وظائف الدماغ البشري وقدراته مذهلة، فالدماغ هو العضو الأكثر تعقيداً في جسم الإنسان. يكفي أنه يحتوي على حوالي 100 مليار خلية عصبية تحمل المعلومات وتوزعها، ومعدّل وزنه 1.4 كيلوغرام، ما يعني أنه يحدد عملياً كيف يواجه حامله العالم من حوله.
ورغم ذلك، يعتقد كثيرون أن الإنسان لا يستخدم سوى 10% فقط من دماغه، ويبدو أن هذه الفكرة متجذرة بقوة في الثقافة الشعبية، رغم دحضها مراراً وتكراراً من قِبل دراسات مختلفة أشرف عليها علماء وباحثون.
في الفيلم الأمريكي الشهير Lucy (إنتاج 2014)، تتمكن البطلة التي تلعب دورها سكارليت جوهانسون من الحصول على قدرة دماغية كاملة، بعد أن يتسرب إلى جسدها دواءٌ جديد كان من المفترض أن تقوم بتهريبه.
يشحذ هذا الدواء قدرات العقل ويرفعها من نسبة 10% إلى 100%، فتتحول إلى ما يشبه الـ"إلهة". وفي فيلم Limitless (إنتاج 2011)، يلعب برادلي كوبر دور إيدي الذي يحصل بالصدفة على حبّة شفافة ترفع من قدرات عقله بشكلٍ هائل، لدرجةٍ تمكنه من التحكم في السوق العالمي.
كل ذلك يعني أن نسبة الـ10%، التي يستخدمها الإنسان من دماغه، هي واحدة من أشهر الأساطير وأكثرها رواجاً في علم النفس الشعبي.
هل يستخدم الإنسان 10% فقط من دماغه؟
يعود أصل الأسطورة إلى نظرية "الطاقة الاحتياطية" التي وضعها عالما النفس في جامعة هارفارد، وليم جيمس وبوريس سيديس، في تسعينيات القرن الـ19. وبعد اختبار أجرياه على 300 طفل، قال وليم جيمس إن الناس لا تستخدم سوى جزءٍ بسيط من إمكانياتها العقلية الكاملة.
لاحقاً في العام 1936، لخّص الكاتب الأمريكي لويل توماس هذه الفكرة في مقدمته لكتاب ديل كارنيغي How to win friends & influence people، كاتباً: "لطالما قال البروفيسور وليم جيمس، من جامعة هارفارد، إن الرجل العادي لا يستغل إلا 10% فقط من قدراته العقلية الكامنة". هنا بدأت الأسطورة.
استقلَّت الفكرة عن قائلها، وباتت تُعامل على أنها حقيقة علمية مُثبتة، وأن الإنسان يستخدم 10% فقط من دماغه. ورغم أن وليم جيمس يوصف بأنه مؤسّس علم النفس الأمريكي، لكن يؤسفنا أن نخبرك عزيزي القارئ أن هذا الادعاء خاطئ تماماً.
في حديثٍ إلى موقع Live Science، أكدت إيرين هيشت (الأستاذة المساعدة في علم الأعصاب التطوري بجامعة هارفارد الأمريكية) أننا نستعمل الدماغ كله طوال الوقت. وأضافت: "في محاضراتي، كلما ذكر أي طالب هذه الأسطورة، أرد عليه بالقول: إن كنت تستعمل 10% فقط من دماغك، فغالب الأمر أنك موصول بجهازٍ للتنفس".
وشبَّهت هيشت نشاط الدماغ في هدوئه بنشاط القلب، حين يكون الجسم في حالة راحة. فالقلب يستمر في ضخ الدم، حتى لو لم يكُن يعمل بأقصى طاقته. وبالمثل، فإن خلايا الدماغ العصبية في حالة نشاط دائمة، حتى وإن كان الدماغ لا يعمل بالحد الأقصى.
من جهتها، ترى جولي فراتانتوني (عالمة الأعصاب الإدراكي في جامعة تكساس) أن هذا الادعاء "ليس إلا أسطورة مضحكة"، وتساءلت ما المقصود بنسبة الـ10%: "هل هي 10% من إنتاج الطاقة الدماغية، أم 10% من النشاط الكهربائي؟ أم مستويات أكسجة الدم"؟
ما هي وظائف الدماغ إذاً؟
ينقسم الدماغ إلى مناطق منفصلة، ويعمل عبر شبكات مختلفة، أي أنه لا توجد منطقة واحدة تعمل بمعزل عن غيرها. هي شبكة دماغية واسعة النطاق تنشط في حالة عدم التركيز بالعالم الخارجي، أي خلال حلم اليقظة مثلاً والشرود الذهني.
أفضل أداة لقياس نشاط الدماغ هي التصوير بـ"الرنين المغناطيسي الوظيفي" (FMRI). وتتطلب هذه التقنية أن يستلقي الشخص داخل ماسحٍ ضوئي، يشبه الأنبوب، لتسجيل استجابته لمحفزات مختلفة.
هذه التقنية -وغيرها- التي أصبحت شائعة الاستخدام في السنوات الـ25 الماضية، أحدثت ثورة في فهمنا لوظيفة الدماغ. فقد أظهرت دراسة نشرتها المكتبة الوطنية الأمريكية للطب (NIH) أننا نستخدم وظائف الدماغ معظم الوقت، حتى عندما نقوم بعملٍ بسيط للغاية.
تظهر فحوصات التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني (PET Scan) أن الدماغ كله يكون نشطاً وباستمرار، حتى في فترات النوم، أو المراقبة، والتخطيط.
ووفقاً لموقع Psychological Science، فحتى الأشخاص الذين يعانون من الاضطرابات العصبية التنكسية، مثل مرض آلزهايمر وباركنسون، لا يزالون يستخدمون أكثر من 10% من أدمغتهم.
وقد تختلف نسبة استخدام وظائف الدماغ من شخصٍ إلى آخر بالطبع؛ لأن ذلك يعتمد على ما يفعله الشخص أو يفكر فيه. والحقيقة أن قيامك بوظيفة بسيطة، مثل تحضير كوبٍ من القهوة، يُمكنه أن يُظهر نشاطاً واضحاً نسبته أكبر بكثير من 10% في مناطق دماغك.
الدماغ البشري وقدراته المذهلة
توظف أدمغتنا طاقة أقل للمهارات التي نعرفها جيداً. وحين نُمارس مهارة ما، تتغير أدمغتنا بعدة طرق يمكن ملاحظتها: أولاً، تتضخم أنسجة المخ المرتبطة بمناطق تلك المهارة تضخماً مادياً.
وفي الوقت نفسه، كلما زاد تدريب الدماغ على مهارة ما، زادت فاعليتها وخبرتها بهذه المهارة وقلّت الطاقة التي يتطلبها القيام بها؛ وبطريقة أبسط، كلما زادت كفاءتك في القيام بأمرٍ ما، قلَّ النشاط الذي يتطلبه من الدماغ.
لذا وإذا تساءلتَ ما هي أفضل وسيلة لمعرفة حدود قدرتك، أو ما الذي يمكن أن تفعله لاستغلال إمكاناتك إلى أقصى حد؟ فإن الإجابة بسيطة: أن تمارس المهارة التي تريد صقلها بإرادة وعزم لا يفتران، وسترى نتائج مذهلة. كيف ذلك؟
خذ مثلاً حالات الإصابة بـ"سكتة دماغية"؛ يمكن للمريض الذي أُصيب بها أن يعزز ويطور قدراته الإدراكية، بالاعتماد على أجزاءٍ أخرى من الدماغ تتولى هي الوظيفة، التي كانت تقوم بها المنطقة المتضررة.
أو يمكنك أن تأخذ مثلاً حالات أصعب، مثل استئصال الفص الجبهي للمخ، والتي يضطر الجرّاحون اللجوء إليها في حالاتٍ محددة من الاعتلالات العصبية.
صحيح أنه قد تظهر على المرضى أعراض أولية مختلفة، واختلال في الوظائف الحركية، لكن تدريجياً -ومع العمل الدؤوب- يمكن للدماغ أن يتكيف مع الوضع الحالي للمريض، ويعيد تنظيم ذاته، وتطوير وظائف إضافية بديلة عن تلك التي فُقدت.
والخلاصة أن الادعاء بأن الإنسان لا يستعمل إلا 10% من قدرات ووظائف الدماغ، ليس أسطورة فحسب، بل ليس له أهمية في هذا السياق.
فالدماغ جهاز يتمتع بمرونة مذهلة وقدرات لا مثيل لها، تمكّنه من التكيّف مع أي وضعٍ يُفرض عليه، فيُعيد بناء نفسه عند تلف منطقةٍ ما. وحتى إذا أُزيل جزءٌ منه، فباستطاعته أن يجد طريقةً أخرى للعمل بها.