هل كان يمكن منع الانقلاب في النيجر أو على الأقل تهريب رئيس البلاد محمد بازوم لخارج البلاد، وكيف لم تكتشف أمريكا، التي دربت جيش النيجر ومولته، مؤامرة الانقلاب هذه؟
عندما بدأ الانقلاب جدّد محمد بازوم غرفته الآمنة في الطابق الأرضي من قصره مؤخراً لحماية نفسه من أحداثٍ كهذه. انتشر المتمردون من حرسه الرئاسي في حرم القصر بالخارج والغضب ينتابهم حيال مقترح باستبدال قائدهم القديم، وفقاً لمسؤولين من النيجر والولايات المتحدة وأوروبا. وانكب بازوم على الهاتف بجوار زوجته وابنه، وأخذ في تشجيع مستشاريه على إرسال وحدات الجيش العادية.
لكن بعد مضي أسبوع واحد، لا يزال بازوم سجيناً داخل قصره، فيما يطلب قادة المجلس العسكري المساعدة من شركاء فلاديمير بوتين الإقليميين، بينما أصبحت الولايات المتحدة على مشارف خسارة أهم حلفائها داخل منطقة حيوية وغير مستقرة من إفريقيا، حسب ما ورد في تقرير لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية.
أمريكا تفشل في التنبؤ بسابع انقلاب في المنطقة بينما كبرى مناصبها بإفريقيا شاغرة
وتحوّل النزاع الغامض في صفوف الحرس الرئاسي للنيجر إلى ما يبدو أنه انتصار جيوسياسي لروسيا ومجموعة فاغنر، في خضم سعيهم لتبديل ولاء حلفاء الغرب.
وإذا نجح الانقلاب، فقد يؤدي إلى استحواذ روسيا على بعض أهم قواعد الطائرات المسيرة الأمريكية، التي تُستخدم لتنفيذ المهمات بطول الصحراء الكبرى بين ليبيا ونيجيريا. يُذكر أن مرتزقة فاغنر قد استولوا من قبل على مواقع القوات الأمريكية والفرنسية السابقة في سوريا ومالي.
ولم تكن هذه النتيجة حتمية، لكن الأسبوع اتسم بارتكاب الزلات وانقطاع الاتصالات، ما دفع بدولة النيجر الشاسعة إلى أحضان روسيا. وتحدّث مسؤولون أمنيون من النيجر، والولايات المتحدة، وأوروبا، وغرب إفريقيا، وكذلك جنود النيجر، عن سلسلةٍ من الإخفاقات الفادحة غير المتوقعة، التي تُهدد اليوم بتحويل منطقة غرب إفريقيا إلى مسرحٍ لحرب إقليمية.
إذ فشلت الولايات المتحدة في التنبؤ بسابع انقلاب في المنطقة منذ 2020، بعد أن باغتها الانقلاب في النيجر، بينما مناصبها الدبلوماسية الرئيسية في إفريقيا شاغرة.
وبينما جلس بازوم في غرفته الآمنة لطلب المساعدة، عانت أمريكا مع حلفائها من أجل الاستجابة للصراع.
تصاعد الصراع إلى درجة تبادل التهديدات بالحرب بين الدول المدعومة من روسيا وبين الجيش النيجيري أكبر جيوش غرب إفريقيا، الذي يفترض أن يقود تجمع قوات الإيكواس.
واشنطن أنفقت 500 مليون على تدريب جيش النيجر، لكن قواته الخاصة اكتفت بتبادل الرسائل
أنفقت الولايات المتحدة أكثر من 500 مليون دولار على تسليح وتجهيز جيش النيجر، لكن القوات الخاصة النيجرية التي تدربت على كافة سيناريوهات مكافحة الإرهاب تقريباً لم يكن لديها حل لانقلاب يوم الأحد 30 يوليو/تموز. وجلست القوات لتبادل رسائل الدردشة على مجموعات واتساب، ومناقشة ما إذا كان يجب عليها التدخل أم لا.
يُذكر أن الولايات المتحدة وأوروبا حوّلتا النيجر إلى نقطةٍ محورية في المعركة ضد انتشار تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة في منطقة الساحل. وتمتلك دول الساحل أفقر سكان العالم وأسرعهم نمواً تحت إدارة أنظمةٍ فاشلة، بينما تأتي نصف ميزانية النيجر العامة تقريباً من المساعدة الخارجية.
وبالنسبة لمسؤولي الولايات المتحدة والبيت الأبيض، فقد قالوا إنهم لا يزالون يؤمنون بوجود فرصة ضئيلة للتوصل إلى حلٍ سلمي يُحافظ على ديمقراطية النيجر.
وصرّحت الولايات المتحدة، يوم الجمعة 4 أغسطس/آب، بأنها ستعلق بعض المساعدات الأجنبية لحكومة النيجر، لكنهم أوضحوا أن المساعدات الإنسانية والغذائية ستستمر.
لماذا وقع الانقلاب في النيجر؟ رداً على محاولة لتغيير قائد الحرس الرئاسي جرت بعلم أمريكا
بدأ الانقلاب بفكرة تغيير بعض المناصب التي درسها بازوم مع مساعديه طيلة أشهر، من أجل استبدال قائد الحرس الرئاسي الذي يتولى مهمة حراسة القائد الأعلى للقوات المسلحة في البلاد.
وكان ضباط الاستخبارات الأمريكية والفرنسية على علمٍ بخطة الرئيس لاستبدال حرسه الأمني منذ وقتٍ طويل، وما تنطوي عليه الخطوة من مخاطر؛ إذ شعر أفراد الحرس الرئاسي بالتهميش بعد تدفق مبالغ المساعدات العسكرية الطائلة على وحدات مكافحة الإرهاب في البلاد، وفقاً لمصدرين مطلعين على الوضع.
وحذرت المديرية العامة للأمن الخارجي (المخابرات الفرنسية) باريس من هذه المخاطر، لكن فرنسا والولايات المتحدة لم تتخذا أية خطوات كبيرة للدفاع عن حليفهما في نيامي، بحسب مسؤولين استخباراتيين من فرنسا وغرب إفريقيا.
انتُخِب بازوم عام 2021 في أول انتقال ديمقراطي للسلطة في تاريخ النيجر، واحتفت به واشنطن على اعتباره شريكاً يُعتمد عليه في مواجهة تهديد الهجمات الجهادية والنفوذ الروسي المتنامي.
وبعد أن تحول ولاء قادة الانقلاب في مالي وبوركينا فاسو المتجاورتين إلى روسيا، أوضح بازوم بما لا يدع مجالاً للشك أنه سيقف مع الولايات المتحدة.
ورأى فيه بعض قادة النيجر العسكريين شخصيةً دخيلةً من أصول عربية، بينما يهيمن على مناصب الجيش أبناء مجموعة الهوسا الإثنية، التي تمثل الأغلبية في النيجر.
وفي أبريل/نيسان، استبدل بازوم رئيس أركان الجيش وقائد الدرك الوطني، أملاً في تعيين ضباط موثوقين أكثر منهم في تلك المناصب، بحسب مسؤولين أمنيين من أوروبا وغرب إفريقيا. لكن تلك الخطوة أثارت الشكوك في صفوف حرسه الرئاسي. وفي 24 يوليو/تموز، أمر بازوم مساعديه بكتابة مسودة أمر رئاسي بإقالة قائد الحرس الرئاسي.
قائد الانقلاب حمى الرؤساء من الانقلابات!
يحمي قائد الانقلاب الجنرال عمر تشياني زعماء النيجر منذ 12 عاماً، ولديه وحدة نخبة تتألف من 700 جندي تدعمهم العربات المدرعة. وسبق لوحدة تشياني أن تصدت لمحاولة انقلاب ضد بازوم قبل أيام من تنصيبه. لكن حرس تشياني بدأوا في خسارة الموارد والمكانة بالتزامن مع بناء بازوم لقوات مكافحة الإرهاب في البلاد. ويدرس الرئيس فكرة إقالة الجنرال البالغ من العمر 57 عاماً منذ شهور، بحسب الأشخاص المطلعين على المسألة.
وربما أنفقت الولايات المتحدة مئات الملايين من الدولارات على تحويل النيجر إلى أكبر مركزٍ عسكري لها في الصحراء الكبرى، لكنها لا تمتلك سفيراً هناك. كما أن واشنطن ليس لديها سفراء إلى الاتحاد الإفريقي أو نيجيريا المجاورة، ولم تُعيِّن أحداً في منصب المبعوث الخاص الذي أنشأته للتعامل مع تدهور المنطقة.
واشنطن كان يمكنها إبلاغ رئيس النيجر بالخطر أو حتى تهريبه
وقال جاي بيتر فام، المبعوث الأمريكي الخاص السابق لمنطقة الساحل في عهد ترامب: "الأمر محبط للغاية. لم يحظ هذا الانقلاب بدعم شعبي واسع، بل تم بواسطة وحدةٍ لها مظالمها القائمة منذ سنوات، وكان علينا فعل المزيد من أجل التحرك". وأردف أنه "كان من الممكن تنظيم عملية تهريب الرئيس خارج البلاد بسهولةٍ نسبية في الساعات الأولى… لكن الفرصة الذهبية ضاعت".
وقد تواصل بازوم مع حلفائه في فرنسا، التي لديها نحو 1,500 جندي في البلاد. لكن القرار كان يجب أن يصدر من الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي كان مسافراً إلى منطقة جنوب المحيط الهادئ على بُعد 12 منطقة زمنية.
ويُمكن القول باختصارٍ إن تحرير بازوم كان يجب أن يأتي من دولةٍ خارجية.
وزير خارجية أمريكا كان مشغولاً بالتحريض ضد الصين، وفرنسا لا تريد إرسال قوات بمفردها
تحدث ماكرون إلى كبار مسؤوليه الدفاعيين والدبلوماسيين بمجرد هبوط طائرته في جزيرة كاليدونيا الجديدة، حيث استعرض مساعدوه الخيارات المتاحة لتحرير بازوم.
لكن الرئيس الفرنسي استبعد فكرة إرسال قوة أحادية من أجل حماية سلطة رئيس منتخب ديمقراطياً، كما فعلت فرنسا في ساحل العاج عام 2011. وأراد في المقابل مساعدة القوات المسلحة النيجرية التي لا تزال مواليةً لبازوم، لكن ذلك الخيار تبخّر مع تقبل القيادة العسكرية في البلاد لفكرة الانقلاب.
كما كان وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في زيارةٍ إلى منطقة جنوب المحيط الهادئ أيضاً، وذلك لتحذير شعب تونغا من أن الصين تمارس سياسات الإكراه الاقتصادي. وعندما حان وقت تواصل بلينكن مع بازوم، كان الانقلاب قد اكتمل بالفعل.
فتركا النيجر تسقط كثمرة ناضجة في يد روسيا
وبهذا وجدت روسيا نفسها في موقع مثالي لشغل الفراغ الناجم.
إذ بدأ فلاديمير بوتين في استقبال الزعماء الأفارقة المدعوين إلى القمة الروسية الإفريقية في سانت بطرسبرغ، التي انعقدت بعدها بيوم واحد.
وقد رفض بازوم دعوة بوتين للقمة، بينما حضر زعيما مالي وبوركينا فاسو، أسيمي غويتا وإبراهيم تراوري، الاجتماعات المنعقدة في أروقة قصر قسطنطين. وعندما بدأت تصلهم أخبار الانقلاب، التقى رؤساء مخابرات البلدين برعايةٍ روسية للاتفاق على استجابة منسقة.
ولم يبد المجلس العسكري رغبةً واضحة في الاتجاه إلى روسيا، حيث يضم المجلس بين صفوفه قيادات تلقت التدريب والمنح الأمريكية. وقد أخطر الجيش النيجري نظيره الأمريكي برغبته في الإبقاء على تدفق المساعدات الأمريكية، وفقاً لضباط في الجيش. لكن الكرملين وجد فرصته السانحة.
إذ يعمل مرتزقة يفغيني بريغوجين على حماية زعماء مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى. وقد عرض مساعدة الانقلابيين في النيجر، واحتفى بالإطاحة بالحكومة الموالية للولايات المتحدة.
نيجيريا تخشى امتداد سلسلة الانقلابات إليها
وأضحت المخاطر أكثر جديةً بالنسبة لجارة النيجر العملاقة في الجنوب، نيجيريا؛ إذ تخشى نيجيريا أن تؤدي سلسلة الانقلابات إلى الإطاحة بالمزيد من الحكومات المدنية.
وفي يوم الأحد، اجتمع رئيس نيجيريا الجديد بولا تينوبو مع رؤساء ووزراء خارجية 11 دولة غرب إفريقية، إلى جانب ممثلين عن حكومة بازوم.
وأصدر زعماء غرب إفريقيا إنذارهم النهائي بعد نهاية الاجتماع، والذي منحوا خلاله تشياني أسبوعاً واحداً لإعادة السلطة إلى الرئيس المنتخب ديمقراطياً، وإلا سيواجه احتمالية التدخل بقوات عسكرية.
وقال مسؤولون أمريكيون بارزون إن الخارجية الأمريكية لم تكن واثقةً من تأييدها للفكرة. لكن واشنطن أرادت إظهار دعمها لحكومات غرب إفريقيا، ولهذا أدلى بلينكن بتصريحات دعمٍ عام للفكرة التي تقودها نيجيريا.
واجتمع قادة الدفاع من دول غرب إفريقيا المعارضة للانقلاب في نيجيريا، بينما سافر نائب مستشار الأمن القومي جوناثان فاينر إلى أبوجا للقاء تينوبو، الذي قال إن الانقلاب يجب ألا يستمر.
واشنطن لا تثق بقدرة الجيش النيجيري على دحر الانقلاب
وفضلت إدارة بايدن سلك المسار الدبلوماسي، لكنها كانت تخشى أن المجلس العسكري ينوي إجبار نيجيريا على الوفاء بتهديد استخدام القوة العسكرية، وهي المخاوف التي أُثيرت خلال الاجتماع.
ولا يؤمن الكثيرون في واشنطن بقدرة الجيش النيجيري على إنجاح التدخل العسكري. بينما خلصت الولايات المتحدة إلى عدم وجود الكثير من الخيارات المتاحة في الوقت الراهن.
فيما أعلن المجلس العسكري أنه ألغى اتفاقيات التعاون العسكري مع فرنسا على التلفزيون الرسمي، وذلك في يوم الخميس 3 أغسطس/آب.