في 8 أغسطس/آب الجاري، انعقد في المقر الصيفي للبطريركية المارونية، في الديمان (محافظة الشمال)، لقاء وزاري تشاوري مع البطريرك بشارة الراعي، حضره رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، بالإضافة إلى 16 وزيراً من أصل 24 تتألف منهم حكومة تصريف الأعمال.
وبحسب ميقاتي، في تصريح له من الديمان، فإن انعقاد هذا الاجتماع، الذي هو "ابن ساعته" (مع أنه كان قد دعا لهذا اللقاء قبل عدة أيام)، كان ضرورياً "في بلد بلا رئيس جمهورية ومليء بالمناكفات"، وأن اللقاء تطرّق إلى "أمور كثيرة تجمعنا وهي احترام الصيغة والتنوع والوحدة اللبنانية وهي ثروة للبنان ونبدي خشيتنا من أن تتعرض القيم للتهديد". وفي ختام اللقاء، صدر بيان عن اللقاء، شدّدت فقراته على مختلف هذه الأمور.
أغلبية الانتقادات للقاء جاءت من باب طائفي، فالأوساط المسيحية، لا سيما التي تدور في فلك التيار الوطني الحر برئاسة جبران باسيل (الوزراء المحسوبون عليه في الحكومة تغيبوا عن اللقاء)، بالإضافة إلى حزب القوات اللبنانية برئاسة سمير جعجع، اعتبرت أن اللقاء يشكل نوعاً من الغطاء من قبل رأس الكنيسة المارونية لاستمرار الشغور في الموقع الماروني الأول في الدولة، أي رئاسة الجمهورية، ولاستمرار الحكومة بما يعتبرانه اغتصاباً لصلاحيات رئيس الجمهورية وحقوق المسيحيين.
أما الأوساط السنية، فرأت في تصرف ميقاتي هرطقة دستورية تشكّل تفريطاً بصلاحيات الموقع السني الأول في الدولة، أي رئاسة الحكومة، لا سيما أن الدستور ينص على أن للحكومة مقرّاً رسمياً تجتمع فيه.
بغض النظر عن أحقية هذه الانتقادات التي جاءت من باب طائفي، من عدمها، لا سيما في نظام دستوري يقوم أصلاً على المحاصصة الطائفية، إلا أنها قد أغفلت ما هو أساسي ويعني كل اللبنانيين وحرياتهم.
فقد ورد في البيان الصادر عن اللقاء، من بين مواضيع أخرى، تشديد على ضرورة "التشبث بالهوية الوطنية وآدابها العامة وأخلاقياتها المتوارَثة جيلاً بعد جيل، وقيمها الايمانية لا سيما قيمة الأسرة وحمايتها، وإلى مواجهة الأفكار التي تخالف نظام الخالق والمبادئ التي يجمع عليها اللبنانيون"، وذلك بعد أن نبّه البيان نفسه من "مفرداتُ خطابٍ مموَّه بدعاية الحداثة والحرية وحقوق الإنسان، يناقض القيم الدينية والأخلاقية التي هي في صلب تكويننا النفسي والروحي والاجتماعي. ويشكّل هذا الخطاب مخالفة صريحة لنص وروحية المادتين التاسعة والعاشرة من الدستور اللبناني".
المقصود هنا هو المثليون وحقوقهم، ويأتي بيان الديمان في شقه هذا تحديداً، كتكملة لحملة عابرة للطوائف والمذاهب ضد المثليين، شارك فيها مشايخ في الطائفة السنية، وكذلك الأمين العام لحزب اللّه حسن نصر اللّه، وغيرهم الكثيرون.
ولكن بغضّ النظر عن رأي كل منا بقضية المثليين وحقوقهم، إلا أن بيان الديمان يطرح في شقه هذا علامات استفهام جوهرية كثيرة، تتعدى مسألة المثليين، وهي بطبيعة الحال أعمق بكثير من الصراع على الصلاحيات بين الطوائف، وهذه الأسئلة تتعلّق، بشكل أساسي، بطبيعة النظام اللبناني من الناحية الدستورية، كما بانعكاسات ذلك على الحرية الفكرية.
تحوير الروحية المدنية لدستور الطائف
ما يجب أن يعني اللبنانيين أولاً وأساسا، على ضوء ما ورد في بيان الديمان، هو الناحية الدستورية، لا سيما لجهة ما يتعلق بطبيعة النظام القائم في لبنان. فهل يفهم من نص بيان الديمان أنه قد أصبح في لبنان مرشداً أعلى للجمهورية تجتمع لديه الحكومة، ولو جزئياً، ويخضع لإرشاداته مجلس الوزراء؟
وهل أصبحت المادتان التاسعة والعاشرة من الدستور اللبناني، المذكورتان في نص بيان الديمان، واللتان تكفلان حرية الاعتقاد، وحرية التعليم "ما لم يخلّ بالنظام العام أو ينافي الآداب أو يتعرض لكرامة أحد الأديان أو المذاهب" (المادة العاشرة)، موازيتين مثلاً للمواد من 107 إلى 112 من الدستور الإيراني (الفصل الثامن: القائد أو مجلس القيادة) المتعلقة بالمرشد الأعلى للجمهورية وصلاحياته؟
بكلام آخر، السؤال الأساسي هنا هو التالي: على ضوء قراءة بيان الديمان في الدستور اللبناني، لا سيما تأويله للمادتين 9 و10 منه، هل يجب اعتبار أن النظام الدستوري الذي أرساه اتفاق الطائف، الذي يدعو البيان -عن حق- للتمسك به، قد أصبح نظاماً ثيوقراطياً؟ هل يشكّل بيان الديمان سابقة ثيوقراطية في النظام القائم، سيبنى عليها من الآن وصاعداً؟
صحيح أن اتفاق الطائف قد أرسى نظاماً طوائفياً، وصحيح أنه أعطى حقوقاً للطوائف المعترف بها قانوناً، ولرؤسائها، ولكن روحية الطائف هي روحية "مدنية"، بمعنى أن الدولة اللبنانية، بحسب دستور الطائف، هي دولة "مدنية" وليست دولة دينية، فالمادة التاسعة من الدستور تنص على أن "الدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب"، ولكن لم تقل إطلاقاً إن لبنان جمهورية ثيوقراطية (دولة دينية) خاضعة لحكم رجال الدين، بل الفقرة "ج" من مقدمة الدستور تنص صراحة على أن "لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد".
فمثلاً، صحيح أن المادة 19 من الدستور تعطي الحق بمراجعة المجلس الدستوري لرؤساء الطوائف المعترف بها قانوناً (بالإضافة إلى رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء أو إلى 10 أعضاء من مجلس النواب)، ولكنها تحصر صراحة هذا الحق، بما يتعلق برؤساء الطوائف تحديداً، فقط بالقوانين المتعلقة "بالأحوال الشخصية، وحرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية، وحرية التعليم الديني".
وفي نفس سياق الروحية المدنية لدستور الطائف، تنص المادة الثامنة من الدستور على أن "الحرية الشخصية مصونة وفي حمى القانون"، والمادة 13 على أن "حرية إبداء الرأي قولاً وكتابة وحرية الطباعة وحرية الاجتماع وحرية تأليف الجمعيات كلها مكفولة ضمن دائرة القانون"، أما الفقرة ح من مقدمة الدستور، معطوفة على المادة 5 منه، فتنصان صراحة على إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية.
بكلام آخر، أرسى دستور الطائف، من خلال ما يمكن تشبيهه "بميزان الجوهرجي"، نوعاً من التوازن بين مدنية الدولة من جهة، وبين حقوق الطوائف من جهة أخرى، ولكن يبدو أن تحالف الطبقة السياسية مع رؤساء الطوائف يريد أن يجعل دفة هذا الميزان الدقيق تميل لصالح حقوق الطوائف ورؤسائها، على مصلحة الحريات ومدنية الدولة، وفي ذلك إعادة قراءة تحويرية، لا بل تشويهية خطيرة لطبيعة النظام الذي ينص عليه دستور الطائف، ومحاولة للانتقال به من نظام مدني طوائفي، إلى نظام ثيوقراطي (حكم ديني) عابر للطوائف.
"نظام الخالق" والشرطة الفكرية
ما يلفت النظر في بيان الديمان تحديداً، تعبير مبهم فضفاض، هو تعبير "نظام الخالق"، وقد ورد في جملة "مواجهة الأفكار التي تخالف نظام الخالق والمبادئ التي يجمع عليها اللبنانيون".
فما هو تعريف المجتمعين في الديمان لـ"نظام الخالق"؟ هل المقصود "نظام الخالق" بمفهومه اللاهوتي؟ أو الإسلامي؟ أو البوذي؟ أو الهندوسي؟ أو بمفهوم ديني آخر؟ أو المقصود هو المفهوم حسب توليفة مسكونية عابرة للأديان نجهلها؟ فلا يمكن تجاهل حقيقة أنه يوجد اختلافات في مفهوم "نظام الخالق" بين ديانة وأخرى، وإن اشتركت (بعضها) في بعض عناصر هذا المفهوم. فأي مفهوم ديني يجب اعتماده أمام مجلس مرشدي الجمهورية اللبنانية العابر للطوائف المستجد؟
والأهم، هل يعني ذلك أن المفهوم العلمي لنظام الكون أصبح مرفوضاً في لبنان، لا سيما أنه ليس هناك من "إجماع" على مبدئه بين اللبنانيين؟ بكلام آخر: هل نظرية البيغ بانغ (الانفجار الكبير) أصبحت من المحرمات في لبنان لأنها "تخالف نظام الخالق" من وجهة نظر كثير من التأويلات الدينية؟ وهل أصبحنا ملزمين في المدارس بتعليم أولادنا حصراً نظرية الخلق الدينية، واعتبار أنّ نظرية البيغ بانغ من عمل الشيطان؟
وعليه، هل نظرية التطور الداروينية مطابقة لمواصفات مفهوم "نظام الخالق" بحسب معايير بيان الديمان، أم أنها من "الأفكار" التي يجب "مواجهتها" أيضاً؟ وهل كروية الأرض تحترم معايير مفهوم "نظام الخالق" بحسب مجمع ميقاتي -الراعي الفقهي- اللاهوتي، أم أنه أصبح لزاماً على اللبنانيين الإيمان أنّ الأرض مسطّحة؟ ولو عاد غاليليو للحياة بيننا، فهل ستتم محاكمته مجدداً "وتطويعه" أمام محاكم تفتيش، "تعايشية" إسلامية ـ مسيحية هذه المرة، في حال تجرأ على القول بمركزية الشمس؟ فماذا لو أجمع اللبنانيون على مركزية الأرض؟ وماذا لو كان القول بمركزية الشمس وبدوران الأرض حولها يخالف معتقدات البعض المتعلقة بـ"نظام الخالق؟!
وبجميع الأحوال، من هو المرجع الصالح لتقرير ما هي "الأفكار التي تخالف نظام الخالق"؟ ومن يقرّر أي "مبادئ (هي) التي يجمع عليها اللبنانيون"، حسب ما ورد في بيان الديمان؟ وبالمناسبة، منذ متى يجمع اللبنانيون على أي شيء؟ ومن قال أصلاً إنّ الإجماع أمر صحي، لا سيما من الناحية الديمقراطية؟ فكل الانظمة التوتاليتارية (الشمولية) عبر التاريخ غالباً ما تلطت خلف ذريعة "الإجماع" كي تضرب التعددية والتنوع في الآراء، في حين أنها "تتغنى" بهذه التعددية الصورية فقط "على عيون العالم".
بالمحصلة، إن فتحنا على أنفسنا باب الرقابة الثيوقراطية الاعتباطي هذا والذي يهدد الحريات، فمن يغلقه بعد ذلك؟
الخلاصة
بغضّ النظر عن رأي كل منا بموضوع المثلية وبحقوق المثليين، ما يجب أن يعنينا أولاً وأساساً هنا، كمواطنين لبنانيين، هو استثمار البعض في الوقوف بوجه الخطاب "المروج" للمثلية، للتمهيد وتشريع الأبواب أمام التغوّل المقلق لرجال الدين ومؤسساته في السياسة (تغيير طبيعة النظام الدستوري القائم والجنوح نحو ما هو أسوأ منه: نوع من الثيوقراطية العابرة للطوائف)، مع ما يرافق ذلك من إرساء لقواعد شرطة فكرية توتاليتارية تهدد الحريات، لا سيما حرية الفكر والبحث العلمي، وذلك بذريعة "إجماع" اللبنانيين وعدم مخالفة "نظام الخالق".
في حين تخرج الدول العربية تدريجياً من النموذج الثيوقراطي، من المؤسف أن نرى أنّ الافكار الرجعية الماضوية، أكانت ثيوقراطية و/أو هوياتية، تعشعش في الفراغ الفكري المهيمن فوق جيفة الدولة اللبنانية، التي هي في طور الانطفاء التدريجي البطيء.
ويتجلى آخر مظاهر انطفاء الدولة اللبنانية، المستمر أقله منذ خريف 2019، في محاولة الطبقة السياسية، المتحالفة مع طبقة رجال الدين، القضاء على ما تبقى من ثقافة وفكر واستنارة في البلد، وإعادة لبنان إلى القرون الوسطى عبر ردة فكرية تأخذه نحو نوع من الثيوقراطية الدينية، وذلك كحل وهمي لمناكفاتها، مع ما يرافق ذلك من ضرب للحريات بذريعة الوحدة الوطنية.
بالمحصلة، تثبت دولة (أو بالأحرى نظام) تحالف الفساد والثيوقراطيات الإقطاعية – المسلحة منها وغير المسلحة، يوماً يعد يوم، أنها خارج العصر وروحه (الزايتغايست)، أنها خارج الزمن، أنها خارج التاريخ. أما لبنان، لبنان الجميل، لبنان الفكر والثقافة والانفتاح، فأصبح غالباً خارج المكان، أصبح خارج لبنان، أصبح موجوداً في كل مكان -على اتساع الكرة الأرضية وبلاد المهجر- إلا في لبنان. إنه، بلد الانفصام الزماني – المكاني.
اللّهمّ، يا بارئ الأكوان، يا خالق البشر والهوام، نوّر عقولنا وقلوبنا وبصائرنا بالحكمة، والعلم، وكثير الإيمان، واحم بلدنا لبنان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.