"بداخلي من الحب ما لم ترَه عين، وبداخلي من الغضب ما لا مهرب منه إذا انفجر.. إن خبا أحدهما فاضت نفسي بالآخر".
كلمات كتبتها "ماري شيلي" في روايتها "فرانكشتاين" في القرن الثامن عشر، كانت الرواية تعبيراً عما مرت به ماري في حياتها من تجارب متكررة مع الموت والميلاد، فقدت ماري أمها بعد ولادتها بشهر، ثم فقدت أطفالها صغاراً، واحداً تلو الآخر حتى بقي لها ابن واحد من أربعة أنجبتهم.
في الرواية قام فرانكشتاين، الشاب الطموح الباحث في أسرار الكون، بتكوين إنسان ضخم من أجزاء بشرية جمعها من المشارح والمستشفيات.
عندما نجح في بث الروح في ذلك الكائن الغريب، خلق وحشاً أفزع كل من رآه، فقوبل بالهجوم والسخرية أينما ذهب، يتخلى فرانكشتاين عن الكارثة التي خلقها، فيسيطر الغضب العارم على الوحش ويقتل شقيق فرانكشتاين، وعروسه، وأعز أصدقائه.
بحوار ثري عابر لحدود الزمان والمكان علمتنا ماري الأديبة أن الطموح الجامح قد يخلق وحشاً كاسراً، وأن عدم تحمل المسؤولية له ثمن باهظ، وأن كل أذى وراءه ألم خفي لم تتم معالجته أو قوبل بالتجاهل والتخلي، وأن شعور الإنسان بالوحدة والنبذ أصل الشرور، كل هذه المفاهيم وأكثر منها تتعلمها وتتسرب إلى روحك بقراءة الرواية.
إن كانت التكنولوجيا والعلم هما أساس التطور العملي، فالرواية والقصة هما أساس تطور روح الإنسان وطريقه لأن يكون أكثر فهماً لنفسه وغيره وأكثر استيعاباً للأمور المعقدة.
أثبتت رسوم فحص المخ في إحدى الدراسات التي تمت لقياس أثر قراءة الأدب على عقل الإنسان أن التغيرات التي تحدث في العقل عند قراءة مشهد أدبي تماثل تماماً ما يحدث إذا مر الإنسان بنفس الموقف في الواقع، أي أن قراءة الأدب بمثابة "محاكاة" للواقع تنمي مهارات الإنسان في التعامل معه، وتضيف إلى خبرات حياته خبرات عديدة لم يمر بها وربما استحال عليه أن يمر بها.
في مقال عن تطوير التعليم نشرته "الجمعية الكندية للتعليم" وهي من أعرق الجمعيات في مجالها؛ حيث أُسست عام 1891، يقول الدكتور جيري دايكي، الأستاذ بجامعة يورك بكندا: "لو أني أب فقير، لحثثت أبنائي على قراءة الأدب المناسب لأعمارهم، لو كنت مدرساً، لتدربت على الاستراتيجيات التي تجذب تلاميذي إلى قراءة الروايات الجيدة، والقصص القصيرة، والدراما، كنت سأفعل ذلك، سواءً كنت أُدرس للصف الأول الابتدائي أم أُدرس الفيزياء للصف الثالث الثانوي، فالتوجيه إلى قراءة الأدب أهم ما يمكن أن أهبه للطالب خاصة إذا كان ولداً".
المقال جدير بالقراءة كاملاً، به نتائج عدة دراسات وأبحاث تربط بين قراءة الأدب ونجاح الإنسان عموماً في حياته، خاصة بتنمية مهاراته في فهم الآخرين والتعامل الرحيم معهم.
ومن أغرب النتائج فيه أن درجة الاهتمام بالأدب في الصغر تُعد من أفضل المؤشرات على مدى نجاح الإنسان في المستقبل في مناحي الحياة المختلفة، فللأدب أثر مباشر على قرارات الحياة المصيرية من اختيار الإنسان لوظيفته إلى اختياره شريك حياته.
جامعة ساسكتشوان الكندية خصصت عدداً كاملاً من درويتها "الأستاذ الناجح" لمناقشة أهمية اطّلاع المتخصصين في التخصصات العلمية والتكنولوجية على الأدب، ودوره المهم في إكساب الطلبة مهارات التواصل، والمساعدة في تخريج المدير أو القائد "الإنسان".
لا عجب أن تكون كندا من أكثر الدول تقبلاً للآخر المختلف، فالقائمون على التعليم فيها قد أعلوا من شأن الأدب حتى بين دارسي التخصصات العلمية، كما أوضحت فيما سبق.
ليس غريباً أن رئيس وزرائها "جاستن ترودو" الذي لفت الأنظار إليه بمواقفه الإنسانية من أزمة اللاجئين وغيرها، أولى درجاته العلمية التي حصل عليها كانت في الآداب، وليست صدفة أن أول مرة لفت فيها أنظار العامة كانت عقب رثائه لأبيه بخطبة أدبية مست القلوب؛ حيث تلقت هيئة الإذاعة الكندية في ذلك اليوم سيلاً من المكالمات تطلب إعادة بث الخطبة، ونشر نص هذه الخطبة ضمن كتاب "أهم الأحداث الكندية في الخمسين عاماً الماضية".
نجح نظام التعليم الكندي في أن يُخرِج "القائد الإنسان" دارس الأدب الذي يمكنه "تخيل مشاعر" الآخرين ومواساتهم، كما توصي جامعاتها وينصح أساتذتها.
الأمر لا يقتصر على كندا، ففي يناير/كانون الثاني الماضي عُقِد مؤتمر "الطب والأدب" الذي يرعاه الدكتور جون هاربر، وهو طبيب يملك ذائقة أدبية ويمارس الطب والتدريس لطلبته معتنقاً فكرة أن للأدب دوراً مؤثراً في أداء الطبيب لعمله على أكمل وجه؛ حيث ينمي في نفسه التفهم لمشاعر المريض والرأفة به، لا تقتصر محاضرات الدكتور جون هاربر في الطب على المواد العلمية الطبية؛ حيث يقرأ على طلبته القصص القصيرة، كما يستخدم الموسيقى في كثير من محاضراته.
الأدب متعة وتسلية وقد يكون هو البداية لأن تجذب صغيرك إلى عالم القراءة اللامحدود، وكونه متعة لا يعني أنه وقت مهدر أو ضائع، فهو من وسائل تنمية التفكير النقدي، بقراءة الرواية أو القصة يضع القارئ نفسه مكان الشخصيات المختلفة، يفكر في ظروفها وما يحيط بها من أحداث، ويقيم قراراتها ويتنبأ بنتائجها، فينمي بذلك قدرته على تحليل المعلومات والمقارنة واتخاذ القرار.
وقد تكون الرواية أو القصة مجالاً للتعرف على ثقافات أخرى، مستوى اجتماعي آخر، بيئة أخرى تماماً، وجهات نظر متباينة في موضوعات حساسة أو جدلية مما يفتح للقارئ باباً آمناً للتفكير فيها ومعايشتها دون ضغوط هذا الجدل أو اللغط في الواقع.
بصفة عامة الأدب يعرفنا بما يدور في نفوس الآخرين الذين قد يشبهوننا، فنفهم أنفسنا أكثر، أو يختلفون عنا في طباعهم وأولوياتهم فلا نحيا كحمقى نتوهم أن العالم كله على شاكلتنا، أو يجب أن يكون على شاكلتنا، أو نظن أن طباعنا هي "الصواب" وما يخالفها "خطأ" أو غير موجود.
سبق الأديبُ العالِمَ، فماري شيلي الأديبة سبقت بخيالها علم الهندسة الوراثية بعقود، وليست تلك أول ولا آخر مرة ينير فيها الأدب الطريق للعلم، ويحاول تهذيب طموحه وتبصيره بالعواقب.
العاِلم ربما له عقل أذكى، لكن دون قلب فيه من الحكمة والرحمة ما يكافئ العقل يجلب الإنسان التعاسة والدمار على نفسه.
وإن كان العلم هو عقل الإنسانية، فالأدب هو روحها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.