يبدو أن دول الخليج سوف تدخل اللعبة الكبرى الجديدة التي تتنافس فيها قوى كبرى دولية وإقليمية حول منطقة آسيا الوسطى الاستراتيجية، وهي منافسة متعددة الأوجه يشترك فيها الغرب وروسيا والصين وتركيا وحتى إيران.
وأطلق مصطلح اللعبة الكبرى على المنافسة الجيوسياسية والعسكرية والاستخباراتية بين الإمبراطوريتين الروسية والبريطانية خلال القرن التاسع عشر حول فرض النفوذ في آسيا الوسطى، والتي حسمت لحد كبير لصالح موسكو، واليوم تتجدد هذه اللعبة بشكل ما بسبب الحرب الأوكرانية، ولكن اللاعبين باتوا أكثر عدداً، كما أن المنطقة ازدادت أهميتها الاستراتيجية والاقتصادية، وأيضاً الحكام المحليون فيها باتوا أكثر خبرة من قادة البلاد في القرن التاسع عشر.
ويعيش في دول أسيا الوسطى 77 مليون شخص على مساحة تزيد عن 4 ملايين كيلومتر مربع، أغلبهم من الشباب، حيث يبلغ متوسط العمر في طاجيكستان 25.3 عام بينما يبلغ نظيره في دول الاتحاد الأوروبي 43.9 عام، حسبما ورد في تقرير لمركز "أسباب" للدراسات السياسية والاستراتيجية.
لدى آسيا الوسطى موقع جغرافي شديدة الأهمية على مدار التاريخ، فهي تجاور الصين والهند وإيران ورسيا والقوقاز، وقريبة من الدول العربية وتركيا وليست بعيدة عن أوروبا.
وتاريخياً كانت لها أهمية خاصة في خطوط النقل البرية بين أوروبا والصين، وتتميز منطقة آسيا الوسطى بتوافر الموارد الطبيعية، حيث تمتلك تركمانستان رابع أكبر احتياطيات الغاز في العالم، فيما كازاخستان من أكبر دول العالم إنتاجاً لليورانيوم، ومصَدّره الأول إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن وجود مساحات شاسعة صالحة للزراعة ومنتج كبير للنفط.
وروسيا هي الضامن الأمني للمنطقة، ولديها قواعد عسكرية في قيرغيزستان وطاجيكستان، كما أصبحت الصين هي الشريك الاقتصادي الأول بتبادل تجاري بلغ 70 مليار دولار في عام 2022، وباتت المنطقة في قلب مشروع الحزام والطريق، حيث يمر منها طريقان بريان: الخط الشمالي إلى موسكو عبر كازاخستان، والخط الرئيسي إلى قيرغيزستان وأوزبكستان، ثم إلى إيران، ثم تركيا ودول أوروبا.
قمة دول الخليج وآسيا الوسطى
وانعقدت في جدة، يوم 19 يوليو/تموز 2023، القمة الأولى لدول مجلس التعاون الخليجي مع دول آسيا الوسطى: كازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان. وركزت القمة على تطوير التعاون المشترك في النقل والأمن الغذائي وأمن الطاقة والمياه والاستثمار. وأكد البيان الصادر عن القمة على أهمية تعزيز الحوار الاستراتيجي في إطار خطة عمل مشتركة تمتد إلى عام 2027، ودعم الجهود الإقليمية والعالمية لمكافحة الإرهاب والتطرف، كما أكد على عقد القمة القادمة في سمرقند بأوزبكستان في عام 2025.
فهل يعني ذلك أن دول الخليج انضمت للمتنافسين على النفوذ في منطقة آسيا الوسطى، وما هي فرص نجاح دول الخليج في هذه المنافسة التي تخاض أمام دول كبيرة ولها علاقة وثيقة بالمنطقة، أم إن مصطلح التنافس لم يعد ينطبق الوضع الحالي، وإن حكومات هذه الدول تسعى لبدء مرحلة جديدة تستفيد فيها من موقع المنطقة ومواردها لتعزيز مكانتها وتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وتنويع شراكاتها.
القلب البري للعالم
تاريخياً كانت منطقة آسيا الوسطى بمثابة القلب البري للعالم وممر رئيسي للتجارة بين الشرق والغرب، ولكنها سياسياً وحضارياً، كانت مرتبطة بإيران والصين، في علاقة ليست من طرف واحد بل إن آسيا الوسطى أثرت في الصين وإيران بمثل ما تأثرت بهما، وخرج من آسيا الوسطى ومن جوارها المنغولي غزوات لحضاريتي إيران والصين العريقيتين، وحكم البدو القادمين من آسيا الوسطى والداخلية (مصطلح يطلق أكثر على منغوليا المجاورة لآسيا الوسطى) الصين وإيران لقرون.
ومع الفتح العربي الإسلامي للمنطقة تغير تاريخ آسيا الوسطى بشكل جذري وأصبح لديها علاقة وثيقة ببقية العالم الإسلامي، وتحولت مدنها مثل بخارى وسمرقند لمراكز حضارية إسلامية عريقة، فيما يعرف بعصر المنطقة الذهبي وخرج منها علماء كبار مثل الإمام البخاري، كما شهدت المنطقة مزيداً من إكساب المنطقة للطابع التركي الذي كان موجوداً بها من قبل، حيث جاء الخليفة العباسي المعتصم بالجنود الأتراك ليجندهم في جيشه من شرق آسيا الوسطى، وهي الممارسات التي سوف تتبعها أغلب الدول الإسلامية.
كانت الدول القائمة في هذه المنطقة قوية في بدايات العصر الحديث، وكان بعضها يهاجم الأراضي الروسية، إلى أن تراجعت قوتها وازدادت فتتها بينما صعدت الإمبراطورية الروسية لتبتلع أراضي سادتها السابقين في القرن التاسع عشر، ثم عزلت المنطقة عن محيطها العربي والإسلامي وعن العالم.
وحتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وتأسيس الجمهوريات المستقلة بالمنطقة، ظلت معزولة نسبياً، سواء بسبب بقايا الستار الروسي الحديدي، أو بسبب قلق حكام دول المنطقة، وأغلبهم من القادة الشيوعيين المحليين من تأثيرات الانفتاح التي قد تفتح الباب لرياح الديمقراطية أو التأثر بالتوجهات الإسلامية في الشرق الأوسط وجنوب آسيا.
في مقابل النفوذ الروسي المهيمن بالمنطقة، قامت بكين بتقوية نفوذها بدون استفزاز روسيا، وساهم الجوار والثراء الصيني والطابع الاستبدادي لحكم بكين في أن هذه العلاقة أرضت حكام المنطقة دون استفزاز روسيا، أما الغرب فمحاولات للدخول حققت نجاحاً متوسطاً وظل في الأغلب متعلقة ببعض صادرات الطاقة التي تمر عبر روسيا، وبعض الاستثمارات من الشركات الغربية في النفط والغاز.
واليوم مع الحصار الغربي لموسكو باتت المعادلة القديمة في المنطقة عرضة للتغيير، يريد الغرب إنهاء الدور الوسيط في العلاقة الطاقوية بين المنطقة وأوروبا، كما تحاول روسيا أن تجعل موارد الطاقة بما فيها اليورانيوم بمثابة رهينة في أيديها في مواجهة الغرب.
فقلد باتت آسيا الوسطى ساحة المعركة الرئيسية في اللعبة الكبرى الجديدة، بين الولايات المتحدة وبين الصين وروسيا، حسبما ورد في تقرير لموقع the Cradle.
يعيد ذلك للأذهان اللعبة الكبرى الأصلية الإمبراطوريتين البريطانية والروسية في أواخر القرن التاسع عشر..
وفقاً للعبة الجيوسياسية التي صممها ماكيندر والتي تصورتها الإمبراطورية البريطانية في عام 1904، فإن The Heartland (قلب العالم) وهي منطقة برية واسعة في آسيا في قلبها توجد آسيا الوسطى هي "محور التاريخ" الذي يضرب به المثل، كما أن دورها التاريخي الذي أعيد تنشيطه في القرن الحادي والعشرين كما كان في قرون مضت: محرك رئيسي للتعددية القطبية الناشئة.
أمريكا تبعث برسائل تحذير بشأن العلاقة مع روسيا
قبل بضعة أشهر فقط، قام مبعوثون أمريكيون من وزارة الخارجية والخزانة ومكتب مراقبة الشؤون الخارجية (OFAC) بجولة في آسيا الوسطى حاملين مجموعة كاملة من "الهدايا"، مع تهديدات صارخة أو مقنعة. الرسالة الرئيسية: إذا تمت مساعدة روسيا "أو حتى التجارة معها بأي شكل من الأشكال، فسيتم فرض عقوبات ثانوية عليك".
هذا ما كشفته المحادثات غير الرسمية مع الشركات في سمرقند وبخارى في أوزبكستان وجهات الاتصال المعنية في كازاخستان، حسب الموقع.
كيف تتفاعل "ستان" آسيا الوسطى مع القوى الخارجية؟ فهذا أمر مركب.
طاجيكستان، على سبيل المثال، هشة اقتصادياً وتعتمد بشدة على السوق الروسية كمزود للعمالة الرخيصة، وتحتفظ رسمياً بسياسة "الباب المفتوح" لكل نوع من التعاون، بما في ذلك مع الغرب.
في المقابل لدى كازاخستان علاقة قوية مع روسيا الملاصقة لها وهي تؤجر لها قاعدة فضائية، كما أن نسبة كبيرة من سكان كازاخستان من أصل روسي (ولا يخفي الروس رغم علاقتهم القوية بكازاخستان أطماعهم فيها مثلما هو الحال مع أوكرانيا).
لكن كازاخستان طورت علاقة وثيقة مع الغرب، دون استفزاز روسيا.
إذ أنشأت كازاخستان والولايات المتحدة مجلس شراكة استراتيجية (كان آخر اجتماع لهما في أواخر العام الماضي).
لدى أوزبكستان والولايات المتحدة "حوار شراكة استراتيجية"، تم إنشاؤه في أواخر عام 2021. حضور الأعمال التجارية الأمريكي مرئي للغاية في طشقند، من خلال مركز تجاري مهيب، ناهيك عن وجود شركتي كوكاكولا وبيبسي في كل متجر زاوية وقرية أوزبكية.
الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري لكازاخستان
يحاول الاتحاد الأوروبي مواكبة ذلك، خاصة في كازاخستان، حيث يأتي أكثر من 30 في المئة من التجارة الخارجية للبلاد (39 مليار دولار) والاستثمارات (12.5 مليار دولار) من أوروبا.
حصل الرئيس الأوزبكي شوكت ميرزيوييف -الذي يتمتع بشعبية كبيرة لقيادته عملية انفتاح في البلاد قبل خمس سنوات- على صفقات تجارية بقيمة 9 مليارات دولار عندما زار ألمانيا قبل ثلاثة أشهر.
منذ إنشاء مبادرة الحزام والطريق الصينية قبل عقد من الزمن، استثمر الاتحاد الأوروبي، على سبيل المقارنة، حوالي 120 مليار دولار في جميع أنحاء آسيا الوسطى (40 في المئة من إجمالي الاستثمار الأجنبي)، لكنه لا يزال أقل من الاستثمارات الصينية.
تركيز القوى الخارجية بالأساس على كازاخستان كما هو متوقع، بسبب مواردها الهائلة من النفط والغاز. تمثل التجارة بين الولايات المتحدة وكازاخستان 86 في المئة من إجمالي التجارة الأمريكية مع آسيا الوسطى، والتي كانت 3.8 مليار دولار العام الماضي. قارن هذا الرقم بـ 7٪ فقط من التجارة الأمريكية مع أوزبكستان.
لكن دول المنطقة وفي مقدمتها كازاخستان تحاول تعزيز علاقتها مع الغرب دون إغضاب روسيا والعكس، ظهر ذلك في اتخاذ البلاد موقفاً متوازناً من الأزمة الأوكرانية، ولم تؤيد الغزو الروسي ولم تدنه.
وتظهر كازاخستان رغبة واضحة في تقوية الروابط مع القوى الكبرى، عبر"دبلوماسية متعددة الأطراف ومتوازنة".
هي عضو في منظمة شنغهاي للتعاون، والاتحاد الاقتصادي الأوراسي (EAEU)، ومبادرة الحزام والطريق، ولكن في الوقت نفسه تحافظ على علاقة أمنية خاصة مع روسيا ظهرت واضحة عندما قادت موسكو تدخلاً فورياً من قبل منظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO) لإنقاذ توكاييف من محاولة ثورة ملونة في أوائل عام 2022.
تركيا تحاول التغلب على صعوبات الجغرافيا عبر استحضار التاريخ واللغة
تركيا ليس لها حدود مع أي من دول آسيا الوسطى مثل إيران والصين وروسيا، وطريق الاتصال الرئيسي معها عبر جورجيا ومنها إلى أذربيجان ثم بحر قزوين، وهي تحاول في الوقت تنشيط هذا المسار سواء كمسار للنقل والتجارة بين الشرق والغرب متطلعة لتأييد صيني غربي لذلك، كما تتطلع لتنشيط هذا المسار لطريق لنقل الطاقة من تركمانستان وكازاخستان عبر قزوين منه لأذربيجان ثم جورجيا فتركيا وعن طريقها لأوروبا، وتريد أنقرة وباكو الحصول على ممر داخل أراضي أرمينيا يسمح بالتواصل بين إقليم الأذربيجاني؛ مما يسمح بالنقل بين البر الرئيسي الأذربيجاني لتركيا مباشرة.
قادت تركيا تأسيس منظمة الدول التركية (OTS)، المجلس التركي سابقاً، والذي يضم تركيا وأذربيجان وثلاثة من جمهوريات" آسيا الوسطى، كازاخستان وأوزبكستان وقيرغيزستان (طاجيسكتان ليست دولة تركية ولكنها تتحدث لغة قريبة للفارسية وتركمانستان عضو مراقب بالمنظمة).
الهدف الرئيسي لمنظمة الدول التركية هو "تعزيز التعاون الشامل بين الدول الناطقة بالتركية." حققت هذه الجهود بعض النجاحات الثقافية والتجارية، ولكن أنقرة تتطلع للمزيد.
في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، في سمرقند، وقّعت اتفاقية "لإنشاء ممر جمركي مبسط". من السابق لأوانه معرفة ما إذا كان هذا سيكون قادراً على إثارة نوع من طريق الحرير التركي المصغر عبر آسيا الوسطى.
آسيا الوسطى استفادت حتى الآن من العقوبات الغربية على روسيا
لقد أدت العقوبات الغربية ضد روسيا إلى استفادة عدد غير قليل من اللاعبين في آسيا الوسطى، واللافت أنه ارتباط اقتصادات آسيا الوسطى ارتباطاً وثيقاً بروسيا، فقد ارتفعت صادرات وواردات المنطقة من أوروبا، خاصة في ظل بحث القارة عن بديل للنفط والغاز الروسيين.
واستقر عدد غير قليل من شركات الاتحاد الأوروبي في آسيا الوسطى بعد مغادرة روسيا – كما أن رجال أعمال مختارين من آسيا الوسطى يشترون أصولاً روسية. في موازاة ذلك، وبسبب حملة تعبئة القوات الروسية، يعتقد أن عشرات الآلاف من الروس الأثرياء نسبياً انتقلوا إلى آسيا الوسطى، بينما وجد عدد إضافي من عمال آسيا الوسطى وظائف جديدة، لا سيما في موسكو وسانت بطرسبرغ.
في العام الماضي، على سبيل المثال، قفزت التحويلات المالية إلى أوزبكستان لتصل إلى 16.9 مليار دولار: 85 في المئة منها (حوالي 14.5 مليار دولار) أتت من عمال في روسيا. وفقاً للبنك الأوروبي للإنشاء والتعمير، ستنمو الاقتصادات في جميع أنحاء آسيا الوسطى بنسبة تبلغ 5.2 في المئة في عام 2023 و5.4 في المئة في عام 2024.
هذا النمو الاقتصادي واضح للعيان في سمرقند: المدينة اليوم هي موقع بناء وترميم عملاق. تنتشر شوارع واسعة جديدة، تكتمل بالمناظر الطبيعية الخضراء المورقة والزهور والنوافير والأرصفة العريضة، وكلها نظيفة لامعة. لا يوجد متشردين، الزوار من العواصم الغربية المتدهورة مذهولون للغاية، حسب وصف الموقع.
وفي طشقند عاصمة البلاد، تقوم الحكومة الأوزبكية ببناء مركز ضخم للحضارة الإسلامية، يركز بشكل كبير على الأعمال التجارية في عموم أوراسيا.
ليس هناك شك في أن العامل الجيوسياسي الرئيسي في جميع أنحاء آسيا الوسطى هو العلاقة مع روسيا. تظل اللغة الروسية هي اللغة المشتركة في كل مجالات الحياة.
ولكن يمكن القول إن النفوذ والتأثير الروسيين يتراجعان ببطء، ولكن باطراد أو قل إن الاحتكار الثقافي والسياسي والاقتصادي للمنطقة يتم لا كسره بل يتعرض لعملية تآكل بطيء.
ففي كازاخستان، التي تشترك في حدود ضخمة بطول 7500 كيلومتر مع روسيا، في العام الماضي، في منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي، أخبر الرئيس توكاييف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، شخصياً، أن أستانا لن تعترف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين المقامتين على أرض أوكرانيا المحتلة.
ويواصل الدبلوماسيون الكازاخستانيون التأكيد على أنهم لا يستطيعون جعل البلاد بوابة لتجاوز العقوبات الغربية، على الرغم من أن هذا ما يحدث في الظل في كثير من الحالات.
اقترح بوتين إقامة اتحاد غاز بين روسيا وكازاخستان وأوزبكستان، ولم يحدث شيء، وربما لا يحدث.
ولكن الشكل الرسمي للعلاقة لم يتغير، بل على العكس روسيا حريصة على إبراز نفوذها بالمنطقة.
في العام الماضي، زار بوتين جميع دول آسيا الوسطى الخمس للمرة الأولى منذ فترة طويلة. وعلى غرار الصين، عقدوا قمة 5 + 1 أيضاً للمرة الأولى. وكان رؤساء جميع "ستانات" آسيا الوسطى الخمسة حاضرين في موكب الميدان الأحمر في موسكو في يوم النصر في مايو/أيار الماضي.
تخشى الدبلوماسية الروسية هوس الغرب لانتزاع "ستان" آسيا الوسطى من النفوذ الروسي، ولكنها لا تريد التصدي بخشونة لذلك حتى لا تنفر دول آسيا الوسطى التي ما زالت حريصة على علاقتها مع موسكو وهي تبتعد ببطء شديد لا يوفر ذريعة للأخيرة للرد.
رغم حرصهم على توطيد علاقتهم مع الغرب، يقلق قادة آسيا الوسطى من الإنخراط أكثر مما ينبغي مع الغرب، حيث يظهر حديث عن الديمقراطية، كما يرون أن السياسات الغربية أدت لزعزعة الاستقرار، والروس يروجون لوجود علاقة بين أمريكا والجماعات المسلحة والإرهابية الموجودة على أطراف المنطقة.
النموذج الصيني يعد مثالاً للتنمية الناجحة بالنسبة لدول المنطقة، فهي الدولة الرئيسية الوحيدة في العالم التي حققت تنمية مثيرة للإعجاب مع تشديد النظام لقبضته الأمنية، وقد تكون الصين من أكبر المستفيدين من التنافس الحالي على آسيا الوسطى.
أوجه التشابه بين الدول العربية وآسيا الوسطى
قادة جمهوريات آسيا الوسطى الخمسة هم بشكل أو بآخر امتداد للنخب التي وضعها السوفييت لحكم هذه البلدان كتابعين وكضبط الأمن لقمع شعوبها، وبالتالي فهم لديهم حساسية تجاه الديمقراطية وتجاه الإسلام السياسي، وتجاه الفكرة القومية التركستانية العابرة للحدود، وهي مخاوف للمفارقة يتشارك فيها مع قادة آسيا الوسطى كثير من القادة العرب.
وليس هذا فقط أوجه الشبه بين العالم العربي وبين آسيا الوسطى، فالتركيبة الاجتماعية التي تجمع بين البداوة بين التجمعات الحضارية التجارية التي تحيط بها مجموعة من أقدم المجتمعات الزراعية في العالم سمة مشتركة بين العالم العربي وآسيا الوسطى.
وهناك التناقض بين الانتماءات الوطنية التي خلقها الاستعمار لحد كبير (الروسي في آسيا الوسطى والفرنسي البريطاني في العالم العربي) وبين الشعور القومي العابر للحدود، ممثلاً الهوية التركستانية الجامعة القائمة على الإسلام والجذور التركية المشتركة في حال آسيا الوسطى والقومية العربية في العالم العربي.
حتى التغير المناخي يهدد المنطقتين بشكل شبه متساوٍ، إذ تعد المنطقتان شبه الجافتين أكثر منطقتين في العالم معرضتين لآثار الاحتباس الحراري.
ولكن هناك مشتركات أكثر بين المنطقتين، خاصة بين دول الخليج ودول آسيا الوسطى.
المنطقتان تعتمدان على الطاقة والغاز كمصدر للدخل، والمنطقتان كانت تعتمدان في الأمن والسياسة والاقتصاد على راعي خارجي روسيا في حالة آسيا الوسطى وأمريكا وقبلها بريطانيا في حالة الخليج، والمنطقتان حالياً في حالة شبه تمرد على هذا الراعي، تمرد ليس هدفه الانفصال بل الاستقلال.
ففي منطقة الخليج، تؤكد السعودية والإمارات تحديداً على حرصهما على تعزيز العلاقة مع واشنطن، ولكن في الوقت ذاته يرفضان ضغوط واشنطن لكبح جماح العلاقة المتصاعد مع روسيا، وبالأكثر الصين.
الأمر ذاته يحدث في آسيا الوسطى، ولكن روسيا هي التي تريد منع توسيع علاقة آسيا الوسطى مع الغرب.
في الحالتين، أظهر قادة المنطقتين مهارة في عملية توسيع مساحة حركتهم، بطريقة سمحت بتنويع الشراكات والعلاقات بشكل أغضب الحليف الرئيسي القديم قليلاً دون أن يخرج عن طوره.
قد يكون أوجه شبه كثيرة أخرى بين الدول العربية خاصة الخليجية ودول المنطقة، منها الشعور الدائم بالقلق الأمني لدى حكام هذه البلاد، قلق من الجيران الأقوياء، وقلق من الهبات الداخلية والمعارضة، واللافت أيضاً أنه بينما هذا القلق كان يترجم لمزيد من الاعتماد على الحليف الكبير، بات يتحول لمحاولة تنويع الشراكات وتعزيز القدرات الوطنية العسكرية والأمنية المحلية، وهو أمر بدأت تنتهجه دول الخليج بشكل واضح خاصة السعودية والإمارات وقطر.
والمنطقتان تشهدان جهوداً للانفتاح على البريكس، قد تصبح كازاخستان أول دولة في آسيا الوسطى يتم قبولها كعضو في مجموعة بريكس +.
وكذلك هناك عدد من الدول العربية البارزة تريد للانضمام للبريكس، وبعضها قد تكون لها الأولوية إذا تقرر توسيع البريكس.
إن أوجه التشابه والمصالح المشتركة بين دول الخليج وآسيا الوسطى قد توفر فرصاً للتعاون بين الجانبين، خاصة في التنسيق في مجال النفط ومكافحة الإرهاب، والتعامل مع التغييرات المناخية، ويبدو دور الدين في الدولة والمجتمع كان يمثل فجوة في نظرة الجانبين للأمور، ولكن مع التغييرات الكبيرة في العديد من الدول العربية ودخولها في صراع مع الإسلام السياسي والإصلاح الديني في البعض الآخر، قد يجعل نظره المنطقتين أقرب في التعامل مع هذا الملف.
هل تتحول آسيا الوسطى لساحة للاستثمارات الخليجية؟
تستهدف دول مجلس التعاون الخليجي الاستفادة من الفرص الاقتصادية بالمنطقة، خاصة في قطاعات البنية التحتية والزراعة والاتصالات، في تنويع الاستثمارات الخليجية استعداداً لعصر ما بعد النفط، ولتعزيز الأمن الغذائي في ظل استيراد دول الخليج 60٪ من غذائها من الخارج، وللوصول إلى أسواق جديدة واعدة تتسم بنمو سريع، حيث قفز الناتج المحلي الإجمالي لدول آسيا الوسطى من 63 مليار دولار عام 2010 إلى 347 مليار دولار في عام 2021.
بلغ حجم التجارة بين دول مجلس التعاون الخليجي مجتمعة ودول آسيا الوسطى 3.1 مليار دولار في عام 2021، وهو مبلغ ضئيل عند مقارنته بنظيره بين الصين ودول آسيا الوسطى البالغ 70 مليار دولار، وحتى عند مقارنته مع نظيره بين هذه الدول وتركيا الذي تجاوز 12.8 مليار دولار عام 2022. ولذا تأمل دول الخليج في زيادة حجم التبادل التجاري عبر إيجاد منصات مؤسسية متعددة الأطراف للتنسيق، وهو ما توفره القمة الأخيرة، والتي سيتلوها منتدى استثماري، في السعودية أيضاً، بين الطرفين.
في المقابل، تبحث دول آسيا الوسطى عن مستثمرين دوليين لتمويل مشاريع البنية التحتية الضخمة التي تحتاجها، حسب تقرير مركز أسباب.
ولكن يرى تقرير مركز "أسباب" أن فرص التعاون الثنائي بين دول الخليج ودول آسيا الوسطى أكثر احتمالية واستقراراً من فرص التعاون متعدد الأطراف؛ حيث توجد عدة عقبات أمام الشراكة المؤسسية الجماعية بين دول مجلس التعاون الخليجي ودول آسيا الوسطى، من أبرزها أن كلا الجانبين لا يمثل كتلة متجانسة، بل تضم كل كتلة دولاً مختلفة بل وأحياناً متنافسة.
وبالرغم من هذه العقبات؛ فإن تدشين هذه الآلية الجماعية لعمل دول الخليج في منطقة آسيا الوسطى، رغم تنافس هذه الدول فيما بينها، قد يحسن من ميزة دول الخليج التنافسية في مواجهة لاعبين آخرين مهتمين بالمنطقة لأسباب جيوسياسية، خاصة روسيا والصين وتركيا والولايات المتحدة وإيران. وتؤكد القمة أن المنافسة على النفوذ والفوائد الاقتصادية في آسيا الوسطى، ستكون أكثر حدة في المرحلة القادمة، مع احتدام التنافس بين القوى الدولية، وتزايد تأثير القوى المتوسطة الصاعدة.
ولكن ما يجب فهمه أن المنافسة الدائرة حول آسيا الوسطى، والتي يبدو أن دول الخليج قد انضمت لها، تقوم على أساس أن المنطقة لم تعد ألعوبة في يد المتنافسين، فحكام المنطقة المحنكين المنحدرين من الطبقة السوفييتية السياسية بالمنطقة يحاولون الاستفادة من هذه المنافسة لتعزيز استقلال بلادهم وقدارتها وخياراتها، وليس تحوياها لساحة للصراعات المفتوحة بين القوى الدولية والإقليمية.
وقد أثبت هؤلاء القادة بحذرهم أنهم أكثر ذكاء مقارنة بالنخب الأوكرانية التي تسرعت في الارتماء في أحضان الغرب وجلب عداء روسيا (أو الولاء لها من قبل بعض النخب الأوكرانية).
لو استمرت المنافسة الدولية على هذا المنوال فإن المستفيد الأول منها هو دول آسيا الوسطى نفسها أكثر من أي طرف آخر.