أرضٌ منازلها مصنوعة من القصب على شكل خلية نحل، مرتفعة على ركائز متينة فوق الماء… هكذا وصف المصريون القدماء "بلاد البونت" التي لا تزال تشكل واحداً من أبرز الأسرار التي خلفتها الحضارة المصرية، فعلى الرغم من الشروحات التي قدمها المصريون عن تلك البلاد التي سموها أيضاً "أرض الله"، لا يُعرف على وجه التحديد أين تقع تلك البلاد بالضبط أو من هم ساكنوها.
لغز بلاد البونت
اكتسبت "بلاد البونت" طابعاً خيالياً مع مر الزمن، فأصبحت شبيهة بـ"أتلانتس" المفقودة، فعلى الرغم من ذكر هذه البلاد في كثير من المخطوطات المصرية فإن موقعها الدقيق لا يزال مجهولاً على الرغم من وجود بعض التكهنات حوله.
تم تصوير شعب البونت في البداية، على أنهم أصحاب بشرة حمراء داكنة وشعر طويل، ولكن بحلول عهد الأسرة الثامنة عشرة، وُصف أهالي بلاد البونت بأنهم قصيرو الشعر. أما منازلهم فكانت مصنوعة من القصب، وقيل إنها اتخذت شكل خلايا النحل.
وعلى ما يبدو كانت هنالك علاقات تجارية بين شعب البونت والمصريين القدماء، وقد زار أهل تلك البلاد بلاط الفرعون في كثير من المرات.
ويرجع تاريخ البعثات التجارية التي أرسلها المصريون إلى البونت إلى الأسرة الخامسة على الأقل، في حين أن آخر سجل يتحدث عن تلك البعثات يعود إلى عهد الأسرة العشرين لرمسيس الثالث.
ويبدو أن البونت كانت بالفعل مركزاً تجارياً للبضائع الصادرة ليس فقط إلى مصر، ولكن إلى أماكن أخرى في إفريقيا كذلك.
حصل المصريون على البخور المعروف باسم antyu من بلاد البونت، والذي تم إنتاجه بكميات كبيرة هناك في منطقةٍ اسمها Utjenet (أرض الله)، وكذلك حصل المصريون من البونت على العاج والأبنوس والصمغ.
ومن تلك البلاد الغامضة، استورد المصريون أيضاً جلود الزرافات والفهود التي كان يرتديها كهنة المعابد، وأحياناً كانوا يستوردون الحيوانات الحية نفسها للتسلية أو لأغراض دينية.
على سبيل المثال، تم استيراد قرود البابون المقدسة من البونت.
ونظراً إلى أن البضائع التي استوردت من البونت كانت تستخدم من قبل الكهنة لتزيين المعابد، فقد عُرفت المنطقة بأنها "أرض الله"، وتحديداً كان يشار إليها على أنها حديقة للإله آمون.
وكتب على أحد اللوحات في المعبد الجنائزي لأمنحتب الثالث (من الأسرة الثامنة عشرة) خطاب ألقاه الإله آمون، جاء فيه:
"وجهت وجهي نحو شروق الشمس، خلقت لك العجائب، سخرت لك أراضي البونت، مع كل الزهور العطرة التي تحتويها".
رحلات المصريين إلى بلاد البونت
ويعتبر حجر باليرمو أقدم سجل موجود لرحلة إلى بلاد البونت والذي يعود تاريخه إلى الأسرة الخامسة في مصر. في وقت لاحق، خلال عهد الأسرة الحادية عشرة كتب عن رحلة إلى بلاد البونت أمر بها منتوحتب الثالث مع ثلاثة آلاف رجل نقلوا مواد لبناء السفن في مكان ما قرب البحر الأحمر.
ومن أجل نقل المواد اللازمة لبناء سفنهم تم استخدام الحمير، حيث لم تكن الجمال متوافرة إلا بعد غزو الفرس بعد ذلك بوقت طويل.
وقد كان منتوحتب الثالث أول حاكم في المملكة الوسطى نعرف أنه يرسل رحلة استكشافية إلى بلاد البونت، على الرغم من أن مثل هذه الحملات أصبحت أكثر تكراراً وشيوعاً خلال الأسرة الثانية عشرة.
وعلى الرغم من أننا لسنا متيقنين من الموقع الدقيق لبلاد البونت، فإننا نعرف كثيراً من الطرق التي تؤدي إلى تلك البلاد. فمن المؤكد، على سبيل المثال، أنه يمكن الوصول إليها عن طريق القوارب من البحر الأحمر. وفي عهد المملكة القديمة، كانت تلك الرحلة تتطلب عبور الصحراء شرق ممفيس إلى خليج السويس، أو الانطلاق من سيناء.
وقد ذُكر في أحد المخطوطات التي تعود إلى عهد الأسرة السادسة في مصر، أن رحلة استكشافية تعرضت لكمين بينما كانت متوجهة إلى بلاد البونت. وخلال المملكة الوسطى وبعد ذلك، كانت رحلة البحر الأحمر إلى البونت تنطلق عادةً عبر وادي الحمامات والقصير. في وقت لاحق، خلال عصر الدولة الحديثة في مصر، ربما كان المصريون يسافرون إلى تلك البلاد من ميناء في بيرينيك.
وحي "إلهي" يدعو لزيارة "أرض الله"
بعد تعليق التجارة بين مصر والبونت خلال الفترة الانتقالية الثانية، اقترح وحي من الإله آمون أشهر رحلة استكشافية إلى البونت. إذ وُجهت تعليمات إلى حتشبسوت، ملكة الأسرة الثامنة عشرة المعروفة، بتنظيم أول رحلة استكشافية واسعة النطاق إلى تلك الأرض، وجاء في نص تلك التعليمات وصفٌ لبلاد البونت على لسان الإله:
"إنها المنطقة المقدسة لأرض الله. إنه مكان إلهي. لقد صنعت ذلك المكان لنفسي من أجل تطهير روحي، مع والدتي، حتحور، سيدة البونت".
ويتضمن معبد حتشبسوت الجنائزي بالضفة الغربية في طيبة (الأقصر الحديثة) صوراً تفصيلية للبعثة على شرفتها الثانية، وضمن ذلك الرحلة البحرية وحتى الاستقبال الذي حظيت به البعثة من قبل ملك بلاد البونت.
ويُظهر هذا الرسم ملكاً ملتحياً، تصحبه ملكته المفرطة السمنة والتي تظهر عليها علامات مرض ديكروم، وكان لديها انحناء واضح في العمود الفقري.
وقد تمت الرحلة في صيف السنة الثامنة لحتشبسوت كملكة.
وقد تضمنت البعثة أسطولاً من خمس سفن تضم كل منها ثلاثين مجدفاً، وقد عاد هؤلاء من بلاد البونت بالعديد من العطور والمنتجات المستخدمة في مستحضرات التجميل وفي الاحتفالات الدينية، كذلك أحضروا معهم الحيوانات والنباتات الغريبة. وكتب عن هذه البعثة:
"تم تحميل السفن بأعاجيب بلاد البونت؛ جميع الأخشاب ذات الرائحة الجيدة من أرض الله، وأكوام من راتنج المر، وأشجار المر الطازجة، والأبنوس والعاج النقي، والذهب الأخضر من الإيمو، مع خشب القرفة وأنواع من البخور، ومستحضرات تجميل للعيون، مع القردة، والكلاب، وجلود النمر الجنوبي".
ويبدو أن أشجار المر ربما زرعت أمام معبد حتشبسوت الجنائزي، حيث لا تزال جذورها ظاهرة.
بلاد البونت لا تزال لغزاً حتى اليوم
على الرغم من كل المعلومات التي نقلها لنا المصريون عن بلاد البونت ورحلاتهم إليها وتعاملاتهم التجارية معها، لا تزال البونت لغزاً بالنسبة لنا حتى اليوم، لأننا لا نعرف بدقةٍ موقع هذه البلاد الفعلي.
وقد خمن العلماء أن البونت قد تكون بعيدة مثل الصومال أو اليمن أو حتى القرن الإفريقي. ومع ذلك، فإن العديد من علماء المصريات الحديثين يعتقدون أن البونت قد تكون أقرب بكثير من مصر.
علمنا أن بعض كنوز بونت نُقلت على اليابسة عن طريق "نماي وإريم" (أي السودان الحديث). كما دوّن المصريون أن بعض أطفال زعماء بونت نشأوا في البلاط المصري. لذلك، تم افتراض أن البونت لم تكن بعيدة جداً، ويرجح بعض العلماء أن هذه البلاد تقع على الساحل الشرقي لإفريقيا ربما في جنوب مصر فقط.
علاوة على ذلك، تشير المحاولات الحديثة لتصنيف النباتات والحيوانات إلى أن البونت ربما كانت موجودة في جنوب السودان أو المنطقة الإريترية في إثيوبيا. ومع ذلك، فإن هذا يعني أن البونت تقع إلى الشرق من النوبة، لكن لا يوجد دليل على صراع عسكري بين البونت ومصر كما كان بين مصر والنوبة.
حتى إن المرء يتساءل عما إذا كانت البونت بالفعل كياناً سياسياً فعلياً استمر وجوده عبر كل السنوات بين مملكتي مصر القديمة والحديثة، أم أنها كانت بالأحرى كياناً أوسع ربما شمل منطقة كبيرة إلى حد ما من شرق إفريقيا.