (ص)، فقد كان الجهاز العسكري لدولة الصِّدِّيق متفوقاً على كلِّ القوى العسكريَّة في الجزيرة، وكان القائد العام لهذه الجيوش سيف الله المسلول خالد بن الوليد صاحب العبقريَّة الفذَّة في حروب الردَّة، والفتوحات الإِسلاميَّة.
كان هذا التَّوزيع للجيوش وفق خطةٍ استراتيجيَّة هامَّةٍ مفادها: أنَّ المرتدِّين لا زالوا متفرِّقين، كلٌّ في بلده، ولم يحصل منهم تحزُّبٌ ضدَّ المسلمين بالنِّسبة للقبائل الكبيرة المتباعدة في المكان أوَّلاً؛ لأن الوقت لم يكن كافياً للقيام بعملٍ كهذا، حيث لم يمضِ على ارتدادهم إِلا ما يقرب من 3 شهور، وثانياً لأنَّهم لم يدركوا خطر المسلمين عليهم، وأنَّهم باستطاعتهم أن يكتسحوهم جميعاً في شهورٍ معدودةٍ، ولذلك أراد الصِّدِّيق أن يعاجلهم بضرباتٍ مفاجئةٍ تقضي على شوكتهم، وقوَّتهم قبل أن يجتمعوا في نصرة باطلهم، فعاجلهم قبل استفحال فتنتهم، ولم يترك لهم فرصةً يطلُّون منها برؤوسهم، ويمدون ألسنتهم يلذعون بها الجسم الإِسلاميَّ، وبذلك طبَّق الحكمة القائلة:
لا تقطَعَنْ ذنب الأفعى وترسلها
إِن كنت شهماً فأتبع رأسَها الذنبا
فقد أدرك حجم الحدث، وأبعاده، ومدى خطورته، وعلم: أنَّه إِن لم يفعل كذلك فسيوشك الجمر أن ينتفض من تحت الرَّماد، فيحرق الأخضر واليابس، كما قال الأول:
أرى تحت الرَّماد وميض نارٍ
ويوشك أن يكونَ لها ضِرَامُ
فقد كان – رضي الله عنه – السِّياسي الماهر، والعسكري المحنّك؛ الذي يقدِّر الأمور، ويضع لها الخطط المباشرة.
انطلقت الألوية التي عقدها الصديق، ترفرف عليها أعلام التوحيد، مصحوبة بدعوات خالصة من قلوب تعظم المولى ـ عز وجل ـ وتشربت معاني الإيمان، ومن حناجر لم تلهج إلا بذكر الله تعالى، فاستجاب الله ـ جل وعلا ـ هذه الدعوات النقية، فأنزل عليهم نصره، وأعلى بهم كلمته، وحمى بهم دينه، حتى دانت جزيرة العرب للإسلام في شهور معدودة.
هذا، وقد كتب أبو بكر الصديق كتاباً واحداً إلى قبائل العرب من المرتدين، والمتمردين، فدعاهم إلى العودة إلى الإسلام، وتطبيقه كاملاً، كما جاء من عند الله -تعالى-، ثم حذّرهم من سوء العاقبة فيما لو ظلوا على ما هم عليه في الدنيا والآخرة، وكان قوياً في إنذارهم، وهذا هو المناسب لشدة انحرافهم، وقوة تصلبهم في التمسك بباطلهم، فكان لابدَّ من إنذار شديد يتبعه عمل جريء قوي لإزالة الطغيان؛ الذي عشش في أفكار زعماء تلك القبائل، والعصبية العمياء؛ التي سيطرت على أفكار أتباعهم.
إِنَّ اقتداء أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ برسول الله (صلى الله عليه وسلم) علَّمه فنَّ القيادة، ونجاح القائد في قيادته يتوقف على مدى نجاحه في جنديَّته، ولقد كان أبو بكرٍ نعم الجنديُّ في جيش المسلمين مخلصاً في ولائه لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، يطبِّق ما يقوله بحذافيره، مضحِّياً في سبيله، لم يَفرَّ عنه في معركةٍ قطُّ، ونستطيع أن ندرك دقَّة آرائه القياديَّة، وبُعد مرماها من وصاياه لقوَّاده، وخططه العامَّة الَّتي رسمها لهم أثناء تحرُّكهم لضرب قوات العدوِّ.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.