مسيرة هجاء طويلة وصراع شعري زاد عن نصف قرن.. “جرير والفرزدق”، أشهر شعراء فن النقائض في العصر الأموي

عربي بوست
تم النشر: 2023/08/23 الساعة 11:38 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/09/06 الساعة 09:01 بتوقيت غرينتش
في معركة جرير والفرزدق، الشعر هو الفائز الوحيد/ مواقع التواصل

عاش جرير والفرزدق في حُكم بني أُمَيَّة، وكانا واجهة أقوامهما وسيدَي أهل الإسلام في الشعر. امتدت حربهما الشعرية لأكثر من نصف قرن، هجا خلالها أحدهما الآخر، والشعراء من حولهما فريقان، ولم تنطفئ إلا بموت أحدهما.

يُعتبر كل من جرير والفرزدق شاعراً جليلاً في شعره ونسبه، عاشا في القرن الأول الهجري وعقداً من القرن الثاني للهجرة تحت الحُكم الأموي، في مدينة البصرة العراقية. وقد كانا ذوي نسبٍ رفيع، فهما ينحدران من قبيلة بني تميم، لكنهما من فَخِذين مختلفين. 

ورد في كتاب "جمهرة أشعار العرب" لأبي زيد القرشي: "قال أبو عبيدة: إن الناس أجمعوا على أن أشعر أهل الإسلام هم الفرزدق، وجرير، والأخطل؛ وذلك لأنهم أُعطوا حظاً في الشعر لم يعطه أحد في الإسلام".

وتابع: "مدحوا قوماً فرفعوهم، وذموا قوماً فوضعوهم، وهجاهم قوم فردّوا عليهم وأفحموهم، وهجاهم آخرون فرغبوا بأنفسهم عن جوابهم وعن الرد عليهم فأسقطوهم. وهؤلاء شعراء أهل الإسلام، وهم أشعر الناس بعد حسان بن ثابت".

أصول جرير والفرزدق 

الفرزدق هو هَمّام بن غالب، وقد كان والده سيّد بادية تميم. سُمّي بالفرزدق لضخامة وجهه وشدّه تجهمه، وهو أرفع نسباً وأعلى شأناً من جرير، وكان لذلك أثرٌ كبير على نفسيته وشِعره. 

كان يعتدّ بآبائه وعشيرته وقبيلته اعتداداً شديداً، فأخذ عاداتهم وتقاليدهم الجاهلية، حتى قيل إن أخلاقه تشبه أخلاق أهل الجاهلية. فقد عُرف بعصبيته، وفسقه، وشربه الخمر؛ ربما لذلك، كان شعره ينقص من الغزل. 

أما جرير، فهو جرير بن عطية، وهو من بني تميم، لكن من عشيرة كُلَيب اليربوعية. ليس له ما للفرزدق من مفاخر وحسبٍ وجاه وأمجاد، بل على العكس من ذلك، فقد عُرفت عشيرته برعي الغنم والحمير.

جدّه الخطفي كان له مالٌ كثير من الغنم والحمير، ووالده عطية كان بخيلاً وجاهلاً قليل الفطنة، إلا أن عائلة جرير اشتهرت بشعرها وبأن أفرادها من أشعر الناس، من الجدّ إلى الأحفاد. وقد ظلّ شعرهم صداحاً حتى امتدّ إلى العصر العباسي.

اشتُهر بين جرير والفرزدق نمطٌ من الشعر يُسمّى بـ"النقائض"، وهو فن قديم في الشعر العربي يفتخر فيه الشاعر بنسبه، ويذلّ الآخر، ويقلل من مكانته ومكانة أسلافه. فكان إذا ما افتخر أحدهما بنفسه أو بعائلته، ردّ عليه الآخر وحطّ من شأنه وكشف عيوبه. 

كثيرةٌ هي بيوت الهجاء بين جرير والفرزدق؛ في إحداها مثلاً، وفي إشارةٍ منه إلى هزيمة قبيلة الفرزدق بوادي الرحرحان، قال جرير مقللاً من أصلهم: 

تَركتُم بِوادي رحرحان نساءَكُم – ويم الصّفا لاقيتم الشّعب أوعرا

سمعتم بني مجدٍ دعَوا يا لَعامر – فكنتُم نعاماً عند ذاك منقِّرا

من جانبه، يقول الفرزدق في أحد أهجى أبياته الشعرية عن قبيلة جرير:  

أنتم قَرارةُ كُلّ مَعْدِنِ سَوأةٍ – ولكلِّ سائِلةٍ تَسيلُ قَرَار

برع الشاعر جرير بالغزل أيضاً/ Wikipedia
برع الشاعر جرير بالغزل أيضاً/ Wikipedia

في كتابه "الشعر والشعراء"، يروي ابن قتيبة الدينوري أن الفرزدق أمضى حياته في البصرة جنوبي العراق، فيما كان جرير يقيم في البادية، وهما يتهاجيان. فأرسلت قبيلة بني يربوع إلى جرير "أنكَ مقيمٌ بالمروت ليس عندك أحدٌ يروي عنك، والفرزدق بالعراق قد ملأها عليك منذ سبع حججٍ"، فذهب جرير إلى العراق وأقام في البصرة لتبدأ حرب النقائض بين جرير والفرزدق، وتستمر لعقودٍ بينهما. 

وكان الشاعر الأخطل قد أرسل ابنه مالك ليستمع إلى شعر جرير والفرزدق، ليحكم من الأقوى بينهما في ساحة الشعر، وحين سأله أبوه عنهما، قال: "جرير يغرف شعره من بحر، لسلاسة تراكيبه، والفرزدق ينحت شعره من صخر، لقوة ألفاظه. فقال: الذي يغرف من بحر أشعرهما".

بين جرير والفرزدق.. من الأشعر؟ 

كان جرير قوي الشعر في جميع فروعه وألوانه، في الغزل كما المديح والهجاء، والحقيقة أنه لم يكن يهاجي الفرزدق وحده. يروي الأصمعي أن 43 شاعراً كانوا ينهشونه، "فينبذهم وراء ظهره، ويرمي بهم واحداً واحداً".

وإلى جانب الهجاء، اشتهر جرير بالمديح، لا سيما مديح الحجاج والخليفة الأموي عبد الملك بن مروان. دافع جرير عن أحقية عبد الملك في الخلافة، وهاجم في الوقت نفسه خصومه، فكان خير ناطقٍ بلسان السلطة، ويحامي عن سياسات بني أُمَيَّة في الحكم. 

وكان لجرير مهارةٌ في الشعر الغزلي، فهو صاحب أشهر بيت شعرٍ في الغزل العربي:

إن العيون التي في طرفها حور – قَتَلنَنا ثم لم يُحيِينَ قتلانا 

 يَصرَعنَ ذا اللُبَّ حتى لا حِراكَ بهِ – وهُنَّ أضعَفُ خَلقِ اللَهِ أَركانا

 وفي هذا الإطار، بين جرير والفرزدق، يقول الجاحظ: "هذا الفرزدق كان مستهتراً بالنساء وكان زير غوانٍ، وهو في ذلك ليس له بيت واحد في النسيب (الغزل) مذكور. ومع حسده لجرير، وجرير عفيف لم يعشق امرأة قط، وهو مع ذلك أغزل الناس شعراً".

في كتابه "تاريخ الأدب العربي"، يعتبر شوقي ضيف أن الفرزدق يتفوق على جرير بالفخر، "بل على جميع شعراء عصره". فقد كان فخوراً بقبيلته إلى حدٍّ لا مثيل له، حتى قال فيها: 

ترى الناسَ ما سِرْنا يسيرون خَلفنا – وإن نحن أومأنا إلى الناس وقَّفوا

قيل لبشر بن مروان: أيهما أشعر، جرير أم الفرزدق؟ فقال: إن جريراً سلك أساليب من الشعر لم يسلكها الفرزدق، ولقد ماتت النوار -زوج الفرزدق- وكانوا ينوحون عليها بشعر جرير".

يُروى أن الفرزدق قال لزوجته النوار: "أنا أشعر أم جرير؟"، فقالت: "إنك لشاعر وإن جريراً والله لشاعر"، قال لها: "تقسمين على جرير؟!"، فقالت: "إنه والله غلبك على حلوه وشاركك في مُرّه".

آثر البحتري شعر الفرزدق، واعتبره يأتي بمعانٍ جديدة متقدماً بذلك على جرير، قائلاً: "يورد منه في شعره في كل قصيدة خلاف ما يورده في الأخرى، وجرير يكرر في هجاء الفرزدق".

أما عمرو بن العلاء، فنقل عنه الأصمعي قوله: "الأخطل ثم الفرزدق ثم جرير". فيما سُئل الأخطل، أيكم أشعر؟ قال: "أنا أمدحهم للملوك وأنعتهم للخمر والحمر (أي النساء)، وأما جرير فأنسبنا وأشبهنا، وأما الفرزدق فأفخرنا".

لكن، وبعيداً عن الآراء، كان شعر جرير أشهر بين الناس عموماً، لقدرته على تضمين السخرية المضحكة في شعره. وفي هذا الإطار، يُروى أن رجلاً يُقال له "مِربع" من بني كلاب كان يريد إغاظة الفرزدق، فأنشد أمامه شعر جرير. 

فهدده الفرزدق بسفك دمائه، فقال جرير عن هذا التهديد: 

زعم الفرزدق أن سيقتلُ مِربَعاً – أبشر بطولِ سَلامَةٍ يَا مربعُ

انتقل جرير من البادية إلى البصرة لمنافسة الفرزدق/ مواقع التواصل
انتقل جرير من البادية إلى البصرة لمنافسة الفرزدق/ مواقع التواصل

موت الفرزدق ورثاء جرير له

يُقال إن جريراً كان معتداً بشعره ويعتبر نفسه الأفضل، فقد كان يقول: "ما من بيتٍ قاله الفرزدق فيَّ إلا قلبتُه عليه"، لكن الحقيقة أن هناك بيتاً وحيداً لم يستطع جرير أن يردّه على الفرزدق، وهو قولٌ في لاميته جاء فيه: 

إنّ استِراقَكَ يا جَريرُ قصائدي – مِثلُ ادِّعاءِ سوى أبيكَ تَنَقَّلُ

وابنُ المَراغةَ يدّعي مِن دارِمٍ – والعبدُ غيرَ أبيهِ قد يتنحَّلُ

ليسَ الكِرامُ بِناحِليكَ أباهُمُ – حتى تُرَدّ إلى عَطِيَّةَ تُعتَلُ

وزَعمتَ أنك قد رَضيتَ بما بَنى – فاصبِر فما لكَ عن أبيكَ مُحَوَّلُ

معنى البيت أن الفرزدق يقول لجرير: مهما اجتهدتَ وأكرمتَ الناس، لن يعطوك أباهم، حتى تُجبر إلى العودة إلى عطية (والده)، فلا مفرّ من ذلك، هذا أبوك.

وزَعمتَ أنك قد رَضيتَ بما بَنى فاصبِر فما لكَ عن أبيكَ مُحَوَّلُ؛ أي إنك تكذب وتقول إنك فخورٌ بأبيك، وإذا كان ذلك صحيحاً، فما عليك سوى الصبر لأنه لا بديل عن أبيك.

بعد مسيرةٍ طويلة مليئة بالهجاء والصراع الشعري، انتهى صراع جرير والفرزدق بعدما توفي الأخير في البصرة عن عمر 80 عاماً. ولما بلغ جرير موت الفرزدق، قال: 

مات الفرزدقُ بعدما جدّعتُه – ليت الفرزدق كان عاش قليلاً 

ثم سكت طويلاً وبدأ يبكي بكاءً شديداً، فقال له قوم: "أتبكي على رجلٍ يهجوك وتهجوه منذ 40 سنة؟"، فقال الشاعر جرير: "إليكم عنّي، فواللهِ ما تبارى رجلان وتناطح كبشان، فمات أحدهما، إلا وتبعه الآخر عن قريب".

ثم أنشأ يقول مرثياً إياه: 

فُجِعنا بحمّال الدِّيات بن غالبٍ – وحامي تميمٍ عِرضِها والبراجم

بكيناك حِدثان الفراق، وإنّما – بكيناك إذ نابت أمور العظائم

فلا حمَلت بعد ابن ليلى مُهَيرةٌ – ولا شُدّ أنساعُ المَطيّ الرّواسم

كان حدس الشاعر جرير في مكانه، فقد توفي بعد عامٍ واحد فقط من موت الفرزدق، ليبقى اسماهما مقترنين مع بعضهما حتى يومنا هذا. والحق يُقال، لعلّ أجمل قصائد جرير كانت تلك التي كتبها في رثاء عدوّه اللدود الفرزدق: 

لَعَمري لقد أشجى تميماً وهدّها – على نكَباتِ الدهر موت الفرزدق 

عشيةَ راحوا للفِراق بنعشِهِ – إلى جَدَثٍ في هُوّةِ الأرضِ مُعمَقِ

لقد غادروا في اللحدِ من كان ينتمي – إلى كُلّ نجمٍ في السماءِ مُحلِّقِ

ثَوى حامِلُ الأثقالِ عَن كلِّ مُغرَمٍ – وَدامِغُ شَيطانِ الغَشومِ السَمَلَّقِ

عِمادُ تَميمٍ كلِّها ولسانُها – وناطقُها البَذّاخُ في كلّ منطقِ

فَمَن لِذوي الأرحامِ بعدَ ابن غالبٍ – لِجارٍ وَعانٍ في السلاسلِ موثَقِ

ومَن لِيتيمٍ بعد موتِ ابن غالبٍ – وأمِّ عيالٍ ساغبينَ ودَردَقِ

ومَن يُطلِقُ الأسرى ومَن يُحقنُ الدِما – يداهُ ويَشفي صدرَ حَرّانَ مُحنَقِ

وكَم مِن دمٍ غالٍ تحمّلَ ثِقلَهُ – وكان حَمولاً في وفاءٍ ومَصدَقِ

وكَم حِصنِ جبّارٍ هُمامٍ وسوقَةٍ – إذا ما أتى أبوابَهُ لم تُغلَّقِ

تَفَتَّحُ أبواب الملوكِ لوجههِ – بغيرِ حجابٍ دونَهُ أو تمَلُّقِ

لِتَبكِ عليهِ الإنسُ والجنُّ إذ ثَوى – فتى مُضَرٍ في كلّ غربٍ ومشرِقِ

فتىً عاش يبني المجدَ تسعين حِجّةً – وكان إلى الخيراتِ والمجدِ يرتقي

فما مات حتى لم يُخَلِّف وراءهُ – بِحَيَّةِ وادٍ صَولَةٍ غيرَ مُصعَقِ

تحميل المزيد