"الكابوس الذي كانت تتحدث عنه أفلام الحرب الباردة يتحقق"، إذ تستخدم موسكو مجموعة من الجواسيس غير المتوقعين والخلايا النائمة السرية ضد الدول الأوروبية بعد طرد جواسيس روسيا ورجال استخباراتها التقليديين من القارة.
فعلى مدار العام الماضي، اتهمت الشرطة وأجهزة الأمن في دول مختلفة العديد من الأشخاص الذين كانوا يعيشون حياة عادية في الظاهر، بأنهم جواسيس أو عملاء لأجهزة استخبارات روسية، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
جواسيس روسيا الجدد.. زوجان من الأرجنتين في سلوفينيا وبلغاريون يقيمون في بريطانيا
واشتملت قائمة المتهمين على زوجين أرجنتينيين كانا يعيشان في سلوفينيا، ومصور مكسيكي يوناني كان يدير متجراً للغزل في أثينا، ثم انضم إليهم حديثاً ثلاثة بلغاريين في بريطانيا.
لم يقتصر الأمر على هؤلاء، فقد اتهم آخرون بنقل المعلومات إلى روسيا، منهم حارس أمن في السفارة البريطانية في برلين، أُدين وحُكم عليه بالسجن 13 عاماً؛ واعتُقل أكثر من 10 أشخاص في بولندا بتهمة تنفيذ مهام مختلفة للاستخبارات الروسية.
ولا يُعرف إلا القليل حتى الآن عن البلغار الثلاثة، الذين قيل إنهم من بين 5 أشخاص اعتُقلوا في فبراير/شباط 2023. وقد وُجّهت إليهم تُهم، لكن محاكمتهم لن تبدأ إلا في يناير/كانون الثاني من العام المقبل، ولم يقدموا بعدُ عرائض دفاع عن أنفسهم، ولم تعلن السلطات البريطانية عن أي تفاصيل بشأن المزاعم الواردة بشأنهم.
بوتين اضطر لتنشيط الخلايا النائمة لروسيا بعد طرد جواسيسه الأساسيين
على الرغم من ذلك، فإن هذه الأخبار تكشف عن أمر آخر صار واضحاً: وهو أنه منذ أن شن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، حربه على أوكرانيا في فبراير/شباط الماضي، اضطرت موسكو إلى اللجوء إلى أساليب أكثر خطورة وأبعد عن المألوف للتجسس على خصومها. وأبرز أسباب ذلك أن كثيراً من الجواسيس، الذين زرعتهم روسيا في أوروبا تحت غطاء العمل الدبلوماسي، قد طردوا بعد غزوها لأوكرانيا.
كان المعهود أن تنشر أجهزة الاستخبارات الروسية الكبرى الثلاثة -"جهاز الأمن الفيدرالي" FSB المحلي، و"جهاز المخابرات الخارجية" SVR، و"مديرية المخابرات الرئيسية" GRU- عملاءها في الخارج، تحت غطاء العمل الدبلوماسي في السفارات والقنصليات وغيرها. وكانوا يستعينون كذلك بجواسيس ينتحلون صفة رجال أعمال، أو سائحين، أو صحفيين روس.
لكن عواقب الحرب جعلت استمرار الاستعانة بالوسائل المعتادة أمراً شديد الصعوبة. فقد كشفت بيانات "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" الأمريكي أن أكثر من 450 دبلوماسياً طُردوا من السفارات الروسية في الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب، وكان معظمهم يعمل في دول أوروبا.
قال مسؤول استخبارات أوروبي لصحيفة The Guardian البريطانية في الربيع: "شهدت الفترة التي أعقبت الحرب الأوكرانية إجراءات طرد كثيرة، فتعرّض نظام المخابرات الروسي لمحنة مصيرية، وقد حاولوا أن يستبدلوا بالوسائل القديمة طرقاً مختلفة".
العملاء الروس أصبحوا خاضعين لرقابة لصيقة وحتى مواطنيها العاديين
وأُغلقت سبل عديدة لطالما استخدمتها روسيا لإدارة عمليات التجسس. ويُذكر هنا أن الجواسيس الذين استعانت بهم روسيا لتسميم سيرغي سكريبال -الضابط السابق بالمخابرات الروسية، والعميل المزدوج لدى جهاز الاستخبارات البريطاني- بسمِّ النوفيتشوك في عام 2018، كانوا من عملاء مديرية المخابرات، وقد استخدموا جوازات سفر روسية صادرة بهويّات مزوّرة، للحصول على تأشيرات بريطانية.
وتعقبت مجموعة "بيلنغكات" Bellingcat الصحفية الاستقصائية أرقام جوازات سفر عدد من جواسيس روسيا، فتبيَّن أنها صادرة عن مكتب جوازات سفر معين في روسيا، وهو ما أتاح التعرف على كثير من عملاء مديرية المخابرات الروسية الذين استخدموا جوازات سفر بأرقام متسلسلة، وتمكنت المجموعة بعدها من رفع الغطاء عن العديد من الجواسيس الروس.
علاوة على ذلك، صار من العسير على أي مواطن روسي منذ بداية الحرب أن يستخرج تأشيرات للسفر إلى بريطانيا أو إلى منطقة شنغن الأوروبية، ما يعني أن العملاء من أمثال هؤلاء الذين اغتالوا سكريبال سيتعذر عليهم الآن أن يحصلوا على تأشيرات السفر إلى أوروبا حتى لو لم تجد السلطات لهم صلةً بمديرية المخابرات الروسية.
بناء على ذلك، اضطرت روسيا إلى تفعيل خلايا التجسس النائمة، ونقل المزيد من أعمال التجسس الجارية إلى عملاء ونشطاء غير رسميين. وقد يكون هؤلاء من رعايا دول أخرى، أو عملاء "مزروعين بطرق غير قانونية" من الجواسيس الروس الذين ينتحلون صفة الرعايا من دول ثالثة، ويقضون سنوات من الجهد لبناء غطائهم الذي يستترون وراءه لممارسة أعمال التجسس.
برنامج بدأ في العهد السوفييتي وجواسيسه لم يكونوا كثيري النشاط
جواسيس روسيا الجدد، ليسوا جدداً حرفياً، فهذه الخلايا النائمة تنتمي إلى برنامج بدأ العمل به في الحقبة السوفييتية، وهم لا يشاركون إلا في القليل من أعمال التجسس النشطة، ما يسمح لهم بالتخفي والاندماج في مجتمعات الخصوم لأداء مهام طويلة الأجل.
ومع ذلك، كُشف العام الماضي عن 7 أشخاص، يُزعم أنهم كانوا يعملون ضمن خلايا تجسس نائمة في النرويج والبرازيل وهولندا وسلوفينيا واليونان. وقد تمكن بعضهم من الفرار، ويفترض أنهم عادوا إلى روسيا؛ لكن السلطات تمكنت من اعتقال آخرين، ولا يزالون محتجزين في الغرب.
أما الثلاثة الذين قُبض عليهم في بريطانيا للاشتباه في تجسسهم، فقد اعتُقلوا في فبراير/شباط، أي بعد شهرين من اعتقال "ماريا ماير" و"لودفيج غيش" في العاصمة السلوفينية ليوبليانا. وتذهب السلطات هناك إلى أن الزوجين الروسيين كانا يتظاهران بأنهما من الأرجنتين، لكنهما في الواقع ضابطان محترفان في جهاز المخابرات الخارجية الروسي.
أدارت ماريا معرضاً فنياً في ليوبليانا، واستخدمت هذه الوظيفة لتسويغ سفرها المتكرر إلى بلدان مختلفة، منها بريطانيا. لكن لا يُعرف ما إذا كانت قد نفذت عمليات تجسس في بريطانيا، ولا يوجد دليل واضح يربطها أو غيرها من العملاء الروس بالبلغار الثلاثة الذين اعتُقلوا حديثاً.