تعجّ صفحات الجرائد والمجلات مثلها كمثل صفحات منصات التواصل الاجتماعي بأخبار الانقلاب العسكري الذي حدث بالنيجر منذ أكثر من أسبوعين، في مشهد ربما كان متوقعاً لدى كثيرين، خاصةً بعد ما جرى في البلدان المجاورة، بالإضافة لكون البلد كان قد شهد العديد من الانقلابات منذ استقلاله، تكلل بعضها بالنجاح، والبعض الآخر بالفشل والسقوط.
الانقلابيون العسكر، الذين أطاحوا بنظام حكم الرئيس محمد بازوم، يرفضون حتى الآن إطلاق سراحه رغم المناشدات الدوليّة، خاصةً الأوروبيّة والأمريكيّة منها، وهي دعوات رمتها أيادي العسكر في سلة المهملات، إذ وفقاً لتقارير فالرئيس محمد بازوم، البالغ من العمر 63 عاماً، فَقَد قدراً "مقلقاً" من وزنه، بينما حُرم ابنه البالغ من العمر 20 عاماً، والذي يعاني من حالة طبية مزمنة، من الرعاية.
وليست وحدها تلك الدول من دعت، بل إن مجموعة اقتصاد دول غرب إفريقيا "إيكواس" كذلك جدّدت تحذيراتها العسكر من أجل إطلاق سراح الرئيس الشرعي، وتركه يزاول مهامه الدستوريّة التي منحه إياها الدستور الذي تمّ تعليقه هو الآخر، لكن يبدو أنّ المجموعة قد لوحت باستعمال القوّة العسكريّة في حال عدم إذعان العسكر لدعواتها وتهديداتها.
فقد أكّد مفوّض السلم والأمن في إيكواس عبد الفتاح موسى، أن لدى المجموعة أسساً قانونية للتدخل في النيجر، وهي لا تحتاج لموافقة مجلس الأمن الدولي، مشدداً على أن إيكواس أبلغت مجلس الأمن الدولي بعدما تحركت عسكرياً في تدخلاتها السابقة.
لكن ربما حصل شيء من الانقسام داخل صف المجموعة، التي تتكون من 15 دولة، حيث إنّ مالي وبوركينافاسو تعارضان بشدة مسألة التدخل العسكري في النيجر، وربما يعزى ذلك إلى كون النظام الحاكم هناك جاء على رأس دبابة، وأن الأنظمة المتشابهة تحمي وتساند بعضها بعضاً، لكن قبل ذلك تريد هذه المجموعة بارقة أمل، عندما أرسلت مفاوضاً عنها إلى النيجر للتباحث أو لنقل التفاوض مع زعماء السلطة الجدد، ربما لإقامة الحجة البالغة قبل القيام بإجراءات أكثر حزماً وشدّة، رغم أن بعضاً منها قد ظهر فعلاً عندما أوقفت نيجيريا التزويد بالكهرباء، فخيّم الظلام على العاصمة نيامي وغالبية مدن النيجر.
ردود الفعل الخارجيّة التي تشهد تناغماً كبيراً من كثير من الدول والمجموعات تجد لها عدّة تفسيرات، ففرنسا وأمريكا والغرب عموماً تخاف من ضياع المصالح الاقتصاديّة لها، ومن زيادة النفوذ والتغلغل الروسي العسكري بقيادة فاغنر، والصيني الاقتصادي، واللذان سيملآن الفراغ الغربي بكل الثقل اللازم في حال سقوط النيجر فعلياً، بحسب وصفهم، وبالتالي سقوط آخر المعاقل الغربيّة في الساحل الإفريقي، الذي يعد تاريخياً امتداداً لفرنسا ومصالحها الحيويّة هناك، كذلك هناك هاجس الرعب من الهجرة غير النظاميّة، وانتشار الجماعات المسلحة، ونمو مسألة تهريب السلاح وما يرافقها من انفلاتات أمنيّة مضنية، والحقيقة أن فرنسا تحاول الآن، من أجل المحافظة على آخر حاضنة لها في الساحل الإفريقي، ولجيشها واقتصادها وحاجاتها النوويّة.
لكن يبدو أن قادة الانقلاب لديهم الكثير من الدعم الداخلي والخارجي لشرعنة ما قاموا به، وإيجاد أرضيّة قانونيّة في حال موافقة الشعب النيجري على كل خطواتهم السابقة واللاحقة، والتحضير لمرحلة انتقاليّة تُخرج البلد من مرحلة التبعية لفرنسا الاستعمارية، وتأميم كافة مقدرات البلد المستنزفة، فقد وصف قائد "فاغنر" الروسية، يفغيني بريغوجين، في تسجيل صوتي مسرب، محاولة الانقلاب في النيجر بأنها "كفاح ضد المستعمرين".
كما حذرت الخارجية الروسية في بيان لها، من أن التدخل العسكري لتسوية الأزمة في النيجر قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار في منطقة الساحل والصحراء. ما قد يشير لتعقد المشهد مستقبلاً.
بالإضافة لذلك، ترفض دولة بوركينافاسو وجارتها مالي خيار التدخل العسكري في النيجر، ويجب الذكر أن "إبراهيم تراوري" القائد البوركيني الجديد يتشارك نفس الرؤية، التي يدعي تبنيها قادة الانقلاب في النيجر، ألا وهي التخلص من الاستعمار الفرنسي وبقاياه.
لكن قبل ذلك يجب طرح سؤال مهم: هل هؤلاء الجنرالات لديهم النيّة الحسنة الحقيقيّة في إرجاع البلد إلى شعبه؟ أم أن مثلهم مثل كل هؤلاء الانقلابيين الذين استولوا على حكم القارة في القرن الماضي، ورسخوا الاستبداد والفساد فيها رغم وعودهم البراقة! ثمّ هل يستطيع أولئك الحفاظ على مكاسبهم، ومواجهة كل من يريد إسقاط أحلامهم وإنجازاتهم في الماء، وإرجاع النيجر إلى نقطة اللّاعودة؟
ربما يأمل الحالمون في إفريقيا أنّ يكون ما يحدث ليس انقلاباً، بل تصحيح مسار أو تغيير وضع، فمن أطاحوا بنظام بازوم هم بالنهاية أبناء الشعب النيجري ويمثلونه، أو على الأقل يمثلون جزءاً واسعاً منه، وهم الذين ضاقوا ذرعاً من الاستلاب الممنهج لفرنسا في المنطقة، ويريدون تأميم ثرواتهم والتمتّع بها، وهو بالنهاية حقٌّ مشروع لكلّ أمم المعمورة، ولكن في ظل تعقد المشهد وتعدُّد الأطراف الدولية يتضاءل النور في الأفق، الذي ينتظره الكثيرون ليبدد عتمة الوضع السياسي والأمني والمعيشي داخل الديّار النيجريّة والإفريقية اليوم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.