لم يكن بنيامين نتياهو يتوقع مواجهة مع الجيش في إسرائيل حول التعديلات أو "الانقلاب" في السلطة القضائية، فكيف تحولت المواجهة إلى حرب رباعية الأبعاد وشديدة التعقيد؟
تعيش إسرائيل حالةً من التوتر الداخلي وتظاهرات غير مسبوقة في الأشهرالماضية، تنذر بوقوع حرب أهلية، على خلفية التعديلات القضائية التي يريد نتنياهو وحلفاؤه في الحكومة إيتمار بن غفير وزير الأمن الداخلي، وبتسلئيل سموتريتش وزير المالية، وياريف ليفين وزير العدل، تمريرها.
ورغم تصعيد المعارضة ووصول الانقسامات إلى صفوف جيش الاحتلال وقياداته، وتدخل وزير الدفاع يوآف غالانت، وتعبيره علناً عن رفض التعديلات القضائية، نجح نتنياهو في تمرير التعديل الأول من برنامجه، ما يشير إلى استمرار الانقسام بصورة لا يعرف أحد إلى أين تتجه الأمور.
تكتيك نتنياهو في إدارة "المعركة"
صحيفة Jerusalem Post الإسرائيلية نشرت تقريراً يلقي الضوء على المعركة الكبرى الجارية الآن، والتي يمكن أن تحدد مصير إسرائيل، رصد كيف يخوض نتنياهو حرباً رباعية الأبعاد مع الجيش الإسرائيلي حول الإصلاح القضائي.
ووصف تقرير الصحيفة المعركةً بأنها "ليست نظيفة" بين طرف وآخر، بل حرباً رباعية الأبعاد وشديدة التعقيد، حيث يتلاعب كل طرف بأطرافٍ متعددة لتأطير احتجاجات جنود الاحتياط في الجيش الإسرائيلي ضد الإصلاح القضائي.
فرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لم يتوقع اندلاع الاحتجاجات. لقد فاجأته الاحتجاجات، وكذلك مطالبة وزير الدفاع يوآف غالانت علناً في مارس/آذار بوقف التشريع، وأدى ذلك إلى تراجع تكتيكي من جانب نتنياهو استمر حتى أواخر يوليو/تموز.
ففي خطاب بثه التلفزيون الإسرائيلي في وقت الذروة، أواخر مارس/ آذار، قال نتنياهو: "من منطلق الرغبة في منع شقاق في الأمة، قررت تأجيل القراءتين الثانية والثالثة من أجل التوصل لتوافق واسع في الآراء"، واصفاً التحرك بأنه "فرصة لتجنب حرب أهلية". وأضاف أطول رؤساء الوزارة بقاء في المنصب في تاريخ إسرائيل: "المجتمع الإسرائيلي يسير على مسار تصادمي خطير. نحن في خضم أزمة تهدد الوحدة الأساسية بيننا".
إذ إن خطة حكومة نتنياهو، التي توصف بأنها أكثر الحكومات تطرفاً في تاريخ الدولة العبرية الذي يبلغ نحو 7 عقود تقريباً، وتهدف إلى تمكين البرلمان من تجاوز قرارات المحكمة العليا والسيطرة على التعيينات القضائية، قد أثارت بعضاً من أكبر الاحتجاجات في إسرائيل، حيث وصف المعارضون الخطوة بأنها تهديد للديمقراطية.
لكن نتنياهو استغل التراجع التكتيكي كي يضع أساساً أقوى لإصلاحه القضائي في الجولة الثانية. أولاً قام بتخفيف التشريعات وتأجيلها، والمضي قدماً في أقل المبادرات أهمية من بين أربع مبادرات رئيسية أولاً، ثم إلغاء اثنتين من المبادرات الرئيسية، وتأجيل أهمها حتى الفترة من أكتوبر/تشرين الأول إلى نوفمبر/تشرين الثاني.
وأقنع نتنياهو غالانت بأن النسخة المخففة من التشريع، بالإضافة إلى الوقت الذي منحه للمعارضة للتفاوض على التسويات، كانت كافية للمضي قدماً من جانب واحد في إلغاء معيار المعقولية.
وهكذا عندما بدأ غالانت بمهاجمة جنود الاحتياط الذين هجروا الخدمة، حذا رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، الجنرال هرتسي هليفي، حذوه. لكن النغمة تغيرت من أبريل/نيسان إلى يونيو/حزيران، بدا الأمر وكأن غالانت وهليفي على صلة وثيقة بنتنياهو.
حرب التعديلات القضائية مع الجيش
حتى إن هليفي أخبر البعض في دائرته المقربة بأنه شعر بأن بعض جنود الاحتياط "تلاعبوا به"، ومسؤول كبير آخر خلال الموجة الأولى من التهديدات، ونفذوا تهديداتهم في نهاية المطاف.
في مرحلةٍ ما خلال هذه الفترة الزمنية، انضم كبار المسؤولين الأمنيين والمسؤولين السابقين، وأصدقاء ورفاق هليفي منذ عقود، ومدير الشاباك رونين بار ومدير الموساد ديفيد بارنيا، إلى هذه الهجمات.
قالوا إنهم فهموا أنه لم يُسمح للرؤساء الحاليين بمخالفة سياسة الحكومة بشكل عام، لكنهم قالوا إن القسم الذي يتلوه جميع المسؤولين الأمنيين هو في النهاية لإسرائيل والإسرائيليين، وليس لحكومةٍ معينة.
قالوا إنه إذا أدت سياسات نتنياهو إلى نقطةٍ ما لن يكون فيها الجيش الإسرائيلي جاهزاً للحرب، فسوف يتعيَّن على هليفي والقادة الآخرين بطريقة ما إقناع نتنياهو بوقف التشريع.
حتى إقرار الإلغاء، اعتقد غالانت أن نتنياهو سيخفف من حدة الأمر من جانب واحد، كإشارةٍ مُوجَّهة إلى جنود الاحتياط الذين يهددونهم، وللإيماء بأنه حتى لو أُجرِيَت بعض التغييرات التي لا تعجبهم، فإن أسوأ مخاوفهم من تدمير استقلال السلطة القضائية لن تتحقق.
لكن نتنياهو رفض التخفيف من إلغاء معيار المعقولية، وواصل الصراخ جهراً لتغيير تعيين القضاة في الفترة بين أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني، بدلاً من الموافقة على عام آخر من المفاوضات مع المعارضة. أدى ذلك إلى قيام غالانت وهليفي وقادة الأمن الآخرين بتبديل مواقفهم مرة أخرى.
وفجأة، لم يكن جنود الاحتياط يخادعون، توقف أكثر من 700 جندي احتياطي في سلاح الجو الإسرائيلي، بما في ذلك أولئك الذين يشغلون مناصب رئيسية، عن الظهور في الخدمة، إلى جانب حوالي 10 آلاف من جنود الاحتياط.
كان هليفي ورؤساء الأمن الآخرون يقومون بحملة جادة لإقناع جنود الاحتياط بعدم ترك الخدمة، مجادلين بالأساس بأن تهديد حزب الله كان كبيراً جداً، ولا يكترث بالقضاء الإسرائيلي. واستمرت هذه الحجة عندما صوَّت الكنيست على إلغاء معيار المعقولية.
بمجرد أن رأى هليفي أن استعداد الجيش الإسرائيلي يتعرض لضربة كبيرة، لم يستطع الصمت. لقد قرر أنه لن يبالغ في بعض قضايا استعداد الجيش الإسرائيلي مثلما كان يفعل بعضٌ من "العسكريين الأساسيين" في الجيش، لكن بمجرد أن تتلقى استعدادات الجيش الإسرائيلي ضربة فعلية، سيكون موقفه صاخباً وواضحاً.
إلى أين تتجه الأمور في إسرائيل؟
بينما كان "العسكريون الأساسيون" وجنود الاحتياط المحتجون يقولون في يوليو/تموز، إن الجيش الإسرائيلي فقد استعداده للحرب، كان هليفي والقادة الحاليون يصفون ذلك بالمبالغة.
ولكن اعتباراً من نهاية الأسبوع الماضي تم تجاوز بعض الخطوط بالفعل من حيث جاهزية الجيش الإسرائيلي، وهو أمر أوضحه هليفي بشدة، وأثار غضب نتنياهو، الذي اعتبر أي خروج عن سرديته السياسية بمثابة خيانة.
في غضون ذلك، كان غالانت يساعد هليفي في طرح قضيته خلف الكواليس، لكنه لم يتعامل بعد وجهاً لوجه مع نتنياهو، كما فعل في مارس/آذار.
وبحسب تقرير جيروزاليم بوست، فإن أحد أكبر أوجه عدم اليقين هو ما إذا كان غالانت سيعطي نتنياهو إنذاراً نهائياً مرة أخرى، أو ما إذا كان قد خاف بشدة بسبب ما حدث في مارس/آذار، إلى درجة أنه سيلتزم بالخط القائل إنه بغض النظر عما تمرره الحكومة، فمن الأفضل أن يظل وزيراً للدفاع بدلاً من أن يحل محله وزيرٌ آخر من حزب الليكود، ذو تعاطفٍ أقل مع رؤساء الأجهزة الأمنية.
وهذا يعني أن غالانت يضغط حالياً على كلا الجانبين: أن يلتفت هليفي إلى نتنياهو أو يقف ضده نيابةً عنه، ورئيس الوزراء، الذي لا بد أن يكون قلقاً بشأن لجنة تحقيق حكومية في الطريقة التي ترك بها إسرائيل عرضةً للهجوم.
وهذا يعني أيضاً أن كلا الجانبين من الطيف السياسي لا يزال محبطاً من كل من غالانت وهليفي (وقادة الأمن الحاليين الآخرين) لعدم اتخاذ موقف أكثر وضوحاً.
في يومٍ قريب قد يتخلى الليكود أو جنود الاحتياط المحتجون عن هليفي أو يدافعون عنه، وسيعتمد ذلك على ما إذا كانت القضية المطروحة هي معارضة انسحاب جنود الاحتياط داخلياً، أو مناقشة علنية للاستعداد منخفض المستوى للجيش الإسرائيلي.
قد يتحول موقف نتنياهو أيضاً في مرحلة ما، الأمر الذي من شأنه أن يغير أوراق اللعب بالكامل. ففي ظل الظروف العادية، كان إعلان هليفي الأسبوع الماضي عن خطته واستراتيجيته الجديدة الخاصة بالميزانية متعددة السنوات للتعامل مع إيران، وحزب الله، وحماس، وآخرين، ليتصدَّر عناوين الأخبار في كل مكان.
لكن في الأزمة الحالية رباعية الأبعاد، لا أحد يعرف حتى شكل الجيش الذي سيكون موجوداً في سبتمبر/أيلول، وكيف سيناور كل لاعب رئيسي في هذه الأزمة، ناهيكم عن التفكير في خطة متعددة السنوات.