يبدو أن طبول الحرب على المياه على وشك أن تُقرع في آسيا الوسطى، لأسباب عديدة. ففي تركمانستان، تنقطع المياه عن صنابير المنازل، ويلتهم الجراد المحاصيل. أما كازاخستان، فأعلنت حالة الطوارئ بعد تناقص المياه في بحر قزوين [عذب المياه في أجزائه الشمالية] حتى كاد يتحول إلى بركة صغيرة.
وأدى إعلان "منظمة العمل الدولية" عن قضاء أوزباكستان على العمل بالسخرة في زراعة القطن -ومن ثم إلغاء المقاطعة الدولية التي كانت مفروضة على واردات القطن منها- إلى زيادة الطلب على محاصيل القطن التي تستنزف زراعتها مياه بحر آرال (بحيرة خوارزم).
واستأنفت حكومة أفغانستان حفر قناة كبرى لزيادة حصة أفغانستان من مياه نهر آموداريا، الذي تستفيد منه 5 دول في آسيا الوسطى. ووقع تبادل إطلاق النار بين أفغانستان وإيران على الحدود بينهما بسبب النزاع على تقاسم المياه.
لهذه الأسباب وغيرها، يخشى بعض الخبراء أن تكون الرصاصات الأولى في "حروب المياه"، التي لطالما تخوف الناس منها، قد انطلقت بالفعل في آسيا الوسطى.
مليارا شخص يعيشون على مياه الأنهار التي تنبع من هضبة التبت وهندو كوش
يقول تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية، إن معيشة ما يقرب من ملياري شخص تعتمد على الأنهار التي تنبع من هضبة التبت وجبال هندو كوش، المشرفة على جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق في آسيا الوسطى.
وقد أفضت العواقب الناجمة عن الإهمال طويل الأمد، وسوء الإدارة، والإفراط في استخدام الموارد المائية، والجفاف المُفسد للمراعي، إلى استنفار الحكومات أخيراً لإدراك حقيقة التغير المناخي، والتعامل مع تأثيراته. وفي هذا السياق، يُتوقع أن تحتل قضية المياه مكانة بارزة في النقاشات المنتظرة بين رؤساء أوزبكستان وطاجيكستان وتركمانستان خلال اللقاء السنوي لزعماء آسيا الوسطى في عشق آباد في أغسطس/آب 2023.
"حقل ألغام دبلوماسي"
يتفق خبراء المياه على أن نقص المياه خطر وجودي، وأنه لا مفر من التوافق على حلول جماعية للنجاة من هذا الخطر. ويستبشر بعض الخبراء بالسلام القائم بين دول آسيا الوسطى -كازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان- منذ تفكك الاتحاد السوفييتي، ويتخذونه دليلاً على إمكان التعاون بين هذه الدول. لكن خبراء آخرين، مثل عمير أحمد، مدير تحرير موقع Third Pole، وهي منصة معلومات معنية بشؤون المياه في جبال الهيمالايا، يرون أن الخلافات بشأن المياه "حقل ألغام دبلوماسي".
ويرى أحمد أن الصين يمكنها أن تستغل "منظمة شنغهاي للتعاون" لقيادة المنطقة إلى حلول أنجع لمشكلة نقص المياه. لكن بكين، وإن كانت هي القوة الدافعة لمنظمة شنغهاي للتعاون، فإن لديها مشكلاتها الخاصة في إدارة المياه، فضلاً عن أن مبادرة "الحزام والطريق" التي ترعاها لا تولي اهتماماً كبيراً بالمشروعات الخضراء المعنية بتوفير المياه وحسن استغلال مواردها.
من جهته، يقول أكرم عمروف، الأستاذ المساعد في جامعة الاقتصاد العالمي والدبلوماسية في العاصمة الأوزبكية طشقند، لمجلة فورين بوليسي الأمريكية، إنه لا سبيل لإعادة الازدهار إلى بحر آرال، الذي كان في يوم من الأيام أكبر بحر داخلي في العالم، وتتقاسمه أوزبكستان وكازاخستان، "فقد هلك بحر آرال، ولا أمل في إنقاذه".
"إنه سوء تدبير فادح في استخدام المياه"
تُستهلك المياه من نهر سيرداريا (سيحون) في الشمال وآموداريا (جيحون) في الجنوب لري المحاصيل الزراعية، وخاصة القطن، قبل الوصول إلى آرال. ومع ذلك، فإن أياً من دول المنطقة لم تستعن بوسائل فعالة لترشيد الاستخدام؛ والتنسيق محدود بين هيئات إدارة المياه؛ وقد غابت الطرق المنهجية لتنظيم شبكات المياه في الأنهار والبحيرات الصغيرة. وقد دعا ذلك عمروف إلى القول: "إنه سوء تدبير فادح في استخدام المياه، وإهدار هائل للمياه في المنطقة"، و"تُجرى محادثات كثيرة، ولكن لا يعقبها تنفيذ" لتدابير الحفاظ على المياه.
يرى أحمد أن آسيا الوسطى تعاني سوء إدارة المياه منذ زمن طويل، إذ "يعود الأمر إلى أيام [جوزيف] ستالين"، فقد "اعتمد التحديث السوفييتي على مشروعات التحفيز، ولم يستعينوا بالطرق التقليدية لإدارة المياه"، وإنما اختاروا المشروعات الضخمة التي تهتم بإبراز "قوة السياسات على حساب الطبيعة". وبعد الاستقلال، استولى الفاسدون على السلطة في آسيا الوسطى، وأساءوا التحكم في مواردها، لأن شاغلهم الأول هو "الثروة الشخصية والسلطة السياسية".
لا يقتصر الأمر على الاتحاد السوفييتي، فقد كانت السدود ضرورية في منتصف القرن العشرين لتعزيز الاندفاع نحو التحول الاقتصادي في الولايات المتحدة وغيرها. وأقامت الصين سدوداً كبرى على الأنهار المتدفقة من هضبة التبت أثناء نهضتها في العقود الماضية، وكان لذلك تداعيات كبيرة على الدول المجاورة التي تواجه الآن مصاعب جمة في التعامل مع آثار إزالة الغابات، وتلوث المياه، والفيضانات، والملوحة، والجفاف. وقال أحمد "إن المشكلة لا تنفك تتفاقم بسبب التغير المناخي، وأنماط التنمية والحوكمة" التي تفتقر إلى قواعد الترشيد في استهلاك الموارد.
قال عمروف إن الدول بدأت تستدعي اتفاقيات عابرة للحدود ولجان تعاون بين الدول يعود تاريخها إلى عقود مضت، وكانت تُحتضر منذ زمن طويل. ومن الأمثلة في هذا السياق: "الصندوق الدولي لإنقاذ بحر الآرال"، و"اللجنة المشتركة بين الدول المعنية بتنسيق المياه في آسيا الوسطى". ومن المتوقع أن تُبرم اتفاقات أخرى بعد ذلك.
وأشار عمروف إلى أن "إدراك مشكلة المياه جعلها إحدى القضايا المدرجة دائماً في برامج المفاوضات بين دول المنطقة". وبعض الدول مثل أفغانستان، التي تتشارك نهر آموداريا مع تركمانستان وأوزبكستان وطاجيكستان، أدركت حديثاً أن نقص المياه مشكلة كبرى، لا سيما وأن معظم سكانها يقطنون في الريف ويعتمدون على الزراعة.
معارك على المياه بين أفغانستان وإيران
على أثر ذلك، اهتمت حكومة طالبان في أفغانستان، الذي بات يسيطر على البلاد، بالقضية وجعلها في صدارة اهتمامه، وصارت وسائل الإعلام تقدم التقارير باستمرار عن بناء السدود، و"مشروعات توصيل المياه".
واندلعت معارك على حدود أفغانستان الغربية مع إيران في مايو/أيار، وأسفرت عن سقوط قتلى من الجانبين، بسبب النزاع على تقاسم المياه من نهر هلمند، الذي ينحدر من هندو كوش إلى شرق كابول، ويروي المزارع في جنوب أفغانستان، كما أنه لا غنى عنه لري الأراضي الزراعية في جنوب شرق إيران. وقال ناصر كنعاني، المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، يوم الإثنين، 31 يوليو/تموز، إن محادثات البلدين في هذا الشأن تشهد بعض التقدم.
لكن طالبان أثارت، من جهة أخرى، غضب جيرانها في آسيا الوسطى بعد أن مضت قدماً في حفر قناة "قوشتيبة" الضخمة شمالي البلاد، دون التشاور مع الدول المشاطئة، وتزعم تلك الدول أن عرض القناة كبير، وأنها قد تقلل من تدفق مياه نهر آموداريا إلى النصف. وتقول طالبان إن أفغانستان تحتاج إلى المياه لزراعة الأراضي الصحراوية في الشمال، لكن أوزباكستان تخشى أن يؤثر ذلك في إمدادات المياه الواردة إليها.
يأتي ذلك الاعتراض رغم أن مشروع القناة الأفغاني ليس مشروعاً جديداً، ولم تضع طالبان لبناته، بل بدأ المشروع في سبعينيات القرن الماضي، ثم توقف في أعقاب الاحتلال السوفيتي والحرب الأهلية، ثم عاد الحديث عنه أيام حكومة الرئيس السابق حامد كرزاي في ظل الاحتلال الأمريكي. مع ذلك، يرى إسكندر عبد اللهيف، أستاذ العلوم البيئية في مركز التنمية الدولية، أن أفغانستان تفتقر إلى أصحاب الخبرات الهندسية بعد 50 عاماً تواصلت فيها هجرة الكفاءات من البلاد.
ويزعم عبد اللهيف أن العمل بمشروع القناة الآن يجري "بلا تخطيط مناسب، ولا هندسة، ولا تنظيم، ولا عناية بالتدابير اللازمة للحيلولة دون تسرب المياه، لذا فإن نصف المياه، أو نحو ذلك، قد يُستخدم بالفعل في الإنتاج، لكن النصف الآخر سيُهدر في الصحراء".
وقال عبد اللهيف إن إصرار طالبان على المضي قدماً في المشروع "قد يجبر الدول القاحلة في آسيا الوسطى على تعزيز إجراءاتها لتوفير المياه. إذ لا توجد طريقة لإجبار [طالبان] على التوقف، فهم يحفرون القناة في أراضيهم. ويتدفق نهر أمو داريا إلى أفغانستان ويخرج منها" إلى بقية الدول المستفيدة منه.
مع ذلك، يرى عبد اللهيف، أنه "على الرغم من صعوبة التفاوض مع طالبان، فإن الأوان لم يفت بعد"، وما يحدث إنما هو مدعاة "لمزيد من التعاون الجاد بين آسيا الوسطى وأفغانستان بشأن قضايا المياه".